حديث الخطر.. لماذا يعبث الناتو بجسد روسيا والصين؟!
كتبه د.محمد حسين أبوالحسن – تأسس حلف شمال الأطلسي “الناتو”عام 1949؛ للدفاع عن الغرب وقيمه الرأسمالية، بمواجهة الاتحاد السوفيتي القوة العظمى الثانية آنذاك، في تجسيد لسياسـة الاحتواء الأمريكية، طوال الحرب الباردة التي انتهت بانهيار الاتحاد السوفيتي ومعه حلف “وارسو”، فانتفت الحكمة من جود “الناتو” لكن الحلف واصل الوجود، برغم اختفاء التهديد الذي نشأ لملاقاته، في سابقة فريدة، ما استلزم إيجاد “عدو بديل”، وكانت “قبلة الحياة” عملية توسيع الحلف إلى خاصرة روسيا وشواطئ الصين..اليوم تقذف الحرب في أوكرانيا أطنانا من الحبر وسيول الكلمات حول نقطة اشتعالها، أي رغبة “الناتو” في التمدد شرقا، ووضع صواريخ نووية على بعد بضع مئات من الكيلومترات عن موسكو، فما هي دوافع الإصرار الغربي على مواصلة الهيمنة وتركيع المنافسين دفعة واحدة؟!.
ضربة البداية
اتخذ الناتو منذ تأسيسه نهجا مؤسسيا، بعكس الأحلاف السابقة التي قامت لأغراض وقتية دفاعية أو هجومية، وفقا لاعتبارات توازن القوى، ما أتاح للحلف التكيف مع البيئة الأمنية العالمية، بتعديل استراتيجيته وتطوير هياكله السياسية والعسكرية، لاسيما عقب انتهاء الحرب الباردة، تبدى ذلك في مظهرين: التحول من الدفاع عن الجغرافيا الأطلسية، إلى تحالف دفاعي عن مصالح أعضائه عبر العالم؛ لم يعد “الحلف” يتقيد بالجغرافيا في عمله، دأب على حرية الحركة، في سياق رغبة أعضائه، بزعامة الولايات المتحدة، في التحكم بالنظام الدولي وتطويعه على مقاس مصالحهم.
ولأن حيوية “الناتو” ضرورة لإنجاز أهدافه، أخذ يتمدد في شرق أوروبا، دون توقف، كتبرير إيديولوجي لبقائه، بعد الحرب الباردة، “ضربة البداية” وردت في خطاب الرئيس الأمريكي بيل كلينتون في يناير 1994 أمام قمة الحلف في بروكسل، من خلال دعوته إلى “الشراكة من أجل السلام”، وسرعان ما وقعت 27 دولة على طلـب الانضمام إلـى الحلف الذي تمدُّد شرقا، فيما روسيا في حالة ضعف شديد، على شكل موجات، أولاها عام 1999، وضمت التشيك والمجر وبولندا. الموجة الثانية عام 2004، اشتملت بلغاريا ورومانيا وسلوفاكيا وسلوفينيا وإستونيا ولاتفيا وليتوانيا، بينما كانت روسيا تتعافى من الوهن، لكنها لم تكن مؤهلة للمواجهة. وبدأت الموجة الثالثة في 2009 وما تلاها، وضمت ألبانيا وكرواتيا والجبل الأسود ومقدونيا الشمالية، وقد طرقت تلك الموجة أبواب جورجيا وأوكرانيا؛ انزعجت موسكو وقرر بوتين التصدي.
ليس كل الدول سواء، من منظور الجغرافيا السياسية، يبلغ طول الحدود الأوكرانية- الروسية 2300 كم، تلامس شغاف القلب الروسي- الأوروبي. جورجيا أصغر مساحة وسكانا من أوكرانيا، لكنها لا تقل عنها أهمية لروسيا؛ من ثمّ يصعب على الدب الروسي احتمال تحول أي الدولتين قاعدة للناتو؛ يشبه الأمر وضع صواريخ روسية، في ولاية تكساس أو كاليفورنيا بالنسبة إلى الولايات المتحدة. يعمق تمدد الناتو الجرح الوجودي الروسي، بعد تفكك الاتحاد السوفيتي. لا تتوانى موسكو عن مراقبة سلوك الناتو تجاه جورجيا وأوكرانيا، في كل مرة يحاول وضع قدمه هناك، كان الرئيس الروسي يتدخل بخشونة لعرقلة المخطط، تدخل عسكريا في أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا بجورجيا عام 2008. ثم انتزع شبه جزيرة القرم في 2014، عندما تولى الحكم في كييف نظام موال للغرب، لم يكن من السهل لروسيا أن تترك القرم وشرق أوكرانيا؛ لإكمال “الطوق الناتوي” حول عنقها، لكن ذلك لم يكن كافيا لوقف خطوات الناتو تجاهها، أكد الحلف في يونيو عام 2021 السعي لضم ضمّ أوكرانيا إلى عضويته، لتتدحرج الأحداث ولما أعيت روسيا الحيل اجتاحت روسيا أراضى أوكرانيا لمنع توسع الناتو.
حرب عالمية
لكن لماذا يخاطر الحرب بإشعال حرب عالمية ثالثة، مع قوة نووية بوزن روسيا، بكل الأخطار التي يمكن أن تنجم عنها، والتي قد تصل إلى حد إبادة الجنس البشري؟!.
يرمي الحلف إلى ضرب عدة أهداف بحجر “التوسع” شرقا، أبرزها الحيلولة دون بروز قوة عظمى منافسة أو نظام عالمي ثنائي القطبية أو متعـدد الأقطـاب، ومواجهة أي تهديد لمصالح أعضائه من خارج نطاق دوله، واحتواء أي دور بازغ لروسيا، إقليميا أو دوليا، والاحتفاظ بأوروبا الشرقية بعيدا عن دائـرة النفـوذ الروسي، وربطها بشبكة علاقات مع الحلف وطرْق أبواب الصين، ومنع قيام تحالف بين بكين وموسكو، وبسط نفوذ الحلف في المناطق المهمة استراتيجيا، كالمحيطين الهادي والهندي، كذلك الشرق الأوسط حيث منابع الطاقة، ومنع أي تهديد لمصالح أعضائه، من جانب جماعات (طالبان، القاعدة، داعش) أو دول (إيران أو غيرها)، في إطار ما يسمى الحرب على الإرهاب.
الزعامة الأمريكية
يتمثل الهدف الاستراتيجي للناتو في تكريس الزعامة الأمريكية عالميا، وتثبيت ركائز الأمن في القارة العجوز، لمنع عدم الاستقرار أو الصراع بين دول أوروبا، هذا الصراع الذي كانت نتيجته في الماضي حربين عالميتين، فاستمرار الحلف يعني تواصل الدور القيادي الأمريكي؛ باعتبار الناتو الأداة الأهم لضمان النفوذ الأمريكي في الشئون الأوروبية، نفوذ مهم لأوروبا وأمريكا معا، للاحتفاظ بقيادة العالم، يرى زبيجينيو بريجينسكي مستشار الأمن القومي الأمريكي الأسبق أن أوروبا هي الحصن الجيوسياسـي المتقـدم لأمريكا في القارة الأوراسية، وحلف الناتو يحصن النفوذ السياسي والقـوى العسـكرية الأمريكيـة مباشرة على البر الرئيسي لأوراسيا. وفي ظل الاعتماد الأوروبي على الحماية الأمنيـة الأمريكية؛ فإن أي توسع في نطاق الناتو أوروبيا يصب تلقائيا في نطاق النفوذ الأمريكي ويطبع ظلاله على وجه أوراسيا.
يمكننا أن نستشف من كلام بريجينسكي أن إبقاء أوروبا في حاجة دائمة للناتو، كدرع للحماية والنفوذ، يجعلها في وضع احتياج مستمر للولايات المتحدة، وهذا معناه أن تواصل واشنطن جني المكاسب الاستراتيجية، والدور الوظيفي للناتو هو بمثابة رأس حربة للمشروع الغربي.
إنه زمن البحث عن “الاستثنائية الأمريكية”، استثنائية تتطلب أن يظل الآخرون غير استثنائيين، فإن أبوا، يصبحون خطرا على “الأمن القومي الأمريكي”، أي على مشروع الهيمنة على العالم. وروسيا الكتلة الجغرافية السياسية الأضخم عالميا، خطر موضوعي ومستقبلي، حتى وهي نائمة أو تائهة. ولهذا فإن مشروع تفكيك الجغرافيا يظل على الطاولة، إن توسع الناتو يهدف لتطويق روسيا، احتوائها، خنقها، إسقاطها، تفكيكها، ثم يأتي دور التنين الصيني، حتى يتبخر أي عائق جغرافي سياسي أمام الهيمنة الغربية، هذا هو معنى تمدد الناتو. بيد أن الحلف يمكـن أن يضعف أو يتفكك إذا أخفق في أداء وظائفه، وبالعكس يمكنه البقاء بالتحول من تنظيم عسكري إلى قوة عسكرية سياسية عالمية، تبسط هيمنة الغرب على النظام الدولي، هذا التحول في الوضع السياسي والعسكري للحلف يغير طبيعة المخاطر التي يواجههـا واستراتيجيات التصدي لها. وذاك حديث آخر.