الاخبار الرئيسيةمتابعات

“حرب المسيرات” تعيد تشكيل ساحات الصراعات السياسية والعسكرية

تحليل: د. أحمد فتحي

سلطت الهجمات الحوثية الأخيرة على إسرائيل والحرب المستمرة في أوكرانيا الضوء العالمي على انتشار الطائرات الصغيرة بدون طيار في العمليات العسكرية (sUAS) ، المعروفة باسم المسيرات الانتحارية، ويتناقض هذا الانتشار للمسيرات بشكل صارخ مع استخدام المسيرات العسكرية الأكبر والأكثر تعقيدًا وباهظة الثمن، التي تمتلكها الجيوش العظمي وعلى رأسها المسيرة الأمريكية MQ-9 Reaper، والتي لا تزال بعيدة عن متناول العديد من الجيوش والجماعات وغيرها من الجهات الفاعلة غير الحكومية، وبدلاً من ذلك، تستهدف تلك المجموعات مسيرات متاحة تجاريًا بأقل تكلفة مما يجعلها عنصراً أساسياً في الحروب الحديثة.

ولم تكن المسيرات، والمعروفة عسكريًا أيضًا باسم المركبات الجوية القتالية غير المأهولة UCAVs، حديثة العهد، بل موجودة منذ عقود، وهي طائرات يمكن تشغيلها عن بعد من قبل طيارين على الأرض، سواء في مكان قريب أو على بعد قارة، أو يمكن برمجتها لتكون مستقلة، وتم استخدامها لأول مرة للمراقبة، وتصدرت عناوين الأخبار عندما بدأت الولايات المتحدة في استخدامها لإطلاق الصواريخ على أهداف في أفغانستان وأماكن أخرى، فيما سمي في ذلك الوقت بالحرب العالمية على الإرهاب، في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.

ومنذ ذلك الحين، تقدمت التكنولوجيا وانخفضت التكاليف، مما جعل المسيرات أداة جذابة للبلدان التي ترغب في إبراز قوتها الجوية، ولكنها محدودة الموارد. فقد دخلت الشركات المصنعة الجديدة مثل الصين وإيران، سوقًا كانت تهيمن عليها في السابق الولايات المتحدة وإسرائيل وروسيا. تعمل أوكرانيا الآن على زيادة الإنتاج المحلي لحربها مع روسيا – في حين تستخدم أوكرانيا أيضًا التعهيد الجماعي لشراء مسيرات من بلدان أخرى. وتؤدي مجموعة المسيرات المتوفرة في السوق مجموعة واسعة من الوظائف – المراقبة وجمع المعلومات الاستخبارية وأمن الحدود واستخدام القوة – وتسمح للجهات الفاعلة بالمشاركة في القتال في مواقع نائية دون تعريض المشغلين لخطر مباشر. على الرغم من أن المؤيدين يجادلون بأن التكنولوجيا تسمح للجهات الفاعلة بالانخراط في قتال أكثر جراحية من التوغلات البرية، على سبيل المثال، فإن السجل مليء بالضربات التي أخطأت الهدف.

على خطى الذكاء الاصطناعي، تتطور تكنولوجيا المسيرات بسرعة فائقة، متجاوزة المحاولات المتعثرة لتنظيمها. يمكن للمسيرات الأن إطلاق الصواريخ والقنابل والصواريخ الموجهة، كما يمكنها استخدام الأسلحة الأصغر حجمًا، وهي مبرمجة للانفجار عند إصابة هدف في مهمة “انتحارية” لمرة واحدة. بعد أن ارتبط استخدام المسيرات ارتباطًا وثيقًا بجهود الولايات المتحدة في مكافحة الإرهاب.

ففي الحرب الروسية الأوكرانية، استخدمت كلا من الدولتين المسيرات لإحداث تأثير كبير في ساحة المعركة، حيث عملت روسيا على تطوير المسيرات الإيرانية “الانتحارية” كسلاح فعال. وفي المقابل، حولت أوكرانيا المسيرات إلى أدوات تكتيكية للاستطلاع، وتوجيه الضربات الدقيقة، والتعطيل المستمر للقوات الروسية.

تطور المسيرات

في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وصلت المسيرات إلى فئتين. الأولى كانت بعيدة المنال بالنسبة لمعظم البلدان التي ليس لديها مطورو منصات متقدمة. أما الفئة الثانية والأصغر من المسيرات، فقد تعطلت بسبب محدودية أوقات الطيران والسرعة والمدى، فضلاً عن العيوب في وظائفها الأساسية. ومع ذلك، على مدى السنوات العشرين الماضية، أدت التطورات في تكنولوجيا البطاريات، والإلكترونيات المصغرة، وتطوير أجهزة الاستشعار، والذكاء الاصطناعي (AI) – بالإضافة إلى انتشار حالات الاستخدام التجاري المشروعة – إلى إنعاش سوق المسيرات. فقد خفضت المسيرات وزنها وحجمها، مما أدى إلى إطالة زمن الرحلة، وأصبحت معززة بكاميرات عالية الدقة. أصبحت الميزات المتقدمة مثل تجنب العوائق وتتبع نظام تحديد المواقع العالمي (GPS) وتكامل الذكاء الاصطناعي أمرًا شائعًا الآن. وقد أدى اتساع نطاق إمكانية الوصول إلى طفرة في التطبيقات التجارية مزدوجة الاستخدام، مما أدى إلى إدخال المسيرات في كل شيء بدءًا من الزراعة وخدمات التوصيل وصناعة الأفلام وحتى مهام البحث والإنقاذ.

إن مواجهة التهديد الحالي أثناء تطوير الأنظمة لمعالجة التطورات المستقبلية أمر صعب. وتُظهِر الهجمات الأخيرة على إسرائيل مدى سهولة واقتصادية نشر مسيرات “انتحارية” أحادية الاتجاه تتمتع بآلية طيران مبسطة ذات قدرات محدودة على تصحيح المسار. ومع ذلك، أصبحت المسيرات “الذكية” ذات القدرات الأكثر تقدمًا متاحة بشكل متزايد أيضًا. ويشمل ذلك أنظمة الأسلحة الفتاكة المستقلة التي لا تتطلب اتصال البيانات بين المشغل والمسيرة لمهاجمة الأهداف.

الوضع المتفاقم للمسيرات

يصبح الوضع أكثر إثارة للقلق عندما يمكن نشر مئات من المسيرات في وقت واحد في أسراب، حيث خيارات الدفاع ضد هذا الوابل محدودة حاليًا. وتشكل أنظمة الدفاع الجوي متعددة الطبقات، مثل القبة الحديدية الإسرائيلية، والتي تستخدم مجموعة من الرادار والمقذوفات والصواريخ لاعتراض جميع التهديدات الواردة من الصواريخ الباليستية إلى المسيرات، أحد الخيارات. وتمثل أسلحة الطاقة الموجهة سلاحًا آخر، على الرغم من أنها في مراحل مبكرة من التطوير والانتشار.

في مارس الماضي، وصف الجنرال مايكل كوريلا، قائد القيادة المركزية الأمريكية، المشكلة التي تواجه القوات الأمريكية قائلاً: “أود أن تنتج البحرية المزيد من الطاقة الموجهة التي يمكنها إسقاط المسيرات، حتى لا أضطر إلى استخدام صواريخ باهظة الثمن لإسقاطها. لكن ما هو أسوأ من عدم إسقاط هذا الصاروخ الباهظ الثمن هو أن تضرب المسيرة تلك السفينة التي تبلغ قيمتها ملياري دولار وعلى متنها ثلاثمائة بحار”

المسيرات الإيرانية “شاهد”

تعتبر طائرات شاهد-136 وشاهد-131 “الانتحارية” فخر صناعة المسيرات الإيرانية، فهي رخيصة الثمن لكنها فعالة، وفقًا للخبراء العسكريين. وصُنعت هذه المسيرات بمكونات جاهزة، مما أكسبها ألقابًا ساخرة مثل “جزازات العشب” و”الدراجات البخارية” بسبب صوت محركاتها أثناء الطيران.

ويختلف المدى التشغيلي المقدر لطائرة شاهد-136، لكن إيران تقول إنها قادرة على السفر لمسافة تصل إلى 2500 كيلومتر، مما يضع إسرائيل، التي تبعد حوالي 1000 كيلومتر عن إيران، على مسافة قريبة من مدها التهديفي. ويُقدر أن صاروخ شاهد-131 الأصغر حجمًا والأقدم يبلغ مداه 900 كيلومتر. تم إطلاق مسيرة شاهد-136 في عام 2021، ويمكنها الطيران بسرعة قصوى تبلغ حوالي 185 كيلومترًا في الساعة، مما يجعلها عرضة للاعتراض. كما أن سعة حمولتها محدودة، حيث تبلغ حوالي 50 كيلوجرامًا.

وتنشر إيران بشكل متزايد مسيراتها خارج حدودها، حيث قامت إيران بتزويد وكلائها في الشرق الأوسط بمسيرات شاهد، بما في ذلك الجماعات المسلحة في العراق وسوريا واليمن، وأبرزهم الحوثيون المدعومون من إيران في اليمن الذين أطلقوا عدد من مسيرات على إسرائيل في الأشهر الأخيرة. وفي الوقت نفسه، شنت الميليشيات الموالية لإيران في العراق وسوريا هجمات بمسيرات شاهد على القوات الأمريكية. ويقول المحللون إن المسيرات جعلت من الصعب التنبؤ بتحركات هذه الجماعات، بجانب ذلك اتهمت إيران بإرسال الآلاف من طائرات شاهد-129 وشاهد-191 إلى روسيا، مما عزز الحملة الجوية القاتلة لموسكو في أوكرانيا. وقد نفت طهران وموسكو هذه الاتهامات، ولكنها ترجمت على أرض الواقع.

الولايات المتحدة وإسرائيل في المقدمة

الولايات المتحدة وإسرائيل هما أكبر منتجي المسيرات، حيث أن الطائرة القتالية المسيرة الرائدة في أمريكا هي طائرة MQ-9 Reaper، التي تصنعها شركة جنرال أتوميكس، والتي استخدمتها القوات الجوية لدعم العمليات في جميع أنحاء العالم لأكثر من عقد من الزمان. بعد هجمات 11 سبتمبر، نفذت الولايات المتحدة الضربات الأولى في إطار برنامج المسيرات الأمريكي المزدهر باستخدام طائرة MQ-1 Predator، التي طورها سلاح الجو في القتال لمدة 21 عامًا. في 27 فبراير 2017، أعلنت وزارة الدفاع عن تقاعد طائرة بريداتور المسيرة “لمواكبة بيئة ساحة المعركة المتطورة باستمرار”. تبيع الولايات المتحدة المسيرات لأعضاء الناتو فقط، لكنها وافقت على بيعها للهند في عام 2018. وإذا تمت الصفقة، فستكون هذه أول عملية بيع من خارج الناتو تبدأها الولايات المتحدة.

وفي الوقت نفسه، تم تصميم مسيرة IAI Heron الإسرائيلية للتنافس مع Reaper. وتعتبر إسرائيل ثاني أكبر مصدر للمسيرات في العالم. وشكلت المسيرات الإسرائيلية 41% من جميع مبايعات المسيرات طيار التي تم تصديرها بين عامي 2001 2021، وفقا لقاعدة بيانات جمعها معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام (SIPRI)، على الرغم من أن إسرائيل ترفض الكشف عن القائمة الكاملة للدول التي باعت لها أسلحة عسكرية، ولكن تشمل القائمة الجزئية للمتلقين الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وكندا وفرنسا وأستراليا وألمانيا وإسبانيا والبرازيل والهند وهولندا وأذربيجان ونيجيريا.

التنين الصيني في سباق المسيرات

لقد أدى صعود المسيرات العسكرية إلى تغيير شكل الحرب في مناطق الصراع مثل أوكرانيا وغزة، وهو التطور الذي لم يمر دون أن تلاحظه الولايات المتحدة – أقوى جيش في العالم – ومنافستها التي تحتل المركز الثاني الصين، لقد كانت الدولتان تراقبان التكنولوجيا، واستخداماتها الاستراتيجية الأكثر فعالية، وتداعيات الذكاء الاصطناعي، لتحديد ما قد تعنيه لأي مواجهة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ.

على مدى العامين الماضيين، كانت الصين تستثمر بشكل كبير وشامل في المسيرات، مما جعلها تصنع معدات أسرع وأذكى وأكثر قدرة على التكيف للبحرية والجيش والقوات الجوية بمعدل لفت انتباه المراقبين العسكريين.

ويرى الكثير من المحللين أن جهود الصين لتوسيع استخدامها للمسيرات قد تعززت بفضل تأكيد الزعيم الصيني شي جين بينج على ضرورة استغلال التكنولوجيا والتحديث في الجيش، وهو الأمر الذي سلط الضوء عليه في اجتماع رفيع المستوى للحزب الشيوعي الشهر الماضي.

ويطور الجيش الصيني أكثر من 50 نوعًا من المسيرات بقدرات متفاوتة، ويجمع أسطولًا من عشرات الآلاف منها، ربما أكبر بعشر مرات من تايوان والولايات المتحدة مجتمعتين، باعتبار أن الصين هي أكبر مصنع للمسيرات التجارية في العالم، هذه الميزة الكمية تغذي حاليًا التحديث العسكري المتسارع للصين، مع توظيف المسيرات لكافة المهام من جمع المعلومات الاستخباراتية قبل الصراع إلى الهجمات الجماعية

وتشير تقارير الاستخبارات الأمريكية أن تفوق الصين في تصنيع المسيرات التجارية يساعد جيشها في الدفع نحو تطوير المسيرات العسكرية، حيث تهيمن شركة DJI الصينية على إنتاج وبيع المسيرات المنزلية، بنسبة تمثل 76٪ من سوق المستهلك العالمي في عام 2022، وبالنسبة لتوافر مميزات ضخامة الإنتاج والسعر المنخفض لمسيرات DJI فمها يعززان من وضع الصين في حرب المسيرات المحتملة.

وتنفي الصين باستمرار أنها تسعى إلى استخدام تكنولوجيا المسيرات التجارية في الأغراض العسكريةـ إلا أنه في مايو، ذكرت صحيفة Naval News التي تتخذ من باريس مقراً لها أن “سفينة غامضة” تم رصدها في صور الأقمار الصناعية لحوض بناء السفن بالقرب من شنغهاي بدت مصممة خصيصًا لاستضافة المسيرات بدون طيار ذات الأجنحة الثابتة، وإذا كان هذا صحيحًا، فقد تكون هذه أول حاملة بحرية مخصصة للطائرات بدون طيار في العالم.

وتشير العديد من التسريبات حول حاملة الطائرات الهجومية البرمائية من طراز 076، والتي لا تزال قيد الإنشاء في حوض بناء السفن في شنغهاي، أنها الأولى عالميًا – كمنصة مشتركة لإطلاق للطائرات بدون طيار والمروحيات، في ظل ارتفاع أخطار تصعيد الصراعات في بحر الصين الجنوبي ومضيق تايوان، حيث تمارس كل من بكين وواشنطن نفوذهما في منطقة المحيطين الهندي والهادئ.

يذكر أن مطلع الشهر الحالي أعلنت شرطة الجمارك في جنوب إيطاليا عن ضبط شحنة غير معلنة من “مسيرات حربية ” صينية متجهة إلى ليبيا في عملية سرية استمرت أسابيع، وبحسب ما ورد تم تنسيقها بمساعدة من الاستخبارات من الولايات المتحدة.

وقالت السلطات الإيطالية في بيان نشرته وكالة رويترز إنه تم ضبط ست حاويات من الصين في ميناء جيويا تاورو كشف عن “هياكل وأجنحة طائرات بدون طيار مخصصة للاستخدام العسكري، يمكن تجميع المكونات، التي تم إخفاؤها على أنها أجزاء من توربينات الرياح، في مركبتين جويتين بدون طيار تزن كل منهما أكثر من 3 أطنان، ويبلغ طولها 32 قدمًا وباع جناحيها 65 قدمًا، وفقًا للبيان الصادر عن الجمارك الإيطالية، حيث أشارت الصور التي نشرتها رويترز إلى المعدات التي تنتمي إلى المسيرة الصينة الشهيرة Wing Loong II، والتي تم تصديرها العديد من دول العربية في الخليج وشمال أفريقيا.

ولقد توسعت الصين بشكل كبير في تطوير وتصدير الطائرات العسكرية بدون طيار خلال العقد الماضي. وقد تم إبرام صفقات بارزة في جميع أنحاء العالم لسلسلة Wing Loong، ولكن أيضًا لمسيرات Rainbow و WJ، مما يضع الصين في سباق تسليح نحو حرب المسيرات التي قد تندلع في مناطق آخري بعيدًا عن روسيا وأوكرانيا وقطاع غزة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى