مقالات

مبادرة حياة كريمة الثقافية

لاشك أن اهتمام الدولة بتطوير البنية الأساسية وتوفير جميع الخدمات اللازمة لقطاعات كبيرة من الجماهير يعد نقلة نوعية غير مسبوقة فى التنمية المستدامة، خاصة أن ذلك يتم فى إطار مبادرة تهدف إلى التخفيف عن كاهل المواطنين بالمجتمعات الأكثر احتياجا فى الريف والمناطق العشوائية فى الحضر، وتعتمد على تنفيذ مجموعة من الأنشطة الخدمية والتنموية التى من شأنها ضمان (حياة كريمة) لتلك الفئة وتحسين ظروف معيشتهم.

لكن أن يترافق ذلك مع أنشطة ثقافية وفنية مختلفة فى محافظات الصعيد والوجه البحرى فهو أمر يستحق التوقف عنده ومتابعته بدقة شديدة، فقد ظللنا لسنوات طويلة ننادى بضرورة إعادة إحياء نشاط الثقافة الجماهيرية بالتعاون مع كل أجهزة وزارة الثقافة وغيرها من الجهات المعنية، للوصول إلى أهلنا فى نجوع وقرى مصر من أسوان إلى مطروح، فمواجهة ثقافات التطرف المختلفة التى تستهدف شبابنا، خاصة فى المناطق البعيدة عن العاصمة والمدن الكبرى مثل التطرف الفكرى والدينى والثأر وتعاطى المخدرات واعتبار حمل السلاح جزءا لا يتجزأ من شخصية الفرد وقيمته الاجتماعية، لن يتم سوى بنشر ثقافات إيجابية تخاطب العقل والوجدان معا، عبر الأنشطة الثقافية والفنية المتعددة، التى ستتيح أيضا اكتشاف مبدعين جدد لم ينتبه لهم أحد فى تلك المحافظات. ونتذكر هنا تصريحات المبدع الكبير الموسيقار عمر خيرت فى ندوته بالأهرام منذ عدة أعوام والتى قال فيها: إن للفنون قوة وتأثيرا فى تقويم السلوك البشرى، فلا يمكن أن نرى من يحمل آلة موسيقية أو محبا للفنون يحمل سلاحا، كما لا ننسى عشرات الأفلام والمسلسلات التى اقتحمت مشكلة التطرف والإرهاب وواجهتها بشجاعة، وتأكيد كل الخبراء على أن وجود مكتبة عامة فى أى قرية كفيل بالحد من ثقافات التطرف المختلفة، ويزداد الأمر أهمية بالوصول إلى عقل ووجدان الجماهير مباشرة عبر نقل الحفلات الفنية والعروض المسرحية والموسيقية والأمسيات الشعرية والندوات الفكرية والأدبية إلى التجمعات الجماهيرية فى القرى والمحافظات البعيدة، التى نسيناها لسنوات طويلة وتركها فريسة للإهمال والتطرف والعادات الاجتماعية السلبية.

وقد تعرضت وزارة الثقافة والأجهزة المعنية لانتقادات كثيرة فى السنوات الماضية، بسبب عدم قيامها بهذا الدور الثقافى والفنى المهم فى قلب القرى والنجوع، لكن ما تقوم به الوزارة الآن بإشراف مباشر من الفنانة إيناس عبد الدايم من أنشطة متعددة فى إطار مبادرة حياة كريمة الثقافية يستحق اهتماما إعلاميا أكبر، فإذا كانت مشروعات حياة كريمة الأساسية تعمل على تطوير عناصر البيئة والبنية الأساسية لتوفير الخدمات للمواطنين، فإن أنشطة حياة كريمة الثقافية تستهدف البشر أنفسهم وتعيد صياغة سلوكياتهم عبر التأثير فى وجدانهم وعقولهم بالكلمة والجملة الموسيقية والبهجة والمتعة.

إن هذه الأنشطة المهمة بدأت منذ العام الماضى بمسرح المواجهة والتجوال الذى قدم عروضا مسرحية متنوعة فى قلب القرى والنجوع وداخل مناطق لم تصل إليها فرق مسرحية من قبل، من حلايب وشلاتين إلى سيناء، واتجهت الفرقة إلى مختلف الفئات والأماكن مثل أطفال الشوارع، ودور الأيتام والمسنين، ومراكز الشباب والمدارس وأجران القمح والساحات الشعبية، واستطاعت الوصول إلى أكثر من 6 ملايين مواطن، وتحمل عبء هذا العمل المهم فنانو البيت الفنى للمسرح وشاركهم نجوم كبار مثل الفنان سامح حسين، وسط إقبال جماهيرى وتفاعل كبير وصفته وزيرة الثقافة بأنه مؤشر واضح بأننا نسير على الطريق الصحيح فيما يتعلق بمحاربة الأفكار الظلامية بالفن والإبداع، من خلال العروض التى تستهدف تعزيز الهوية المصرية ودعم الدور الثقافى بالمحافظات، وتحقيق العدالة من خلال الوصول بالمنتج الإبداعى إلى جميع أنحاء البلاد. إلى جانب مئات الأنشطة الأخرى مثل الحفلات الفنية التى أقيمت فى قلب الصعيد منذ أيام قليلة ووسط الجماهير مباشرة للفنانين على الحجار ومدحت صالح وهشام عباس وفرقة عمرو سليم فى أول مهرجان للموسيقى والغناء يقام بمحافظة أسيوط، ومهرجان دندرة بقنا الذى شارك فيه هانى شاكر وريهام عبد الحكيم وغيرهما من الفنانين، ورافقه افتتاح معرض قنا للكتاب.

اما الثقافة الجماهيرية برئاسة الفنان هشام عطوة فإنها تلعب دور رأس الحربة فى هذه المبادرة من خلال مئات القوافل الثقافية والفنية التى انتشرت فى مختلف المحافظات، بأنشطة متعددة مثل ورش الحكى واكتشاف المواهب وتعليم أساسيات الخط العربى والرسم على الزجاج والعرائس، وفرق الموسيقى العربية، والآلات الشعبية، وعروض الأفلام الوثائقية والعامة، ومسابقات الشعر والأدب لاكتشاف الموهوبين. هذه الحرب الثقافية التى تجرى الآن بمحافظات كثيرة فى مواجهة ثقافة التخلف والتطرف ونوازع الانحراف، والتى تأتى فى إطار رؤية وزارة الثقافة القائمة على تأسيس منظومة قيم ثقافية إيجابية فى المجتمع المصري٬ تحترم التنوع والاختلاف وتمكين الإنسان المصرى من الوصول إلى وسائل اكتساب المعرفة٬ وفتح الآفاق أمامه للتفاعل مع معطيات عالمه المعاصر٬ وإدراك تاريخه وتراثه الحضارى المصري٬ وإكسابه القدرة على الاختيار الحر وتأمين حقه فى ممارسة الثقافة وإنتاجها. وأن تكون الثقافة مصدر قوة لتحقيق التنمية وقيمة مضافة للاقتصاد القومى وأساسا لقوة مصر الناعمة إقليميا ودوليا، تتطلب مشاركة من كل الهيئات التى لها علاقة بالإنسان المصرى. فالظروف التى نمر بها الآن لا تعنى أجهزة وزارة الثقافة فقط، بل تتماس وبقوة مع علماء الدين والاجتماع والرياضة وأساتذة الجامعات ومنظمات المجتمع المدنى وغيرهم، لذلك فإننا ننتظر مشاركة قوية من الأزهر والكنيسة والجامعات والنقابات خاصة اتحاد النقابات الفنية، فلابد من مشاركة كل رموز المجتمع الفنية والثقافية والعلمية والدينية، لننتصر فى معركة الوعى ونهزم التخلف والتطرف بجميع أشكاله.

بقلم: فتحي محمود

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى