الاخبار الرئيسيةمقالات

من سيتمكن من حكم فرنسا ؟

تحليل: رشا عامر

خسر المعسكر الرئاسي الفرنسي أغلبيته النسبية لصالح الجبهة الشعبية الجديدة في ختام الجولة الثانية من الانتخابات التشريعية. لكن لا يزال الائتلاف اليساري بعيدًا عن الحد الأدنى المطلوب وهو 289 مقعدًا للحصول على الأغلبية المطلقة. ومن المتوقع أن تكون المناقشات حول تشكيل ائتلاف حكومي صعبة حيث أدت نتائج الأحد 7 يوليو إلى تجزئة الجمعية الوطنية إلى ثلاث كتل على عكس ما توقعته استطلاعات الرأي حيث جاء في المقدمة الجبهة الشعبية الجديدة في حين صمد المعسكر الرئاسي بشكل أفضل من المتوقع بانتزاع المركز الثاني بينما احتل حزب اليمين المتطرف المركز الثالث بعدما كان متصدرا المركز الأول في الجولة الأولى.

خرجت النتائج وبرزت التساؤلات حول ماهية هذا الائتلاف القادر على الوصول إلى 289 نائباً للحكم، الإجابة بالطبع بعيدة كل البعد عن الوضوح في هذا الوقت ولا أحد يعرف من سيحكم. السياسي الدستوري تيبو مولير يعترف بأن  الأمر جديد تماماً بوجود ثلاث كتل لا سيما انها غير متوازنة ما يعني أن هناك اضطرابا وليس أزمة نظام. وربما يتعين على المسئولين اختراع شيئًا جديدًا وكبيرًا ومفيدًا على حد تعبير رئيس الوزراء الحالي جابريال أتال فنصوص الجمهورية الخامسة مرنة بما فيه الكفاية.

في المعسكر الرئاسي بدأ زعماء الأحزاب في تحديد نطاق المفاوضات معلنين استعدادهم للعمل مع كافة الأحزاب الجمهورية مستبعدين في الوقت نفسه احتمالية  أن «يحكم جان لوك ميلينشون وعدد معين من حلفائه» فرنسا بينما اتفقت آراء الحلفاء داخل التحالف اليساري حول قدرة الجبهة الشعبية الجديدة على الحكم رغم أنه لا يملك الأغلبية المطلقة خاصة مع استبعاد أي نقاش او تحالف مع المعسكر الرئاسي.

أسئلة كثيرة تظل بلا إجابة وتختلف الأطراف بشأن تشكيل ائتلاف محتمل اذ يجب أن يكون رئيس الوزراء قادرًا على الحصول على موافقة الرئيس والماكرونيين وأن يكون قادرًا على ضم الاشتراكيين وجزء من الجبهة الليبرالية.
السيناريوهات المتاحة لتشكيل الحكومة، في ظل غياب أغلبية واضحة على مقاعد قصر بوربون “مقر الجمعية الوطنية”  فإن خطر الانسداد المؤسسي يصبح حقيقياً وبالتالي لابد من ايجاد سيناريوهات محتملة لتشكيل الحكومة
حكومة “ائتلاف قوس قزح”.

اي تشكيل حكومة ائتلافية ما يعد تجربة فريدة في ظل الجمهورية الخامسة حيث يمكن للرئيس أن يعين شخصية مسؤولة عن بناء ائتلاف يتمتع بالأغلبية المطلقة من خلال الجمع بين جزء من اليسار والماكرونيين واليمين.
الحكومة الفنية، وهي حكومة لا تتألف من مسئولين منتخبين من الأحزاب السياسية ولكن من خبراء من مختلف المجالات لشغل المناصب على سبيل المثال محافظ بنك فرنسا المسؤول عن الاقتصاد أو جنرال في القوات المسلحة كما انهم سوف يرافقهم شخصيات توافقية من الجمعية الوطنية.

حكومة أقلية
أي تعيين الحكومة والاحتفاظ بها دون الحصول على دعم صريح من الأغلبية المطلقة في الجمعية حيث كان هذا هو حال حكومتي إليزابيث بورن وجابرييل أتال وقد استمرت هاتان الحكومتان لأن المعارضة من اليمين واليسار واليمين المتطرف لم تتحد قط للإطاحة بها.

ائتلاف مثل فون دير لاين
أحد الخيارات الممكنة هو تشكيل ائتلاف يجمع الوسطيين التابعين لإيمانويل ماكرون والاشتراكيين ونشطاء البيئة وأعضاء حزب الجمهوريين الذين لم يدعموا حزب التجمع الوطني و سيكون مثل هذا التحالف مشابهًا للتحالف الذي قامت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين بتجميعه في البرلمان الأوروبي: يسار الوسط ويمين الوسط والليبراليين وحزب الخضر.

تعيين رئيس وزراء وتعطيل المؤسسات
بالنسبة لجابريال أتال فلن يتمكن ماكرون من الاحتفاظ به للأبد وبموجب الدستور فلدى الرئيس “فترة معقولة” لتعيين رئيس وزراء ولكن يشكل الوضع الحالي بين الألعاب الأوليمبية والحرب في أوكرانيا موقفاً خاصاً. ويمكن الضغط على ماكرون من قبل النواب أنفسهم من خلال الإطاحة بالحكومة لإجباره على تسريع قراره. ولا يستطيع إيمانويل ماكرون أن يعين رئيس وزراء ماكرونيا آخر بعد الهزيمة الانتخابية التي مني بها المعسكر الرئاسي وعلى نحو مماثل من غير المرجح أن يقبل الجمهوريون ترشيحاً من الاشتراكيين. وقد يكون من الأفضل أن يختار رئيس الجمهورية مرشحاً توافقياً من حزب صغير أو من حكومة تكنوقراط وينبغي أن يستمر مثل هذا الترتيب لمدة عام على الأقل أي على أقرب تقدير حتى الانتخابات المقبلة أو حتى يترك إيمانويل ماكرون السلطة في عام 2027.

ماري آن كوهنديت الخبيرة الدستورية وأستاذة القانون في جامعة باريس فجرت مفاجأة بأن هناك مايسمى بالأغلبية البسيطة أو النسبية وهي للحزب أو المجموعة الحاصلة على أكبر عدد من الأصوات أو المقاعد وهو ماينطبق اليوم مع الجبهة الشعبية الجديدة وبالتالي على الرئيس اقتراح الحكم اولا على هذه الجبهة التي جاءت في المقدمة فإذا رفضت يمكن للرئيس أن يقترح الحكم لحزب أو مجموعة لا تتمتع بالأغلبية.

وفي كل الأحوال فإن المستقبل يبدو غامضاً بالنسبة لفرنسا التي تعاني بالفعل من عجز في الميزانية يتجاوز 5% من الناتج المحلي الإجمالي. الشيء الملاحظ أيضا أن المؤسسات في فرنسا غير مستقرة الي حد ما حيث أن الخبراء منقسمون بشأن مايحدث حيث يرى البعض أن المؤسسات متكيفة وستعمل رغم كل شيء بينما يغتنم البعض الآخر الفرصة للتشكيك في سيادة القانون والدستور مثل التجمع الوطني الذي يريد مراجعة الدستور ليتمكن من تجاوز المجلس الدستوري. أما المجموعة الثالثة فترى أن فرنسا قادرة على تعلم الدروس من هذه الأزمة لإنشاء نظام أكثر ديمقراطية حيث يمكن إجراء بعض الإصلاحات دون مراجعة الدستور مثل تغيير طريقة التصويت لاعتماد الاقتراع النسبي.

دروس غيرت السياسة الفرنسية
نجاح التحالف ضد اليمين المتطرف
فرغم أن حزب التجمع الوطني بزعامة جوردان بارديلا جاء في المركز الأول في الجولة الأولى إلا أن التحالفات التكتيكية بين مرشحي اليسار والوسط ساعدت في هبوط حزب اليمين المتطرف إلى المركز الثالث في الجولة الثانية حيث انسحب أكثر من 200 مرشح خلال الأسبوع مما سمح للناخبين المعارضين لليمين المتطرف بالالتفاف حول المرشحين اليساريين ووفقا للنتائج النهائية جاءت الجبهة الشعبية الجديدة – وهي تجمع من الاشتراكيين والخضر والشيوعيين وحزب فرنسا الأبية اليساري المتشدد – في المركز الأول بحصولها على 180 مقعدا و سيكون حزب الرئيس ثاني أكبر حزب في المجلس بعد حزب الجبهة الوطنية ويمكنه بسهولة الحصول على دعم حوالي خمسين حليفًا وسطيًا إضافيًا.

الناحية النظرية
يمكن لائتلاف وسطي ويساري يضم نحو 340 نائبا أن يحصل على الأغلبية اللازمة في المجلس الجديد. لكن احتمال تشكيل تحالف ماكروني مع حزب الجبهة الليبرالية – والذي وصفه كثيرون منهم بأنه متطرف مثل حزب التجمع الوطني – لا يبدو مرجحا. وصحيح أن حزب الجبهة الشعبية الجديد أكبر الأحزاب اليسارية لكن مؤسسه جان لوك ميلينشون لا يحظى بالإجماع بين أعضاءه. و لذلك تجد فرنسا نفسها في منطقة مجهولة. ورغم أن التعايش بين رئيس جمهورية ورئيس وزراء من حزبين مختلفين لن يكون بالأمر غير المسبوق فإن المأزق الحالي غير مسبوق.

استفادة مارين لوبان من الفوضى
يمكن القول إن حزب الجبهة الوطنية الذي كان دوما حزباً احتجاجياً لم يكن ليستطع تحمل مسئولية الحكم وخاصة كجزء من ائتلاف معقد ولكن لا شك أن حزب الجبهة الوطنية حصل على نتيجة جيدة مقارنة بعام 2022 حيث زادت مقاعده 89 مقعدا في الانتخابات الاخيرة وإذا استمر هذا “المد الصاعد” ــ على حد تعبير مارين لوبان ــ فمن الممكن أن يعود الزعيم التاريخي لحزب التجمع الوطني إلى السلطة في الانتخابات الرئاسية في عام 2027.

ماذا يعني انتصار الجبهة الشعبية الجديدة لأوروبا؟
حبست أوروبا أنفاسها طوال الفترة التي سبقت الجولة الثانية من الانتخابات التشريعية الفرنسية حيث خشى الوسطيون أن يؤدي الوصول المحتمل لليمين المتطرف إلى الحكومة في فرنسا ــ صاحبة ثاني أقوى اقتصاد في الاتحاد الأوروبي ــ إلى زرع بذور عدم الاستقرار الاقتصادي والسياسي وتقويض الدعم القوي الذي يقدمه الاتحاد لأوكرانيا ولكنها أخيرا تنفست الصعداء مع إعلان انتصار الجبهة الشعبية الجديدة. ولكن مع تعليق البرلمان وعدم وجود طريق واضح لتشكيل ائتلاف حاكم لا يزال المأزق السياسي في باريس يلقي بظلال من عدم اليقين على قدرة فرنسا على ممارسة نفوذها في بروكسل.

السيناريو المعقول بالنسبة لأوروبا هو التعايش بين حكومة يسارية تتقاسم السلطة مع الرئيس الوسطي إيمانويل ماكرون والذي برغم خسارة حزبه مقاعد في الجمعية الوطنية الا انه خرج بمصداقية سياسية كبيرة متمثلة الهزيمة غير المتوقعة لليمين المتطرف في الجولة الثانية حيث ستتجنب فرنسا “الارتداد إلى نوع من الخطاب السيادي والقومي الذي أصبح متشددا” ومن الواضح أنه ضد أوروبا.

ففرنسا في الوقت الحالي لا تزال واحدة من المعاقل الرئيسية في أوروبا ضد صعود اليمين المتطرف وضد نفوذ روسيا وهذا يعني أن أوروبا ستبقى آمنة لفترة طويلة نسبيا عندما يتعلق الأمر بقضايا الدفاع. فالحاجز أمام اليمين المتطرف ساهم في حماية الكتلة الأوروبية من صدمة سياسية حيث سيُنظر إلى وجود حكومة قوية في باريس باعتبارها ركيزة أساسية لاستقرار الاتحاد الأوروبي. وقد كان فوز حزب التجمع الوطني الذي فاز في الجولة الأولى من التصويت قبل أسبوع من الجولة الثانية يشكل تهديداً إضافياً لدعم الاتحاد الأوروبي لأوكرانيا اذ يرتبط حزب مارين لوبان بعلاقات تاريخية مع روسيا وقد وعد بالحد من المساعدات الفرنسية لأوكرانيا وسبق أن حصل الحزب على قرض مثير للجدل بقيمة 9 ملايين يورو من بنك روسي في عام 2014 على الرغم من العقوبات المفروضة على موسكو بسبب الاحتلال غير القانوني لشبه جزيرة القرم. ورغم أن حزب مارين لوبان غير بشكل ملحوظ موقفه من الحرب عشية الانتخابات الأوروبية في يونيو مؤكدا أنه سيواصل تقديم المساعدة الدفاعية إلا أنه رفض نهائيا إرسال صواريخ طويلة المدى أو أسلحة أخرى من شأنها أن تسمح لأوكرانيا بضرب الأراضي الروسية.

وقد خشى القادة الأوروبيون – وخاصة على الجانب الشرقي – من أن يضعف نفوذ الرئيس ماكرون في السياسة الخارجية إذا أُجبر على الدخول في اتفاق تعايش مع اليمين المتطرف وأن يكون لذلك علاقة بالتمويل المالي والعسكري ولذلك كان رئيس الوزراء البولندي دونالد توسك من بين أول زعماء الاتحاد الأوروبي السبعة والعشرين الذين علقوا على إعلان النتائج حيث وصف باريس بأنها تمثل الحماسة بينما تمثل موسكو خيبة الأمل.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى