اتخذ المشهد الليبي منحنى مختلف بعد عام 2020 بعد سنوات من المعارك للقضاء على الإرهاب وتحرير المدن شرقا وجنوبا وكاد الجيش الليبي أن يدخل العاصمة طرابلس بالغرب الليبي، لولا التدخلات الخارجية وارسال قوات تركية عسكرية بمباركة غربية وضغط الدول الصديقة على اتخاذ قرار تراجع الجيش لمنطقة (سرت – الجفرة)، أي تحديد خط منتصف ليبيا.
مما جعل المشهد ضبابيا وربما اعتبر خطوة للاتجاه لتقسيم الدولة الليبية، خاصة بعد الانسداد السياسي بين البرلمان الليبي وحكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبدالحميد الدبيبة التي جاءت بالتوافق عبر لجنة حوار برعاية الأمم المتحدة والتي تشكلت في 10 مارس 2021، إلا أن الخلاف بدأ سريعا وقرر البرلمان إقالة حكومة الدبيبة الذي عند وصمم أن يخوض الانتخابات الرئاسية مخالفا لشروط الاتفاق السياسي وتم تسميه حكومة جديدة برئاسة فتحي باغاشا ولكنها لم تقدم جديد لمده عام وبعدها يقرر البرلمان الليبي مره أخرى اقاله حكومة فتحي باشاغا وتعين الدكتور أسامة حماد لتشكيل حكومة جديدة وهى الحكومة الحالية التي تحظى بالشرعية الدستورية ولكن الأمم المتحدة لم تعترف بقرار البرلمان الليبي واستمرت تتعامل مع حكومة الوحدة الوطنية في طرابلس برئاسة عبدالحميد الدبيبة بصفتها الحكومة الشرعية بناء على الاتفاق السياسي الذى تم في جنيف ليستمر الوضع بوجود حكومتين.
ابتزاز رئيس حكومة الوحدة
وتمر الأيام والاشهر والتبارز والتناحر السياسي والصراع على السلطة قائم، وتتغول الميليشيات في غرب ليبيا أكثر وأكثر وتستمر في ابتزاز رئيس حكومة الوحدة الوطنية ماليا وسياسيا حتى أصبح فريسة لهذ الميليشيات.
وبات واضحًا أن هذا المشهد الضبابي يستمر سنوات قادمة بدون الوصول لحلول سياسية تبحر للوصول لأي اتفاق ينتج عنه اجراء انتخابات برلمانية ورئاسية. ولكن في الجانب الأخر من المشهد، كان هناك رؤية وتحرك لمشروع “ثورة الكرامة” بقيادة المشير خليفة حفتر القائد العام للجيش الليبي والذي استطاع أن يحول المشروع الوطني العسكري للجيش الليبي إلى مشروع متكامل ولم يستسلم لفرض تقيد قوات الجيش بخط فصل بينه وبين الميليشيات بالغرب الليبي (سرت – الجفرة).
وبدأ في استغلال هذه الهدنة في بناء قدرات الجيش وتجديد دماء الضباط والجنود بوتيرة سريعة جدًا ليكون في أفضل جاهزية قتالية، وقرر اتخاذ منحنى أخر بديلا من المعارك العسكرية وهو منحنى إعادة الاعمار وبناء البنية التحتية المدنية في كافة المدن التي تضررت خلال مرحلة الحروب للقضاء على الإرهاب وفى مقدمتها مدينة بنغازي، وجاء إعصار دانيال الذى دمر مدينة درنه غرب مدينة بنغازي في كارثة إنسانية هي الأكبر خلال عام 2023، ليعمل الجيش الليبي بدعم من البرلمان وبمشاركة حكومة أسامة حماد على إعادة الاعمار والبناء ويحدث طفره كبيرة في فترة زمنية قصيرة جدا .
ليتخذ البرلمان الليبي قرار بإنشاء صندوق تنمية وإعمار ليبيا وتعين المهندس بلقاسم حفتر نجل المشير خليفة حفتر مديرا عاما للصندوق ورصد له ميزانية ضخمة.
تعاون اقتصادي مع دول كثيرة
وفى غضون أشهر قليلة جدًا كان المهندس بلقاسم حفتر يفتح افاق التعاون الاقتصادي في عقود الاعمار مع كافة الدول العربية والغربية حتى دول شرق اسيا وتبدأ عجلة العمل ويتواصل العمل ليل نهار وتظهر النتائج سريعا، لا تخطئها عين ليشعر المواطن في الشرق الليبي بحالة ارتياح وفرح بعد سنوات وسنوات من توقف أي صيانة او بناء جديد، بل كانت سنوات حرب ودمار للمباني والمنشئات.
لينجح المشير خليفة حفتر في استغلال هذه السنوات الثلاث الماضية من تحويل المعركة العسكرية إلى معركة بناء واعمار مع ابرام تحالفات مع عدد كبير من دول العالم تمت على المصالح الاقتصادية المشتركة مما اوجد مصالح لهذه الدول في التعامل واللقاء مع الحكومة الليبية التي تحظى بالشرعية الدستورية وهى حكومة الدكتور أسامة حماد.
كل هذا العمل الجاد والشاق يجرى بالشرق والجنوب الشرقي الليبي وعلى الجانب الاخر اكتفى عبدالحميد الدبيبة رئيس حكومة الوحدة الوطنية أن يستمر في دعمه بالمال لقادة الميليشيات واعتمد على علاقته المتميزة مع الدولة التركية وابرام عدد من الاتفاقات الاقتصادية المعيبة مع بعض الدول الأوروبية، وتخيل أن هذا يكفى ليستمر في السلطة وتحالف مع رئيس مجلس الدولة الاستشاري الاسبق محمد تكالة لعرقلة أي تقدم سيأسى لوجود حكومة موحدة تشرف على انتخابات رئاسية وبرلمانية متزامنة.
لكن حركة الاعمار وحجم وضخامة العقود بالشرق الليبي والمميزات المالية والاقتصادية للدول المشاركة جعل الدولة التركية يسيل لعابها الاقتصادي وارسال سفيرها إلى شرق ليبيا، للحصول على حصة للشركات التركية في عملية إعادة الاعمار ولم تكتف بذلك بل قامت بإرسال دعوة رسمية للمهندس بلقاسم حفتر مدير عام صندوق تنمية واعمار ليبيا لزيارة انقرة واستقبله وزير الخارجية التركي وهو ما يمثل دبلوماسيا اعتراف ضمني من الحكومة التركية بقرارات البرلمان الليبي وبمشروع “الكرامة” التي يقوده المشير خليفة حفتر.
وعمل حفتر على تغيير المشهد السياسي والعسكري وفى رحلات ولقاءات مكوكية بعدد من دول العالم ، كان الهدف منها فك طلاسم الانسداد السياسي والوصول لتوافق لإجراء انتخابات وعلى خط موازى كانت التحركات السياسية للمستشار عقيلة صالح رئيس مجلس النواب مستمرة ، ولكن كل التحركات بائت بخيبة أمل بتعند عبدالحميد الدبيبة الذى لم يترك أي طريق للتوافق إلا وعمل على افشاله، داخليا عن طريق الميليشيات التي تدين له بالولاء مقابل ابتزاز مستمر للحصول على أموال كبيرة ومميزات ضخمة أو عن طريق عدد من نواب مجلس الدولة الاستشاري التابعين والمتحالفين مع عبدالحميد الدبيبة.
تحركات مصرية
وكان أخرها محاولة إفشال التحرك المصري باحتضان القاهرة لاجتماع ضم أكثر من 120 عضوا من المجلسين وقبلها اعتذار محمد تكالة رئيس مجلس الدولة الاستشاري السابق عن استئناف حضور الاجتماع الثاني لثلاثي رؤساء مجالس البرلمان والرئاسي والدولة برعاية جامعة الدول العربية.
لتتخذ القاهرة خطوة سياسية جريئة لتؤكد أن هذا الانسداد السياسي لن يستمر طويلا وهى استقبال رئيس الوزراء الدكتور مصطفى مدبولي للدكتور أسامه حماد رئيس الحكومة الليبية التي تحظى بالشرعية الدستورية بمدينة العلمين الأسبوع الماضي وكان معه المهندس بلقاسم حفتر مدير صندوق تنمية واعمار ليبيا وحاتم العريبى رئيس جهاز الامداد الطبي والخدمات الطبية والعلاجية، لتكون الرسالة السياسية للإدارة المصرية شديدة اللهجة والوضوح بأنه لا تراجع في المضي قدما للوصول لحكومة توافق جديدة تشرف على الانتخابات وأن مصر داعمة وبشدة لأى اتفاق ليبي ليبي، مما أدى الى حالة من الارتباك والتخبط لدى حكومة الدبيبة وإصدار خارجيته بيان يهاجم الدولة المصرية بل ويتهمها أن هذا الاستقبال الرسمي لرئيس الحكومة الليبية أسامة حماد يعد تصرف يساهم في الانقسام الليبي، ثم تخرج رسالة أخرى تطالب السفارة المصرية في طرابلس بمغادرة عدد اثنين من دبلوماسيين البعثة المصرية مع ذكر أسمائهم وانهما تابعين لجهاز المخابرات المصرية.
ومع زيادة التخبط وعدم الاتزان لحكومة الدبيبة من جانب اخر استمر في التصعيد بالخلاف مع محافظ مصرف ليبيا المركزي (الصِديق الكبير) أصدر قرار للحاكم العسكري بالقبض عليه بعد أن تحالف مع رئيس المجلس الرئاسي لإقالته.
فجاء الرد الأمريكي في نفس اليوم باستقبال السفير الأمريكي لدى ليبيا ريتشارد نورلاند بمقابلة محافظ مصرف ليبيا المركزي في تونس ونشر على صفحة السفارة الأمريكية الرسمية أن أي تغير بالقوة لمنصب محافظ مصرف ليبيا المركزي يضع ليبيا خارج الأسواق المالية العالمية، في تهديد واضح بتجميد أي تحويلات عن طريق منظومة (السويفت كود) العالمية التي تتحكم فيها أمريكا، في حين صرحت القائمة بأعمال المبعوث الأممي لدى ليبيا السيدة ستيفانى خورى في تصريح شديد اللهجة أمن وسلامة موظفي مصرف ليبيا المركزي هو من اختصاص البعثة الأممية ولا يجب المساس به.
انتهاء اتفاق جينيف
واستغل المستشار عقيلة صالح السياسي المحنك هذا الضغط الدولي والتوتر في علاقات الدبيبة الدولية وخلال اجتماع البرلمان يوم الثلاثاء الماضي ليتخذ حزمة من القرارات التي تم التصويت عليها بالموافقة بالأجماع وكان أهمها انتهاء المدة الزمنية للاتفاق السياسي الذى تم في جنيف وعليه سحب صفة القائد الأعلى للجيش من المجلس الرئاسي وارجاع هذا المنصب الهام إلى رئيس مجلس النواب والتأكيد على انتهاء ولاية حكومة الدبيبة وسماها حكومة منتهية الولاية وغير شرعية والتأكيد أن البرلمان لا يعترف ولن يتعامل الا مع الحكومة الشرعية برئاسة الدكتور أسامة حماد.
وفى ظل التطورات السياسية والخطوات المتسارعة في محاولة الوصول لاتفاق وتعين حكومة جديدة تشرف على الانتخابات الرئاسية والبرلمانية ، بدء تحرك قوات من رئاسة الأركان البرية التابعة للقيادة العامة للجيش بقيادة اللواء صدام حفتر، تتجه غربا في الجنوب الليبي وتصل وتسيطر على الحدود الليبية الجزائرية وتسيطر على عدد من مدن الجنوب الغربي واهمها مدينة غدامس جنوب مدينة ترهونة و تمتلك تلك المدينة مطار جوى وجاء هذا التحرك العسكري بحاضنه اجتماعية شعبية بين أبناء المدن والقبائل بدون أي مناوشات عسكرية ، ويتم كسر خط (سرت – الجفرة) للمرة الأولى منذ منتصف عام 2020 ، ليزداد الضغط على جميع المعرقلين للمضي في المسار السياسي، ويلوح باحتمال تحرك عسكري لتحرير العاصمة من الميليشيات المسلحة المسيطرة على القرار السياسي.
وبات واضحا أن الاشهر الباقية من هذا العام ستشهد تقدم في تحديد خارطة طريق أو لجنة حوار جديدة لأنهاء عمل حكومة الدبيبة واختيار رئيس حكومة يتفق عليه الجميع ومن المرجح أن تشكل الحكومة الجديدة الموحدة مع مطلع العام القادم.