دراسات

من قفزة “ماو” في الفراغ إلى قفزة “شي” الواثقة في “شرق أوسط” أمريكا القديم

في نهاية خمسينات القرن الماضي نَظَّم الحزب الشيوعي الصيني بقيادة الزعيم الصيني ماو تسي تونغ، حملة اقتصادية اجتماعية قوامها تعبئة السكان الضخم لتطوير الدولة بشكل سريع من الاقتصاد الزراعي إلى مجتمع شيوعي حديث من خلال عمليتي التصنيع والتنظيم الجماعي السريعين. قادها الرجل اعتمادا على رهان تعسفي مكابر بتطوير القوى المنتجة في زمن قياسي ضاغط والإنقلاب عليها، في غمار تفاصيل الخطة بعد إبلاغه بكارثة وشيكة تتعلق بنقص الحبوب، التي مثلت إعاقة كبيرة لها. هذه القفزة المزعومة كلفت ملايين القتلى من لدن القوى المنتجة المُعَوَّل عليها.

الإجبار والإرهاب والعنف المنظم كانت الأسس الرئيسة للقفزة الصينية في الفراغ، تلك السياسات “التي تمليها عموماِ أي خطة تراكم إقتصادي تعمل على توفير الفائض الإحتياطي الذي من شأنه منح الدولة وزنها الاقتصادي داخليا ودوليا”، فتح على البلاد سياسات الإقصاء وإلغاء التاريخ لاحقا بعناوين الثورة الثقافية في ستينات القرن الماضي، في سيرورة “تضخم غدد” قومي أطاح بالثورة الصينية ومضمونها العدالي الاشتراكي، مع عمى الألوان الذي صاحب مقررات مؤتمر الحزب الشيوعي الصيني التاسع وتنصيب الإتحاد السوفييتي آنذاك العدو الرئيسي الأول لمصالح الدولة القومية الصينية باعتباره إمبريالية شابة”. “

مقابل قفزة فراغ الأمس تمتلك قفزة الرئيس الصيني شي جين بينغ اليوم، أرضا صلبة لترسيخ سياسة ونفوذ صيني وافد في منطقة متخمة بموارد الطاقة والنزاعات والحروب والتوترات البينية، التي تطال معظم دولها والمُطوَّبة أمريكيا منذ عشرات السنين، في تحول جيوسياسي من خلال رعاية الصين للتفاهم السعودي- الايراني بعودة العلاقات الديبلوماسية بينهما، وإلى الإنفراجات التي قد تترتب على هذا الحدث إقليميا، وهو يدل بوضوح لاتخطئه العين تعاظم التأثير الصيني في منطقة مطوبة أمريكيا كما أسلفنا القول.

هل الصين قوة سلام دولية ضامنة؟:
مقابل الوزن الاقتصادي الدولي الذي تحوزه الصين الذي حولها الى قطب اقتصادي منافس للقوة الاقتصادية رقم واحد عالميا يتصاعد المعادل السياسي لهذا الوزن من خلال العديد من الاختراقات التي تجعل من الصين قوة سلام دولية ضامنة وموثوقة. جاءت رعايتها للاتفاق السعودي – الايراني بعد المبادرة التي قدمتها وعرضتها الصين على أغلب ديبلوماسيات العالم متضمنة إقتراحات وتصورات لوقف الحرب الناشبة بين روسيا وأوكرانيا.

تندرج هذه المبادرات في إطار التصورات الاستراتيجية لصياغة نظام دولي جديد تروج لقيامه الصين وروسيا وتؤيده دول وازنة في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتتينية، ودولا أوربية تبدي تململاً إزاء النظام الدولي الحالي الذي يتفق الجميع على تسميته بنظام هيمنة القطب الواحد. وبالفعل كانت الأنظار مشدودة إلى أوكرانيا والى الحملة التي شنتها إدارة الرئيس بوش على الصين عقب تقدمها بمبادرة من 12 بند لحل النزاع الروسي الاوكراني في الذكرى السنوية الأولى لإندلاع أخطر حرب على الأراضي الأوربية منذ الحرب العالمية الثانية.

ترحيب وإرباك أمريكي وضيق إسرائيلي:
ولأن أي انفتاح إقليمي على إيران لن ينزل بردا وسلاما على الولايات المتحدة فإن الإرباك الأمريكي بعد الترحيب على التفاهم الحاصل يعزز ظنونها حيال سعي الصين الى دور عالمي قد بدأ يفرض نفسه، لن تحصر الصين نفسها كثاني قوة اقتصادية في العالم بالتبادل التجاري ، بل هاهي تخترق درة تاج المواقع الاستراتيجية للولايات المتحدة وعلى كتف واحد من أهم حلفائها الاستراتيجيين ” السعودية”، ولا يتعلق الموقف بالانكفاء الأمريكي المزعوم” الذي بيدو انكفاء ديبلوماسيا فقط” في المنطقة الذي يتبناه بعض المحللين بذريعة حشد كل قواها لمواجهة الصعود الصيني في المحيطين الهادئ والهندي، بقدر ما يتعلق بالأولويات المفروضة من ناحية، والإطمئنان إلى آليات التحكم ” الموضوعية” التي انبنت عليها سياسة الولايات المتحدة،عبر مخالبها المتعددة وفي مقدمها المخلب الإسرائيلي.

تنميط سياسي في النظر للصين :
لا ينطلق الاهتمام الصيني بالخليج العربي/ الفارسي من التنافس مع الولايات المتحدة، بل يستند من واقع أن المنطقة تعد مورد طاقي استراتيجي لها ومن أهمية أن تكون بيئتها مستقرة لترسيخ مبادرة “الحزام والطريق” سيما وأن الصين الشريك التجاري الأول للدول الخليجية العربية وإيران، في ظل انكفاء ديبوماسي امريكي حيال دول المنطقة دون أن يرافقه بطبيعة الحال بانكفاء مصالحها في المنطقة، وقد خلق هذا التناقض آراء تحليلية انقسمت الى فريقين: فريق أول ينطلق من واقع ابتعاد امريكا عن المنطقة ما دفع الأطراف العربية بالانفتاح على طهران ومزيدا من الانفتاح التلقائي على بكين. الفريق الثاني ينطلق من تاريخ التنسيق والتوافق في المواقف بين أمريكا وحلفائها الخليجيين التاريخيين في المنطقة، وعدم استعدادهم للتخلي عن دائرة الهيمنة الامريكية وأنهم يلعبون أدواراً تمليها عليهم الإدارة الأمريكية، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر. من هنا يأتي تأكيدهم أن التفاهم الايراني السعودي لم يكن “من خلف” ظهر الولايات المتحدة بل بمعرفتها رغم ظاهر الحديث عن سرية ترتيبات التفاهم التي لعبت دول وثيقة الصلة بالولايات المتحدة ” العراق ، سلطنة عمان” في التمهيد له وإيصاله الى نهاياته التوافقية بين البلدين . تجاوزت الصين في مجموع خطواتها مؤخرا وعلى أكثر من صعيد سياسي قزامتها الدولية التي وضعت نفسها فيها في أزمنة سابقة مقابل جبروتها الاقتصادي العملاق، وما يمنح هذا النزوع المتصاعد القوة، أنها ليست في جلباب أي دولة عظمى كحال الاتحاد الأوربي تجاه الولايات المتحدة.

ساحات اختبار التفاهم العتيد:
ومن الطبيعي ان هذا يجد التفاهم ساحات جديته ومصداقيته في ساحات الصراع الساخنة وفي مقدمها اليمن وحربها والأزمة السورية المنفتحة على العديد من التعقيدات الدولية والاقليمية، ما يتيح فتح مخارج جدية تخفف من الأعباء الكارثية التي ولدتها سنين الحرب وأضافها المدمر فيما يتعلق بسورية. دون أن نغفل أثر هذا التفاهم في تخفيف الجراح المثخنة التي تعانيها إيران جراء الحصار والعقوبات والإضطرابات الداخلية الناجمة عن الوضع المعيشي الصعب الذي وجد منافذ تفريغه في الاحتجاجات التي تفجرت إثر وفاة الشابة الكردية ميهسا أميني في مركز للشرطة في أيلول من العام الماضي.
ردود الأفعال على وسائل التواصل الاجتماعي :

اختلفت ردود الفعل على التفاهم الثنائي وفق حالة التقاطب المسيطرة في الإقليم، رغم ما أشاعه التفاهم من ارتياح وآمال سمتها الإنهاك المشترك الذي طال كل الاطراف المتحاربة: “الصين توحد أكبر قطبين إسلاميين بالعالم وإن شاء الله رمضان الجاي رح نشوف الهلال سوا ونصوم ونفطر سوا ونسهر ونتسحر ونعيد سوا ونحل مشاكل سورية واليمن سوا والصلح سيد الأحكام يا قوم” هكذا صاغ أحدهم على صفحته على الفيسبوك ساخرا ومتهكما من الاختلافات المفتعلة بين القطبين الإسلاميين “حتى في رؤية الهلال”

يمكن تناول هذه الصياغة كـ عينة من التفاؤل الجارف الذي طغى عقب التوقيع على التفاهم السعودي- الايراني برعاية صينية، وقد أنعش آمالا مكبوتة وهو تحت وقع الصدمة مما يسمعه أو يراه حيث وقف كبير الديبلوماسية الصينية متوسطا مسؤولي البلدين في اختراق سياسي يجعل من هذه اللحظة الفاصلة ميلادا حاسما يؤرخ لدور وحضور سياسي صيني في “الشرق الأوسط” أهم معقل من معاقل الهيمنة الأمريكية ومربط خيولها وعقدة مصالحها الأهم خارج حدودها القارية.

بالتأكيد لا يمكن لوعي سياسي يعي تعقيد العلاقات الدولية وبالذات الخلاف الخليجي – الايراني أن ينساق وراء تحليل “ديني” في مقاربة الصراعات الدولية والاقليمية وبشكل خاص الصراع الخليجي الايراني، وبالفعل نحن أمام صراع ديناصورات إقليمية ودولية جبارة. صراع سياسي في الصميم ولا علاقة له بالدين مباشرة، ولأنه كذلك غالبا ما يتمظهر هذا الصراع كـ “صراع طائفي” استعاد رمزيته في خلاف تاريخي سياسي هو الآخر، حشد في أتونه كل فريق ترسانته الايديولوجية الفقهية ومسوغاته الدينية المصطنعة غب الطلب في تدعيم مواقفه وإثبات شرعيته لتكريس هيمنة السلطة والثروة واحتكارهما.

أسئلة ضرورية عن تحول حاسم
هل يشكل التحول هذا في الشرق الأوسط علامة من علامات إنهيار القطبية الأحادية التي استحوذتها الولايات المتحدة منذ سقوط القطب الاشتراكي نهاية ثمانينات القرن الماضي؟
هل أحدث الغزو الروسي لأوكرانيا زلزالا جعل الصين يستشعر من ذاتها قوة جيو سياسية قادرة على إجتراح الحلول لنزاعات كان للولايات المتحدة يدا غير خافية في تأجيجها؟
في مكان ما كتب ماركس : أن التاريخ لا يتقدم إلا من جانبه المتعفن” ربما شكل الغزو الروسي لأوكرانيا وتداعياته العالمية هذا العفن المتفسخ لولادة نظام دولي جديد، نظام دولي متعدد الأقطاب. نظام لا نتوقع أن يلقي بظلاله الإيجابية مع كل مزاياه الواعدة بكسر ولجم الهيمنة الأحادية للعالم التي تنفرد بها الولايات المتحدة، على شعوبنا بالرغد والحياة الحرة الكريمة.
إن ذلك ” دونه خرط القتاد”*
القتاد نوع من النبات له أشواك كالأبر، والخرط أن تزيل ورق هذا النبات بكفيك. ف” خرط القتاد” تعني إزالة هذه الأشواك التي تشبه الإبر باستعمال الأكف
فراس يونس

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى