الاخبار الرئيسيةمقالات

المشهد السياسي التركي بعد شهرين من نتائج البلديات

تحليل: محمد حسن عامر

يشهد الوضع السياسي الداخلي في تركيا تغيرات دراماتيكية ومفصلية خلال الفترة الماضية تكاد تعصف بمستقبل حزب العدالة والتنمية والرئيس رجب طيب أردوغان، خصوصًا مع الخسارة المريرة للانتخابات البلدية التي عقدت في 31 مارس/آذار الماضي، والتي أتت بالتزامن مع الأحداث المشتعلة في غزة على نحو جعل التحليلات قاصرة على نتائج تلك الانتخابات ومنشغلة عن قراءة أوسع وأكثر عمقًا لما يجري بهذه الدولة ذات التأثير الكبير في الشرق الأوسط إن كان بالسلب أو الإيجاب.

والأمر لا يقتصر على فكرة خسارة الانتخابات البلدية بقدر ما أن هذه الأخيرة تأتي لإضافة مسمار جديد في نعش السقوط التدريجي لحزب العدالة والتتنمية الذي يحكم تركيا منذ بدايات الألفية الجديدة، مع تراجع الممارسة الديمقراطية إلى نحو يدفع تقارير حقوقية لوصف تركيا بالسجن الكبير، والأزمات الاقتصادية الطاحنة التي جعلت الحزب يفقد أهم أسلحته التقليدية، ونشأة جيل انتخابي جديد قوامه من كانوا أطفالًا عندما وصل أردوغان إلى السلطة واليوم هم أصحاب القرار بدرجة ما عبر صناديق الاقتراع.

وتتضح حالة الحزب المتهاوية من إقرار أردوغان على غير المتوقع بالهزيمة عقب الانتخابات البلدية، وتجنبه المكابرة أو محاولة الطعن والتشكيك في المعارضة، وقد رافق ذلك بروباجندا لا سيما في الإعلام الحكومي عن احترام الديمقراطية ودخول مرحلة النقد الذاتي للحزب الحاكم، بل وتوجيه أردوغان اننتقادات علنية لحزبه.

وقد فرضت هذه الحالة تساؤلات عدة وبعد مرور أكثر من شهرين على الانتخابات البلدية، حول مدى جدية النظام التركي في النقد الذاتي وإعادة النظر في كثير من المواقف والسياسات، وارتباطًا بذلك فإن هناك تساؤلات تتعلق بمستقبل حكم العدالة والتنمية، وهل يستطيع التعافي مجددًا أم سيتواصل السقوط التدريجي؟، والإجابة على هذه التساؤلات تتطلب الوقوف عند مجموعة من النقاط التي يلي الحديث عنها.

(1) ماذا وراء الإقرار بالهزيمة؟

جاء العنوان العريض لنتائج الانتخابات البلدية التركية خسارة حزب العدالة والتنمية أو تحالف أردوغان، لكن في طياتها كثير من الأمور التي يجب الوقوف عندها، فمن ناحية تصدر حزب الشعب الجمهوري نتائجها بنسبة 37.7%، فيما جاء ثالثًا حزب الرفاه الجديد وهو من نفس خلفية العدالة والتنمية الإسلاموية، واستطاع الكرد تحقيق نصر مظفر رغم كل القمع الذي جرى ممارسته ضدهم وأثبتوا قدرتهم على مجابهة النظام الذي فشل أيضًا بدوره في حيله المختلفة لتغيير وجهة الناخب الكردي العادي لصالحه، وهنا كان أمام أردوغان طريقان:

  • الأول: إما أن يشكك في نتائج الانتخابات البلدية كما فعل من قبل عندما خسر إسطبنول وأنقرة المرة الماضية في بلديات 2019، لكن هذا الخيار كان مستبعدًا، لأنه بالإمكان التشكيك في نتيجة بلدية أو اثنين أو ثلاث وأنت رابح في المجمل، لكن أن تكون خاسرًا للدوائر الرئيسية وتأتي في المرتبة الثانية فإن هذا وضعًا صعبًا للغاية، وقد حاول إعادة انتخابات في بعض البلديات لكنه حزب العدالة والتنمية خسر للمرة الثانية مثل بلدية جورن رش إحدى بلديات ولاية أورفا.
  • الثاني: ويمكن القول إنه في ضوء الأول لم يكن أمام الرئيس التركي سوى اللجوء إليه، والمتمثل في العودة إلى لعبة الديمقراطية وتوظيفها بما يخدم وضعه السياسي، ولعبة الديمقراطية هنا تقول بمنتهى العقل إن عليه الاعتراف بالهزيمة وعدم المكابرة حتى ينال تحية المنهزم بشرف، ويتحدث عن مراجعات، وهذا أمر يكون إيجابيًا وموضع ترحيب إذا رافقته بالفعل خطوات عملية.

وإذا كان ما حدث أن الرئيس التركي أقر بالفعل بالهزيمة ورأى أنه يجب إعادة النظر في وضع حزبه العدالة والتنمية، وانتقد بشكل علني “الغطرسة” – على حد تعبيره هو – التي انتابت القواعد الحزبية في البلديات، فإنه يضع نفسه أمام مسارين اثنين أو طريقين كذلك:

  • الأول: التراجع عن سياساته السابقة، والشعور الفعلي لدى النظام والإقرار بأن الطريق الذي سلكه خلال السنوات الماضية كانت نهايته سوداء لأنه كان خاطئًا، فقد ربح الانتخابات الرئاسية في مايو/أيار من عام 2023 بشق الأنفس، ولا يتمتع بالأغلبية البرلمانية منفردًا، ثم حل ثانيًا في انتخابات البلديات.
  • الثاني: أن يكون الإقرار بالهزيمة والحديث الذي أطلقه مجرد عبارات رنانة ملمعة بغطاء الديمقراطية تمنحه هدنة سياسية وفسحة من الوقت ريثما يطور أساليب ملتوية لضرب المعارضة بكافة أطيافها سواء “الكمالية أوالكردية أوالإسلاموية”، ومن ثم فإنه بدلًا من السير على النهج الديمقراطي والنقد الذاتي تكون العودة إلى لعبىة إضعاف المعارضة، وهذا الضعف لدى الأخيرة – الذي لعب فيه أردوغان دورًا محوريًا عبر وسائل عدة – ساعده كثيرًا في حسم استحقاقات انتخابية سابقة أكثر منه قناعة بحزب العدالة والتنمية وبرنامجه، إلى جانب الاستعانة بورقة النعرات القومية، وربما النقاط القادمة توضح أي مسار أو طريق يسلك أردوغان وحزبه.

 (2) الكرد في مرمى الانقلاب على الديمقراطية

رغم أن الرئيس التركي وحزبه العدالة والتنمية بنى جزءًا من شعبيته في البدايات على فكرة تسوية القضية الكردية في إطار حل عادل، لكن مع الوقت تبين أن الأمر كان مجرد شعارات جوفاء قد تبخرت، وعندما شعر أن الكرد يشكلون خطرًا سياسيًا على ما ظهر في عدد من الاستحقاقات الانتخابية، لجأ إلى أساليب القمع والترهيب على نحو جعل بعض السياسيين الكرد يصفون فترة حكم أردوغان بأنها أسوأ الفترات خلال العقود الأخيرة، على نحو تجاوز حتى فترات الانقلابات العسكرية.

وإذا كان أردوغان يتحدث بالفعل عن نقد ذاتي وأنه جاد في هذا المسار، فإن عليه بالضرورة أولًا وقبل كل شيء أن يعود إلى الديمقراطية التي تفرض عليه إنهاء الظلم متعدد الأشكال والألوان الذي يلاقيه الكرد على مدار السنوات الماضية، وهنا لا نتحدث عن طموح الكرد إزاء قضاياهم الرئيسية كاللغة والثقافة والهوية، وإنما وقف حملات الاعتقال والإخفاء القسري والترهيب والعزلة بحقهم والأحكام القضائية العشوائية غير العقلانية، وهذا أقل ما يجب أن يفعله النظام التركي إذا كان حقًا استدار للخلف.

إلا أن الواقع العملي يثبت مجددًا أن عقلية القمع لا تزال تحكم، فقد شهد يوم الإثنين 3 يونيو/حزيران 2024 قرارًا يستنسخ ما حدث بالماضي القريب، عندما تمت إقالة محمد صديق أكيش رئيس بلدية جولمرك أو “هكاري” كأول رئيس بلدية كردي تتم الإطاحة به بعد انتخابات 31 مارس/آذار البلدية، وهي في واقع الأمر ليست إقالة بقدر ما هي انقلاب على نتائج الديمقراطية التي جعلت الكرد يفوزون بـ77 مجلسًا بلديًا، فعودة مرة أخرى لما فعله النظام أعقاب انتخابات 2019.

ثم تكتمل الصورة القاتمة بصدور حكم بالسجن 19 عامًا ونصف بحق أكيش بتهمة الإرهاب، والمتابع للشأن التركي يعلم جيدًا أن دعم الإرهاب هي التهمة الجاهزة دائمًا التي يسهل على النظام التركي إلصاقها بأي كردي. والحكم الصادر بحق أكيش يأتي وسط أصداء لا تزال تتواصل “لأحكام جنونية بالسجن” لعدد من قيادات الحركة السياسية الكردية وعلى رأسهم صلاح الدين دميرطاش وفيدان يوكسيكداغ، بل وتجاهل تام لكل الدعوات الحقوقية التي تدعو للإفراج عنهم، ولتوصيات المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان.

ولو كان نظام أردوغان أعاد النظر بالفعل في قناعاته السياسية لما كان جرى ما جرى في “هكاري”، فبعد قرار السجن بحق محمد صديق أكيش، خرجت مسيرات من أنصاره ومن أنصار الحزب الكردي للتنديد بالحكم وبالإطاحة أيضًا بالرجل من رئاسة البلدية ورفض رئيس البلدية غير المنتخب الذي عينته الحكومة، لكن ما كان من الشرطة إلا الاعتداء على المحتجين السلميين، كما تم نشر جنود في عديد من الطرقات لمنع خروج مسيرات أخرى، بل وتم منع قيادات الحزب الكردي ونوابه من الخروج للتظاهر، ولاحقًا جرى اعتقال عدد من السياسيين الكرد الذين سبق لهم أن تولوا مناصب بلدية ونواب للبلديات.

ثم تأتي مسألة أخرى تتعلق بواقع تعامل النظام التركي مع الكرد، وهي “إقليمية المواجهة”، فالرئيس التركي بنى جانبًا مع شعبيته على المواجهة المفتوحة مع الكرد سواء داخل الحدود أو خارجها، ورغم حديثه المشار إليه وفي ذورة ترويج أنصاره لأفكار النقذ الذاتي، وجدنا تركيا تشن غارات مجددًا على مناطق في شمال شرق سوريا وشمالي العراق وتقتل عددًا من المدنيين في مناطق في سوريا الكرد وكان أبرزها يوم 1 يونيو/حزيران، وقبل أسابيع كانت هناك ضربات أخرى في شمال العراق، وكلها تحت مسميات حماية الأمن القومي.

بل ذهب الموضوع إلى أبعد من ذلك، إذ أن الرئيس التركي هدد بشكل مباشر بشن عمليات عسكرية في شمال شرق سوريا حال أقدمت مناطق الإدارة الذاتية على إجراء الانتخابات البلدية كذريعة جديدة لمزيد من العدوان على مناطق الشمال السوري، في وقت تؤكد تقارير صحفية تركية عدة أن أنقرة عازمة على القيام بهذا الأمر خلال الصيف الجاري.

وبالتالي واقع ممارسات النظام التركي نفسها هي التي تقول إنه فيما يتعلق بالبعد الكردي فليس هناك إعادة نظر في السياسات بل إنه يمعن فيها سواء على المستويين الداخلي والخارجي، ومن ثم فإنه هذا يقدم دليلًا على أن الحديث عن النقد الذاتي ما هو إلا حيلة لم يكن هناك مفر من اللجوء إليها.

(3) المعارضة الإسلاموية والمعارضة القومية.. اللعبة المفضلة

المتتبع للشأن التركي سيجد أن أردوغان اعتمد بشكل أساسي خلال آخر 10 سنوات تقريبًا على إثارة النعرات القومية عبر مزيج من التوجهات الإسلاموية واليمينية القومجية المتطرفة، وقد مثل هذا المزيج في حزبه العدالة والتنمية وبعض الأحزاب الأخرى التي تحمل نفس التوجه منها ما هو كردي مثل “هدى بار” مع الحليف الأبرز حزب الحركة القومية وبعض الأحزاب التي خرجت من رحم الأخير.

وهنا تذهب تقديرات إلى أن أردوغان ربما يلجأ إلى التضحية بالحركة القومية لحساب التحالف مع حزب الرفاه الجديد الذي حل ثالثًا في الانتخابات البلدية محققًا مفاجأة من العيار الثقيل، لا سيما أنه من المتعارف أن الأحزاب الإسلاموية في تركيا ربما جميعها لديهم نفس النهج القومي التركي المتطرف، وبالتالي فهناك تقاسم للمواقف فيما يتعلق بالكرد وحقوقهم، وهو نفسه ما كان خلال فترة التحالف مع حركة الخدمة بزعامة فتح الله جولن قبل أن تذهب أيام الوفاق بينهما.

ومن المتعارف عليه أن الانتخابات البلدية تأتي في مرتبة متأخرة من حيث الأهمية خلف الرئاسية والبرلمانية، إلا أنها تعني الكثير بالنسبة للأخيرتين، فالحزب الذي يحكم بلدية ما يعني أن لديه فرصًا أكبر نحو التواصل مع المواطنين وإقامة المشروعات التنموية وتقديم الخدمات المناسبة، وبالتالي هي فرصة مناسبة لدعاية سياسية ذات طابع عملي. وبالتالي حين يحل حزب الرفاه الجديد أو الرفاه من جديد ثالثًا في الانتخابات البلدية فإنه سيكون ورقة مؤثرة في الاستحقاقات القادمة بما في ذلك إن كان هناك استفتاء شعبي على دستور جديد أو تعديل الدستور الذي يرغب فيه أردوغان، إذا نجح في انتزاع الموافقة البرلمانية اللازمة.

وتدفع هذه المؤشرات إلى التكهن بأن أردوغان سيسعى مجددًا إلى إدخال حزب الرفاه من جديد إلى تحالف انتخابي يقوده العدالة والتنمية، خصوصًا وأنه كانت هناك بالفعل لقاءات بينهما قبل الانتخابات البلدية، وحتى وإن فشلت مساع التحالف لكنها مؤشرًا على أنها مسألة في حسابات العدالة والتمية، وخصوصًا أن بعض الأصوات داخله ترى أنه لا بد من بديل لحزب الحركة القومية الذي تحول إلى عبء عليهم بسبب مواقفه المتشددة في كثير من الملفات ومنها الموقف من الكرد وخسارة السواد الأعظم من أصوات هذا المكون، وعلى نحو يساعد في إعاة تغيير ملامح الصورة “الإسلاموية – القومجية”. لكن ما من شك أن القرار ليس بما يفكر فيه العدالة والتنمية وحده، وإنما يرتبط الأمر بما في رأس قادة الرفاه، الذين ربما يكون لديهم طموحات أكبر من ذلك واعتمادًا على أنه حزب قادر على النمو السياسي، وربما يذهب طموحهم إلى مسألة حكم تركيا مستقبلًا، على نحو يتضح من طريقة معارضتهم وتعاطيهم مع المواقف السياسية لا سيما الحرب في غزة.

(4) المعارضة الكمالية ولعبة مد حبال الوصال

تذهب بعض التقديرات إلى أن حزب العدالة والتنمية نفسه ربما يتحالف مع حزب الشعب الجمهوري إذا فشل في إضعافه، خصوصًا إذا كان الأمر يتعلق بالانتخابات البرلمانية حال عدم قدرة أي منهما على حسم نتائجها، ومن ثم الحاجة إلى تشكيل ائتلاف حكومي. وبالنسبة لأردوغان فهذا ليس مستبعدًا، لأن هذا الرجل كل ما يعنيه البقاء في السلطة سواء هو أو حزبه، إلا أن هذا الخيار مستبعد بدرجة كبيرة، لأن المعارضة الكمالية بنت جزءًا ليس بالهين من شعبيتها خلال السنوات الماضية على النقد اللاذع لأردوغان وسياساته وطريقة إدارته للحكم، كما استفادت من حالة الغضب الشعبي الواسع لا سيما بين صفوف الشباب ضد النظام، لتوسع شعبيتها وتكسب أصوات الناخبين التي أتى قسم منها كنوع من التصويت الاحتجاجي، وبالتالي الدخول في ائتلاف مع العدالة والتنمية سيجلب نقمة سياسية شعبية لها.

ورغم أن التصويت الاحتجاجي لعب دورًا رئيسيًا في فوز حزب الشعب الجمهوري وتحالفه الانتخابي، لكن يجب عدم تجاهل أن الحزب خلال السنوات الماضية عمل على اللعب ببعض الأوراق التي كان يلعب بها حزب العدالة والتنمية نفسه وإن كان بشكل معتدل على النحو التالي:

– الدين: فلم تعد المعارضة الكمالية متصلبة في علمانيتها وموقفها من الدين وأظهر الحزب في أكثر من مناسبة احترامًا للقيم الدينية بشكل علني والتأكيد على ذلك، وبالتالي فورقة الدين التي كان يستخدمها أردوغان وحزبه تم تحييدها حتى ولو نسبيًا عكس ما كان يحدث في السابق، وعكس مواقف حزب الشعب الجمهوري السابقة التي كان يستغلها بعض رجال الدين الموالين لأردوغان في ضرب شعبية المعارضة لدرجة أنه في بعض الأوقات كانت الانتخابات تعتبر اختيارًا بين “الإيمان والكفر”، ورُددت تلك الأحاديث على منابر تابعة للدولة بمباركة حزب العدالة والتنمية. وبالتالي فإن هذا التوجه يتصاعد مع الوقت على نحو يجعل الدين أو لنكن أكثر دقة التمسح بالدين ليس عاملًا حاسمًا لدى العدالة والتنمية.

– التواصل المباشر: الأمر الثاني أن حزب الشعب الجمهوري خرج بشكل كبير من قفصه الزجاجي السابق، وتخلى عن ممارسة السياسة بشكل أرستقراطي إلى شكل أكثر شعبوية، وهي نفس الورقة التي تفنن أردوغان في اللعب بها، فأصبح هناك تواصل مباشر بين الحزب والمواطن البسيط، وحرص الحزب كذلك على اختيار مرشحيه للبلديات بعناية فائقة، واختيار وجوه محبوبة للناخب، خاصة في مناطق وسط الأناضول والبحر الأسود التي كانت تقريبًا خارج نطاق سيطرته.

– التصالح مع الأحزاب الأخرى: الأمر الثالث والأكثر أهمية أن حزب الشعب الجمهوري اعتمد استراتيجية تقوم على الانفتاح على الأحزاب السياسية الأخرى، بما في ذلك الكرد، وقد كان لتحالفه مع الكرد تحديدًا عديدًا من المكاسب لا سيما في أن أصوات هذا المكون ذهبت إليه في إسطنبول وأنقرة، وبفضلها كذلك حسم أكرم إمام أوغلو بلدية إسطنبول خلال الانتخابات البلدية الماضية.

(5) الأزمات الاقتصادية والسياسية

الإشكالية الأكبر أمام أردوغان وحزبه والتي كانت عاملًا رئيسيًا في التصويت لصالح المعارضة، وزيادة القواعد الشعبية الداعمة لها، هي الأزمات السياسية والاقتصادية على نحو يفوق تكتيكات المعارضة، فيبدو أن أردوغان لم يدرك بعد أن هناك جيلاً جديدًا في البلاد عاصر حالة من تصاعد حدة التضييق على الحريات وانتهاك الحقوق، ولم يشاهد المناخ الذي كان جيدًأ ومنفتحًا إلى حد ما سياسيًا في السنوات الأولى لحكم العدالة والتنمية، وبالتالي أصبح النظام أمام شريحة شبابية ناقمة وغاضبة.

إضافة إلى ذلك فإن الاقتصاد يبدو أنه قد أدار ظهره لحزب العدالة والتنمية، فقد لعبت النجاحات الاقتصادية الكبيرة دورًا مهمًا في تقوية أسهم حزب العدالة والتنمية على المستوى الشعبي دائمًا، على نحو جعل هناك إمكانية للتغاضي عن الجانب الحقوقي مقابل الوضع المعيشي والاقتصادي والاجتماعي المتحسن، لكن كل المؤشرات تذهب إلى أن تركيا تعاني اقتصاديًا بشكل كبير، لا سيما ارتفاع معدل التضخم الذي سجل 75% ارتفاعًا على أساس سنوي – وفق الأرقام الرسمية التي تقل كثيرًا عن تلك غير الرسمية – على نحو انعكس على تكلفة المعيشة، بل إن كثيرًا من الاقتصاديين الأتراك يرون أن الأسوأ لم يأتي بعد، وبالتالي أمام الأزمة الاقتصادية – التي قد تكون مرتبطة بأسباب داخلية  خارجية منها ما تتعلق بالحروب التي تقوم بها تركيا وتدخلاتها، فإن الجيل الجديد لن يكون بحاجة إلى إغماض أعينه عن تراجع الديمقراطية أو تجاوز ذلك.

(6) الرغبة في تعديل الدستور

عادة ما كان يثير أردوغان مسألة الرغبة في كتابة دستور جديد للبلاد أو كما يقول “إنهاء الدستور الانقلابي الحالي”، لكن هذا الأمر أخذ خطوات جدية عبر لقاءات يتم إجراؤها مع الأحزاب السياسية بعد الانتخابات البلدية. وهذه الخطوة تأتي كنوع من دغدغة المشاعر لدى الشعب التركي في إطار مساعي النظام إلى تجاوز هزيمة البلديات، على نحو يدفع إلى القول إن الحديث عن كتابة دستور جديد للبلاد هي “عملية مسيسة”.

وصحيح أن هناك قناعة مشتركة بين العدالة والتنمية والشعب الجمهوري وكثير من أحزاب المعارضة على ضرورة كتابة دستور جديد للبلاد، لكن الخلافات كبيرة حول ما يجب أن يتضمنه هذا الدستور، فضلًا عن أن المعارضة لا يمكن أن تمنح حزب أردوغان شرف الموافقة على مقترح دستوري هو من قدمه، إلى جانب ذلك استخدام حزب أردوغان لورقات الدين والوطنية ومصطلح “دستور الانقلاب” من أحل استعادة قاعدته الشعبية المفقودة، وهي أوراق تجعل الكفة غير متوازنة إذا تحدثنا بشكل أكثر دقة عن استخدام عامل الدين في هذه المسألة.

والأكيد في كل الأحوال أن حزب العدالة والتنمية وإن كان يستفيد سياسيًا من الحديث عن كتابة دستور القرن الثاني للجمهورية التركية، لكنه بكل تأكيد لا يستطيع القيام بتلك الخطوة إلا بتوافق مع أحزاب المعارضة في ظل عدم امتلاكه الكتلة البرلمانية اللازمة لتمرير التغيير، لكنه هذا صعب، نظرًا بالأساس إلى تشكك المعارضة تجاه نوايا أردوغان، خصوصًا لدى حزب الديمقراطية والمساواة الكردي في ظل تجاهل النظام لتطبيق قرارات المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان الداعية للإفراج عن الرموز السياسية للكرد القابعة خلف القضبان، والانقلابات على نتائج الانتخابات البلدية وفرض الوصايات عليها، إضافة إلى عمليات القمع المتواصلة في مناطق جنوب شرق البلاد وفرض العزلة منذ أكثر من ثلاث سنوات على الزعيم الكردي الأبرزعبدالله أوجلان.

وفي السابق كان لزعيم حزب الشعب الجمهوري أوزغور أوزال تصريحات يؤكد فيها رفض أي طرح بشأن كتابة دستور جديد من قبل الرئيس التركي، لا سيما أن الأخير لم يلتزم بالدستور الحالي، وفقًا له، لكن عقب لقاء جمعهما مؤخرًا صدر عفوا عن بعض قادة ما يعرف بـ”انقلاب ما بعد الحداثة”، ما ينقلنا إلى النقطة التالية.

(7) تحصن برجال الدولة العميقة؟

تطور مهم لا يمكن إغفاله، حيث أصدر أردوغان قرارًا بالعفو عن 7 من كبار ضباط الجيش السابقين الذين حكم عليهم بالسجن المؤبد بعد الإطاحة بالحكومة التي كان يقودها إسلاميون عام 1997 بقيادة نجم الدين أربكان، وقد كان انقلابًا دون تحرك عسكري جاء نتيجة ضغوط وتهديدات من الجيش، ولهذا سمي بـ”انقلاب ما بعد الحداثة”.

وقد جاء العفو عن هؤلاء الجنرالات بمبرر رسمي يتعلق بظروفهم الصحية، لكنه أتى بعد وقت وجيز من إثارة زعيم المعارضة مسألة العفو عن هؤلاء خلال لقائه مع أردوغان، على نحو يخدم حالة التودد من النظام للمعارضة الكمالية التي قد يحتاج إليها إما لتعديل الدستور، أو ربما تشكيل حكومة ائتلافية مستقبلًا لا سيما أن تلك المفاوضات ليست بجديدة عليه. والأهم من ذلك أن القرار أتى وكأنه تصالح من قبل أردوغان مع “رجال الدولة العميقة” أو ما كانت تعرف هكذا، وبالتالي تودد إلى قطاع من أنصار هؤلاء، لكن هل هؤلاء يشكلون رقمًا سياسيًا؟ لا يتصور ذلك، وربما خطوة الغرض منها كما سبق وتمت الإشارة إليه التودد لزعيم المعارضة، وفي نفس الوقت الاستفادة منها دعائيًا.

(8) قضية غزة وفلسطين

لطالما كانت ورقة فلسطين واحدة من أهم الأمور التي يبني عليها الرئيس التركي شعبيته، لكن في ذورة العدوان الإسرائيلي على غزة تبين أن العلاقات الاقتصادية بين أنقرة وتل أبيب أكبر بكثير مما كان يتصور البعض، وفي الوقت الذي يتصاعد غضب الشعوب في كثير من بقاع العالم ومن بينهم الشعب التركي، كانت الصادرات التركية تصل إلى إسرائيل، ومن بينها الفولاذ الذي تعتمد عليه إسرائيل بصفة رئيسية في صناعة الأسلحة التي يقتل بها الشعب الفلسطيني.

وقد استفاد حزب الرفاه الجديد من هذه النقطة تحديدًا بما كشفه عن علاقة النظام بإسرائيل، وتبنيه خطابًا مميزًا حول دعم القضية الفلسطينية، وهو ما انعكس على التصويت له في الانتخابات البلدية، وهناك بدأ يدرك أردوغان بعد الهزيمة الخطأ الذي وقع فيه، فبدأ يتحدث عن تعليق بعض مجالات التعاون مع إسرائيل، ثم استقبل رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية، وهي الزيارة التي يجمع مراقبون على أنها تستهدف استعادة الحزب الحاكم في تركيا شعبيته المفقودة.

الخلاصة

  1. أن النظام التركي أو لنكن أكثر دقة أردوغان تحديدًا فيما يبدو أنه لا يزال يرى أن ورقة العداء مع الكرد وإثارة النعرات القومية يمكن أن تساعده على استعادة قسم من شعبيته المفقودة، أي أنه يعود إلى ورقته المفضلة والتقليدية، وهو ما اتضحت بوادره سواء من الملاحقات الأمنية للسياسيين الكرد والانقلاب على نتائج انتخابات بلدية هكاري كما حدث في السابق، ومن خلال بحثه الواضح عن ذريعة لشن عملية عسكرية واسعة في الشمال السوري.
  2. إن النظام التركي بدلًا من أن يعالج مشاكله الاقتصادية والسياسية ويقوم بإصلاحات حقيقية يبدو أنه يتبع سياسة الإلهاء والهروب من مشكلاته الداخلية لا سيما بورقة الحديث عن الأمن القومي والخطر الكردي سواء داخليًا أو خارجيًا، لكن هذه الورقة يبدو بنسبة كبيرة أنها لن تؤتي ثمارها سياسيًا لأردوغان كما كانت في السابق، بدليل أنها كانت ورقة رئيسية في دعاية تحالفه خلال الانتخابات البلدية الأخيرة ومع ذلك خسرها.
  3. لا يزال النظام التركي يراهن على ورقة الدين وكذلك الموقف من القضية الفلسطينية، ويعتقد أنه ببعض التصريحات حولها يمكنه استعادة الاصطفاف الشعبي خلفه، لكن الأزمة هذه المرة أن ما كُشف حول طبيعة العلاقة بين إسرائيل وتركيا كان كبيرًا للغاية، على نحو أثار غضب الشارع التركي الذي يتعاطف بشكل كبير مع أهالي غزة ضد المجازر والجرائم التي ترتكب بحقهم كغيره من الشعوب.
  4. إن مسألة تعديل الدستور في تركيا تبقى من الأمور التي تثير مخاوف سياسية كبيرة، خاصة أن البعض كان يرى أنها حيلة ليحصل أردوغان على فترة رئاسية جديدة، ورغم أنه أعلن أن هذه فترته الأخيرة في السلطة، لكن هذا الرجل يعُرف ببرجماتيته الشديدة وتحول المواقف السياسية بين يوم وليلة، بدليل أنه أصدر عفوًا عن قادة انقلاب يهاجمهم ليلًا ونهارًا وغيرها من المواقف، وتبقى الانتخابات المبكرة، إحدى الأدوات لكن في ظل الظروف الحالية ونتائج انتخابات البلدية، لن تكون في صالح أردوغان وحزبه.
  5. إن تركيا تعيش مرحلة مفصلية بالنسبة لأحزابها السياسية سواء الحزب الرئيسي في الحكم العدالة والتنمية أو المعارضة بكافة أطيافها، والأخيرة أمام فرصة ذهبية للاستفادة من هذه المرحلة وتعظيم مكاسبها وترسيخ قواعدها الشعبية.
  6. يتوقع استمرار السقوط لحزب العدالة والتنمية، لأنه يبدو لم يستفد من درس صفعة الانتخابات البلدية، وكل ما سبق مؤشرات عديدة تؤكد أنه يعود مجددًا لاستخدام نفس أدواته التي لطالما استخدمها للاستمرار في السلطة، ولكن هذه الأدوات لم تعد كافية، أو لم تعد هي أدوات المرحلة، والاعتماد عليها نوع من الإفلاس السياسي، ومن ثم إن لم تكن المراجعة جادة وعودة إلى الديمقراطية والتخلي عن النعرات القومجية، فإن مسلسل سقوط العدالة والتنمية ستتواصل حلقاته لا محالة.
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى