تعددت تصريحات الرئيس التركي ” رجب طيب أردوغان” المتجددة والمتوالية حول رغبة بلاده في إعادة العلاقات مع الحكومة السورية، كما أكد دعوته للرئيس السوري “بشار الأسد” لإنهاء الخلافات بين البلدين، وتكليف وزير الخارجية التركي “هاكان فيدان” بترتيب لقاء بينهم، في خطوة مرتقبة للتطبيع بين البلدين بعد انقطاع العلاقات من أعقاب ثورات الربيع العربي، على آثر دعم الحكومة التركية لعناصر المعارضة السورية المسلحة واحتلالها لعدة مدن سورية.
و تمثل خطوة التقارب بين البلدين – إذا حدثت بالفعل – تحول هام ومؤثر في الشرق الأوسط بل والعالم ككل، ومثير لقلق بعض الأطراف وأكثرها المعارضة السورية، التي تستمر في مراقبة هذا الأمر بحذر لأنه يهدد وبقائها، كما أن هذه الخطوة قد تشمل تخلي تام عن المعارضة السورية المسلحة، خاصًة إذا شملت تحقيق مطلب الحكومة السورية الرئيسي المتعلق بانسحاب القوات التركية من الشمال ووقف دعّم المعارضة المسلحة.
تجدد الدعوات:
تسعى “أنقرة” إلى تحقيق تقدم ملموس بعلاقاتها مع دول المنطقة، رامية لاستعادة سياسة “تصفير المشاكل” خاصًة مع الدول العربية، رغم استمرار بعض المشاكل، كما أنها ترى التقارب مع مصر والعراق وسوريا من أهم الأولويات في ذلك الشأن، ويمكن ملاحظة هذه المؤشرات عبر التصريحات التركية الرسمية التي تنادي بالمصالحة مع “دمشق”، وأهمها تأكيد الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” رغبة بلاده في استعادة العلاقات التاريخية بينها وبين سوريا، كما يبدو أن “أنقرة” تقوم بتوظيف كافة السبل والموارد لتحقيق هذا الهدف، لاسيما العمل على بدء المصالحة مع مصر والسعي إلى تهدئة أية توترات مع دول الخليج العربية، وتجديد مناداتها باستمرار للمصالحة مع سوريا، وتكليف وزير خارجيتها بتدبير لقاءً مع الرئيس السوري “بشار الأسد”.
من جهة أخرى فإن ترحيب أنقرة بالوساطة العراقية التي طرحها رئيس الوزراء العراقي “محمد شياع السوداني” يواجهه بعض العوائق، فإن هذه الوساطة تسمح لإيران بدور أكبر في الملف السوري مقارنة بالدور التركي، أما بالنسبة للوساطة الروسية فقد تشكل فرصة أنسب، نظرًا لما تتمتع به “موسكو” من علاقات وثيقة مع الطرفين وقدرة على إقناعهم بالتفاوض، وخصوصًا أن الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” قد يؤدي دور الوساطة بنفسه، وهو ما قد يوفر فرص أكبر لتحقيق التقدم المطلوب..
يمكن القول إن مجمل الضغوط الداخلية بتركيا تعد من أهم العوامل التي تشجع الحكومة التركية على الانفتاح مع الدول العربية واتباع سياسات تصفير المشكلات مع الجيران، وعمليات التطبيع في المنطقة، كما أن عودة العلاقات بين تركيا وسوريا، يتيح للطرفين العديد من المكتسبات على المستوى السياسي والاقتصادي والأمني، حسب بعض المراقبين، إلا أن هناك العديد من الخلافات التي قد تؤدي إلى عرقلة المفاوضات بهذا الشأن، ولكن في حال عقد قمة بين الرئيسين التركي والسوري فلا يبدو أنه سيكون هناك وقتًا كثيرًا قبل تطبيع العلاقات بين البلدين.
مواقف متعددة:
يترقب أطراف الصراع السوري التطورات الجارية حول المصالحة التركية – السورية، ويمثل التقارب بين البلدين هاجسًا أكبر لدى قوى المعارضة السورية المسلحة، إلى جانب “قوات سوريا الديمقراطية” التي ترى فيها مؤامرة على الشعب ووحدة الأراضي السورية وهي التي تعاني من القمع التركي والهجمات المتتالية دون محاولة لاستيعاب المطالب الكردية وحقوق الشعوب الكردية، وفي ظل تصنيف “أنقرة” لهم كجماعة إرهابية، رغم أنها كانت ومازالت لها دور أساسي في محاربة “داعش” ومقاومة الاحتلال التركي في شمال وشرق سوريا.
وتتعدد مواقف القوى بين تلاقي المصالح وتنافرها، بينما يترقب الجميع مستقبل هذه المفاوضات، ويمكن توضيح أهم مواقف القوى المؤثرة بسوريا على النحو التالي:-
(*) الموقف الروسي: تدعم موسكو المصالحة التركية – السورية وتقوم برعايتها من إعلان الرئيس التركي رغبة بلاده في الانفتاح على “دمشق”، كما أن الوساطة الروسية في إعادة العلاقات بين الحكومة السورية وتركيا ستؤدي إلى توسع النفوذ الروسي بالمنطقة، مما يعتبر تقليص للدور الأمريكي وقيادة “واشنطن” للمنطقة، وبالتالي القضاء على هيمنة النظام أحادي القطبية، خاصًة بعد كافة التطورات والمصالحات بالمنطقة التي شملت مصالحة السعودية وإيران بوساطة “بكين”.
(*) الموقف الأمريكي: لا يبدو أن هناك قبول أمريكي باستعادة العلاقات التركية – السورية، وقد أكد بعض المسؤولون أنهم يعارضون التطبيع مع الحكومة السورية، ولاشك في أن أمريكا لا ترغب في أن يكون وضع يؤثر على مصالحها ونفوذها في سوريا والمنطقة.
(*) الموقف الإيراني: ترحب طهران بإعادة العلاقات بين “دمشق” و “أنقرة” بما يضمن سيطرة الحكومة السورية على كافة الأراضي بعد انسحاب القوات التركية من الشمال، ويبدو أن الوساطة العراقية مُرحَبًا بها من قبل “طهران”، وقد تشكل نفوذ وزخم أكبر للدور الإيراني بالمنطقة، وتهدئة الصراع السوري بالقضاء على المعارضة السورية المسلحة، ولكن تعرف إيران أن تمدد النفوذ التركي ليس في صالحها ، ولذلك من الممكن أن لا توافق إيران في بعض المراحل.
(*) موقف الحكومة السورية: صرح الرئيس السوري “بشار الأسد” بانفتاح بلاده على جميع المبادرات الرامية إلى عودة العلاقات مع تركيا، بما يضمن تحقيق الشرط السوري الأساسي المتعلق بالحفاظ على وحدة الأراضي السورية وسيادة الدولة متمثلة في الحكومة على مجملها، كما أكدت وزارة الخارجية السورية أنها تشترط الانسحاب التركي ووقف دعم تركيا للمعارضة. وهذا يظهر مجددا أن المصالحة بعيدة بسبب ما قاله وزير الدفاع التركي بأنهم يريدون أخذ ٣٠-٤٠ كيلومتر من شمال سوريا وشمال العراق، وهذا يبين بوضوح غاية تركيا ورغبتها في تقسيم سوريا والعراق .
(*) الموقف التركي: تسعى تركيا لتحقيق هذه المصالحة والتطبيع مع الحكومة السورية، لما يحققه ذلك من مصالح عديدة حتى على المستوى الاقتصادي، بالإضافة للهدف الأكثر خطورة وهو القضاء على فرص الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا في استكمال خطوة سياسية ناجحة، كإجراء الانتخابات المحلية التي تم إرجائها مؤخرًا، إلا أنه لا يبدو أن هناك استعداد تركي كامل للانسحاب من الأراضي السورية في الوقت الحالي، وهو الشرط الرئيسي لانفتاح “دمشق” على استعادة العلاقات مع “أنقرة”.
تحديات قائمة:
تخلق المتغيرات الحالية في الشرق الأوسط، لاسيما بروز الدورين الصيني والروسي وعدم وضوح الدور الأمريكي وانفراج عمليات التسامح الإقليمية وفقًا للحسابات المتعلقة بتحقيق مكاسب اقتصادية وسياسية هامة، أما عن نجاح أو فشل المفاوضات بين الطرفين هو أمر محكوم بمدى استيعاب كل منهما لأهمية الاتفاق فيما بينهم، لذلك من غير المتوقع فشل المفاوضات بصورة جذرية في ظل المتغيرات الإقليمية الجديدة التي لابد وأن تؤثر ولو بدرجة ما في جميع الملفات الإقليمية وأولويات السياسة الخارجية لدول المنطقة بأكملها. ولكن وجود قرار دولي خاص بالتسوية السورية ٢٢٤٥ يشير إلا أن لابد أن يكون أي مسار تفاعلي في سوريا مراعيا لهذا القرار الذي يتمسك به الكثير من السوريين.
ونعتقد أنه يجب على الحكومة السورية تحقيق هذه المصالحة مع تركيا وفق شروطها المتعلقة بانسحاب القوات الأجنبية المتواجدة بشكل غير شرعي من شمال سوريا، ولكن عليها أيضًا مراعاة عدم الانخراط في الصراع التركي – الكردي، والقيام بقمع حقوق المواطنين السوريين الأكراد في مقابل تقديرها للهواجس التركية، والذي قد تستغل فيه “أنقرة” الحكومة السورية لمواجهته عبر إقحامها في صراع مع مواطنيها والعودة بالأزمة السورية للحروب الأهلية مرة أخرى، بدلًا من اللجوء للحل السياسي والتفاوض بين الأطراف السورية دون القوى الدولية المتدخلة بالصراع
ختامًا، يمكن القول بأن هناك تفاؤل متزايد تجاه الانفتاح في العلاقات بين تركيا وسوريا، حيث يوفر المناخ السياسي الدولي فرص للتفاعل بين البلدين، ولكن مازال هناك العديد من التحديات أمام التطبيع التام، خاصًة وان طبيعة علاقة في ظل سعي “أنقرة” لتحقيق مصالحها عبر المصالحة مع الحكومة السورية، ولكن دون إبداء أي استعداد حالي للانسحاب من الأراضي السورية، بل واستمرارها في التهديد بعملية عسكرية تركية توسعية جديدة، إضافة إلى عدم إلتزام تركيا بتعهداتها سابقا وحالة عدم الثقة بما يتعهد به أردوغان.