بوتين في كوريا الشمالية وفيتنام .. فتح جبهة جديدة للصراع مع الغرب
تحليل: د. نبيل رشوان
ربما كان مؤتمر السلام الذي انعقد مؤخراً في سويسرا أحد أسباب قيام الرئيس الروسي بوتين بزيارة الحلفاء القدامى للاتحاد السوفيتي بعد أن تباهت أوكرانيا بعقدها لمؤتمر سويسرا، على الرغم من أن حتى الدولة المضيفة أعلنت أنها لا تجد فائدة من المؤتمر إلا بوجود روسيا، فكلا البلدين (كوريا الشمالية وفيتنام) له تاريخ طويل مع الاتحاد السوفيتي، ففي حالة كوريا الشمالية قاتل الجيش السوفيتي، قوات الأمم المتحدة وعلى رأسها قوات أمريكية وتركيا وعدد من حلفاء واشنطن، أستمرت الحرب بين شمال كوريا وجنوبها من 1950 إلى 1953، بدأت الحرب في 25 يونيو عام 1950 عندما اجتاحت قوات كوريا الشمالية أراضي جارتها الجنوبية بعد صدام مسلح على الحدود وانتفاضة في الجنوب، كان يدعم كوريا الشمالية في ذلك الوقت كل من الصين والاتحاد السوفيتي، أما الشطر الجنوبي فقد كان مدعوماً من الولايات المتحدة وحلفاءها.
كانت كوريا قبل ذلك مستعمرة يابانية منذ 1910 ولمدة 35 عام، وانتهى الاحتلال الياباني بعد استسلام اليابان في الحرب العالمية الثانية في أغسطس 1945. قسمت الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي كوريا إلى جزءين عبر خط العرض 38. كان الاتحاد السوفيتي يدير الجزء الشمالي بينما الولايات المتحدة تحكم الجزء الجنوبي. لكن في عام 1948 ونتيجة تصاعد التوتر الناجم عن الحرب الباردة بين القوتين العظميين، أصبحت المناطق الكورية المحتلة من الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي دولتين ذات سيادة. أنشئت جمهورية كوريا الديموقراطية الشعبية في الشمال، تحت قيادة الزعيم كيم إل سونج، وفي الجنوب دولة رأسمالية باسم جمهورية كوريا، تحت قيادة نظام استبدادي بزعامة لي سين مانا. وكان كل منهما يعتبر نفسه الحكومة الشرعية الممثلة لكل كوريا، ولم تعترف أي من الكوريتين بالحدود بينهما على أنها حدود ثابتة حتى الآن ولم تنته حالة الحرب بينهما وما هم فيه الآن هو مجرد هدنة.
قامت كوريا الشمالية بجيشها الشعبي باجتياح الجزء الجنوبي، ولم يوافق الزعيم السوفيتي ستالين حينها على ذلك إلا بعد التشاور مع ماو تسي تونج في الصين. أدان مجلس الأمن الدولي تصرف الجزء الشمالي من كوريا، وأصدر قرار بتكوين قوات دولية وإرسالها إلى كوريا لصد الاجتياح الشمالي. الاتحاد السوفيتي قاطع الأمم المتحدة بسبب اعتراف المنظمة الدولية بتايوان كممثل للشعب الصيني في الأمم المتحدة والصين أصبحت خارج المنظمة الدولية، بدلاً منها تايوان، ولذلك لم يتمكن لا الاتحاد السوفيتي ولا الصين من دعم حليفتهم كوريا الشمالية في مجلس الأمن حينها. كانت النتيجة قرار بمشاركة 21 دولة بقوات لصد الهجوم الكوري الشمالي، ساهمت واشنطن وحدها بحوالي 90% من هذه القوات.
بعد شهرين من الحرب وجد الأمريكيون وحلفاءهم الجنوبيون أنفسهم على وشك أن يمنوا بهزيمة ساحقة، لكن في ديسمبر 1950 حدثت عملية إنزال ضخمة قامت بهجوم مضاد لما كان يسمى حينها قوات الأمم المتحدة، وتحركت إلى الشمال في شهر أكتوبر 1950، لكن القوات الصينية تدخلت في الوقت المناسب لأسباب جغرافية مما أدى لتراجع قوات الأمم المتحدة. استمر الوضع هكذا بين كر وفر لدرجة أن سيول عاصمة الجنوب تم السيطرة عليها أربع مرات، إلى أن عقدت الهدنة وليس إنهاء حالة الحرب، ومازال الزعيم الكوري الحالى حفيد كيم إيل سونج يريد توحيد شبه الجزيرةالكورية بقوة السلاح.
لكن ليس هذا هو الهدف من التقرير، وإن كانت اللمحة التاريخية مهمة، الأهم في الوقت الراهن أن كوريا الشمالية تعاني من عقوبات دولية مفروضة عليها منذ أكثر من عشرين عاماً، وبيونج يانج لم تتخذ موقف محايد فيما يتعلق بالعملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، وأيدتها من أول يوم نظراً للعداء بينها وبين واشنطن التي تدعم أوكرانيا وترفع راية العقوبات ضد كوريا الشمالية، انتعشت العلاقات بين روسيا وكوريا الشمالية عندما زار زعيم الأخيرة روسيا منذ عدة أشهر واطلع على بعض الإنجازات الروسية في مجال الفضاء والأقمار الصناعية وغيرها من الأمور التقنية.
وكوريا الشمالية التي تعيش عزلة خانقة نتيجة العقوبات المفروضه عليها من الأمم المتحدة بسبب برنامجها النووي جاءتها الفرصة عندما أيدت العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا باعتبارها ضد الغرب الذي يسعى للهيمنة. والغريب أن روسيا لم تعترض على فرض عقوبات على كوريا الشماليةحين صوت مجلس الأمن لفرضها، ولذلك أثناء الزيارة طالب الرئيس بوتين بإعادة النظر في العقوبات الغير عادلة المفروضة على كوريا الشمالية، ووقع مع الزعيم الكوري الشمالي اتفاقية شراكة استراتيجية، وصفها الزعيم الكوري بأنه مهمة جداً وتاريخية، وهذه الاتفاقية في تقدير الخبراء ستعطي تصدير سواء سلاح أو ذخيرة لروسيا شرعية فالاتفاقية تنص على أنه في حال تعرض أي من طرفيها للعدوان يجب على الطرف الآخر إمداده بالسلاح وأشياء اخرى، ولم تفضح الاتفاقية عن ماهية الأشياء الأخرى هل جنود أم غير ذلك لا أحد يدري، أخر اتفاقية من هذا النوع وقعت بين الطرفين كانت عام 1961، وتوجد كذلك معاهد صداقة وحسن الجوار وتعاون بين البلدين. الجانب الكوري الشمالي في اعتقاد الخبراء مهتم بإمداد كوريا بالمحروقات والأغذية والاتفاق على أفواج سياحية روسية، بينما تحدث البعض عن قوى عاملة خاصة في مجال البناء وذلك لتعويض القوى العاملة الروسية التي تقاتل في أوكرانيا وإحلالها محل العاملين من وسط آسيا، الذين بدأت السلطات الروسية تضيق عليهم الخناق بعد الحادث الإرهابي الذي وقع في إحدى ضواحي موسكو، واتهم فيه بعض مواطني طاجيكستان. تعتبر زيارة الرئيس الروسي هي الأولى منذ 24 عاماً وكان أخر مرة زار فيها الرئيس الروسي كوريا الشمالية عام 2000، في السلطة حينها في كوريا الشمالية كان والد الزعيم الحالي كيم جونج إل. بالإضافة إلى أن الزعيم كيم زار روسيا منذ فترة قصيرة وربما كانت زيارة الرئيس بوتين رداً على زيارة الزعيم كيم.
لكن الأهم في اتفاقية الشراكة الاستراتيجية، إذا أخذنا في الاعتبار العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، فإن الطرفين قد يسمحا بتطور العلاقات العسكرية بينهما لأبعد مما هو معلن. ووصف الزعيم الكوري الشمالي زيارة الرئيس بوتين بأنها بداية مرحلة جديدة في العلاقات بين البلدين وقال إن “شعلة صداقة بيونج يانج وموسكو” ستصبح أقوى. ووصف زعيم كوريا الشمالية روسيا بأنها “أشرف صديق لكوريا الشمالية” ووصف الرئيس بوتين بأنه “أغلى صديق للشعب الكوري”.
من المعروف أن كوريا الشمالية مرتبطة اقتصادياً بالصين بدرجة كبيرة، حيث يعمل كثير من الكوريين في الصين ويحولون أموالهم بطريقة خاصة بعيدة عن البنوك، كما أن المنتجات الكورية الشمالية يتم تصديرها على أنها بضاعة صينية لدول عديدة في العالم، وكان الرئيس الروسي قد صرح بأن حجم التبادل التجاري بين روسيا وكوريا الشمالية قد ارتفع في 9 مرات في الخمسة أشهر الأولى من العام الحالي. من المعروف أن حجم التبادل التجاري بين روسيا وكوريا الشمالية عام 2020 قد وصل إلى أكثر من 47 مليون دولار وهو مبلغ ليس كبيراً بالنسبة لقوة العلاقة الحالية بين البلدين. من ناحية أخرى يبدو أن زيارة الرئيس الروسي لكوريا الشمالية أغضبت الجارة كوريا الجنوبية، التي أعلنت أنها رصدت تصدير حوالي 5 مليون طلقة مدفعية تم تصديرها من جارتها الشمالية إلى روسيا، وصرح مسئولون كوريون أنهم يفكرون في إرسال دعم عسكري لأوكرانيا رداً على الدعم الكوري الشمالي لروسيا عسكرياً ودعم روسيا لبيونج يانج تقنياً، من الواضح أن الزيارة لن تمر دون تأثير على علاقات كوريا الشمالية بكل من الصين وكوريا الجنوبية واليابان التي قد تتخذ موقف مناوئ لروسيا في النزاع مع أوكرانيا. والأدهى أن كوريا الجنوبية واليابان وذلك بعد تزايد التجارب الصاروخية الكورية الشمالية، أعلنتا أنهما في حال عدم حث كوريا الشمالية على التوقف عن التجارب النووية فهما من حقهما أيضاً أن تقومان بتصنيع سلاح نووي وهذا الأمر سيزعج الصين بلا شك، وسيجعلها تتوجس من تزايد التعاون العلمي والتقني لكوريا الشمالية مع روسيا، من جانبه قال المتحدث باسم البيت الأبيض جون كيربي مؤكدًا لهذه الفرضية عن قال إن الصين يجب أن تقلق من اتفاق الشراكة الاستراتيجية بين روسيا وكوريا الشمالية. الخبراء يتحدثون دائماً عن أن الدائم في السياسة فقط هي المصالح، وليس من مصلحة لا الصين ولا روسيا وجود قوة نووية على حدودهما الشرقية متمثلة في كوريا الشمالية،وماذا إذا قررت نفس الشئ كوريا الجنوبية واليابان، ربما هذا قد يحفز بكين للضغط على الزعيم كيم جونج أون لوقف أنشطته النووية رغم أنه يمثل ضغط على حليفين كبيرين للولايات المتحدة (اليابان وكوريا الجنوبية)، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى هو لا ترغب الصين في وجود القوات الأمريكية سواء في اليابان أو كوريا الجنوبية، من جانبها أعلنت اليابان على أثر زيارة الرئيس بوتين لبيونج يانج تشديد العقوبات على روسيا، فيما حذرت روسيا سيول من أمداد أوكرانيا بالسلاح، والأمور تشير إلى تصعيد في أقصى الشرق.
زيارة الرئيس الروسي لفيتنام جاءت في إطار العلاقات الودية التاريخية التي تربط جمهورية فيتنام الاشتراكية بروسيا منذ أيام الاتحاد السوفيتي، وكلنا يعرف أنها شهدت واحدة من أشرس الحروب في فترة الحرب الباردة، الاتحاد السوفيتي الذي يسيطر على المنطقة المركزية في أورآسيا، وكل توسعاته كانت في اليابسة، قام بمساندة فيتنام دفاعاً وربما وصولاً لمنطقة المحيط الهادي الدافئة حينها، ساند السوفيت فيتنام بقوة فقد كان يصلها قطار محملاً بالمعونات العسكرية والإنسانية كل 24 ساعة إلى أن انتهت الحرب بانتصار فيتنام على الولايات المتحدة، إضافة لهذا تقريباً جميع الكوادر العلمية والمهنية الفيتنامية تخرجت في روسيا أو الاتحاد السوفيتي السابق وهذا ربما سر التركيز على التعليم والتعاون العلمي في الاتفاقيات التي وقعت في هانوي. ورغم تحول فيتنام للنموذج الصيني من الحكم، ومدت جسور الصداقة والتعاون مع عدو الأمس في واشنطن ليصل حجم التبادل التجاري بين البلدين حوالي 111 مليار ولار سنوياً، والغريب أن الدولة الثانية التي حاربتها فيتنام كانت الصين وبلغ حجم التبادل التجاري معها 117 مليار دولار، بينما توقف التبادل التجاري مع روسيا عند 5 مليار دولار وظل منحصراً في السلاح فقط تقريباً، بحلول العام الجاري وعلى الرغم من توقعات روسيا بزيادته خلال الفترة القادمة، لكنه مازال دون المستوى بالقياس للعلاقات التاريخية.
في فيتنام استقبل الرئيس بوتين استقبالاً حافلاً للغاية، خاصة وأن فيتنام تتخذ في الأزمة الأوكرانية الروسية موقف يمكن وصفه بالبراجماتي فهى لا تؤيد أي طرف من طرفي النزاع،ولم تعلن عن تعاطفها مع أي طرف، وربما لهذا السبب تحدث الرئيس بوتين، في فيتنام، عن الأزمة الأوكرانية بانفتاح أكثر منه في كوريا الشمالية التي يؤيد زعيمها الموقف الروسي على طول الخط، في فيتنام أطلق الرئيس بوتين لنفسه العنان عندما تحدث عن أنه لن يسحب قواته من أوكرانيا أبداً وفسر ذلك بأن القيادة الأوكرانية الحالية غير شرعية وليس من مصلحتها التفاوض، ومن ثم فإنها ستبقي حالة الحرب الحالية لأنها تريد أن تبقى في السلطة واستند في ذلك بتفسير القانونيين الروس، على حد قوله، والذين قالوا إنه لا يوجد في الدستور الأوكراني ما يسمى بحالة الحرب التي تسمح للرئيس الأوكراني بعدم إجراء انتخابات رئاسية بعد انتهاء فترة رئاسته، تحدث كذلك عن احتمال تغيير العقيدة النووية الروسية وقال لن نقوم بدولة وقائية وسنقصر الأمر على الرد على أي عدوان نووي، ولدينا القدرة على الرد، وتوعد باستخدام السلاح النووي في حال انتصار وكرانيا لكنه عاد وقال إن لا يرى مثل هذا التصعيد حالياً.
المحصلة النهائية لزيارة الرئيس بوتين لفيتنام هي توقيع عدد من الاتفاقيات التي من الممكن أن تنشط المجالات الرئيسية للاقتصاد، واتفق الرئيسان على أن البلدين لن يدخلا في أي تحالف ضد بعضهما البعض. وتحاول روسيا في الوقت الحالي كسر الحصار الغربي المفروض عليها من خلال العقوبات، والأهم من هذا هو لجؤ روسيا للعلاقات الاستراتيجية التي كانت أثناء الاتحاد السوفيتي مثل فيتنام وكوريا الشمالية، لكن على أي حال وفي اعتقادي روسيا تحاول بقدر المستطاع عدم المساس بالحليف الكبير في بكين (تبادل تجاري قارب 200 مليار دولار)، وهو له ما له مع فيتنام فقد وصلت الأمور لنشوب حرب بينهما، لكن القيادة القيتنامية الحكيمة استطاعت تحويل النزاعات مع واشنطن وبكين إلى علاقات تجارية قيمتها 228 مليار دولار.
ولعل أهم الاتفاقيات التي تم توقيعها كانت ممثلة في التعاون التقني ومجال التعليم حيث تعتبر القاعدة العلمية والتعليمية الفيتنامية من نتاج الاتحاد السوفيتي وروسيا، لقد استفادت فيتنام من التعاون العلمي والتقني مع روسيا بدرجة كبيرة في الماضي وتسعى لاستمراره، وهناك عنصر لم يلتفت إليه أحد وهو الأيدي العاملة الفيتنامية الرخيصة التي عملت في الاتحاد السوفيتي وأعتقد أن هذا الأمر قد يتكرر من جديد في الفترة الحالية مع قيتنام المعاصرة حيث تعاني روسيا من نقص في الأيدي العاملة. لكن الذي لا شك فيه أن زيارة الرئيس بوتين لكوريا الشمالية على وجه التحديد ستفتح جبهة جديدة من الصراع بين روسيا والغرب هذه المرة ستكون ساحتها شرق آسيا والمحيط الهادي.