تأملات فى دلالات الاتفاق السعودى ــ الإيرانى وتداعياته
تحليل د. أحمد يوسف أحمد – أحدث الاتفاق السعودي-الإيرانى الأخير على إعادة العلاقات الدبلوماسية بين طرفيه أصداء هائلة عربيًا وإقليميًا وعالميًا، وهو أمر متوقع بالنسبة أولًا للوزن الإقليمى لطرفيه، وثانيًا الوزن العالمى لراعى الاتفاق، وقد أثار التوصل للاتفاق أفكارًا وقضايا عديدة، وأتخير من هذه الأفكار والقضايا أربعًا تتعلق الأولى منها بتحولات النظام الإقليمى، والثانية بالتحول الواجب فى النظام العربى، والثالثة بالتداعيات المُحتملة للاتفاق على الصراعات الدائرة فى بعض البلدان العربية، والرابعة بدلالات الاتفاق بالنسبة لنموذج القيادة فى النظام العالمي.
وتتلخص التحولات الجارية فى النظام الإقليمى فى أن ثمة تغيرًا واضحًا قد طرأ على علاقة النظام العربى بمحيطه الإقليمى، وأهم الفاعلين فيه كما هو معروف إيران وتركيا وإسرائيل، وقد تميزت تلك العلاقة لمدة طويلة بطابع صراعى واضح تفاوتت حدته من دولة لأخرى، فوصلت شدة الصراع مع إسرائيل الى ذروتها بسبب طبيعة المشروع الصهيونى التى أفضت إلى حروب متكررة في١٩٤٨و١٩٥٦ثم في١٩٦٧و١٩٧٣، ليبدأ بعدها أول المؤشرات على إمكانية اتباع نهج جديد فى إدارة الصراع سياسيا كما تمثل فى التسوية السياسية بين مصر وإسرائيل، وهو نهج بدأ مصريا وقوبل بمعارضة عربية ثم انتشر تدريجيًّا ليشمل النظام العربى كله بمبادرة التسوية السلمية التى وافقت عليها قمة فاس العربية١٩٨٢، ثم مبادرة التطبيع الشامل مع إسرائيل فى مقابل استجابتها للمطالب العربية التى وافقت عليها قمة بيروت٢٠٠٢، وأخيرًا اتفاقيات التطبيع التى تمت بين أربع دول عربية وإسرائيل في٢٠٢٠، أما الطرفان المهمان الآخران فى قوى المحيط الإقليمى للنظام العربى فقد اتسمت علاقة النظام العربى بهما بصفة عامة قبل الثورة الإيرانية ١٩٧٩، وقبل وصول حزب العدالة والتنمية للحكم فى تركيا ٢٠٠٢ بقدر من التوتر وأحيانًا الصدام بسبب تموضعهما ضمن المعسكر الغربى المعادى لأهداف التحرر العربى، لكن تخلص الدولتين من التبعية للغرب أفضى لأن يكون لكل منهما مشروعه الإقليمى الخاص الذى تعارض كذلك مع مصالح عدد من النظم العربية، وبالذات بعد أن خلق عدم الاستقرار عقب الانتفاضات الشعبية فى مطلع العقد الثانى من هذا القرن مناخًا مثاليًا لاختراق بعض الدول العربية، غير أن استمرار التعارض بين النظام العربى ومحيطه الإقليمى، وتكلفة هذا التعارض أفضيا إلى تحولات فى العلاقات تمثلت فى الانفتاح الإماراتى على كلٍ من تركيا وإيران، والانفتاح السعودى على تركيا بالإضافة لحوار مع إيران أثمر الاتفاق الأخير على إعادة العلاقات، والحوار المصرى – التركى الذى حقق مؤخرًا نتائج تشير إلى قرب عودة العلاقات لطبيعتها، علمًا بأن العلاقات الدبلوماسية بين البلدين لم تُقطع وقت الخلاف، كما أن العلاقات الاقتصادية حافظت على وتيرتها الطبيعية فى أثنائه.
وتثير هذه التطورات أمرين يتعلق أولهما بدور الأفكار فى التحولات السياسية، وأقصد أن أفكارًا كانت قد طُرِحَت منذ أكثر من١٠سنوات فى هذا الاتجاه، وبالتحديد مبادرة السيد عمرو موسى إبان توليه الأمانة العامة للجامعة العربية فى قمة سرت٢٠١٠، بتأسيس رابطة لدول الجوار العربى، وكان من شأن أخذ هذا المقترح على محمل الجد أن يوفر على جميع الأطراف تكلفة سياسية ومادية هائلة، لكن بعض الدول العربية تحفظ، عليه مع أن موسى كان واعيًا بالصعوبات الناجمة عن تناقض المصالح وطرح تصورًا واضحًا للتعامل معها، وليت هذا يكون دافعًا لنا للاجتهاد والإبداع فى أفكار يمكنها تجاوز المشكلات العربية المزمنة، أما الأمر الثانى فهو أن التطورات الأخيرة تدفع البعض للترويج لفكرة تبلور نظام شرق أوسطى يحل محل النظام العربى، ويجب فى هذا الصدد التفرقة بين أن يكون هناك ـ واقعيا ـ نظام للتفاعلات بين دول إقليم الشرق الأوسط، وهو نظام ينطوى على تفاعلات صراعية وتعاونية معًا، وبين تخيل أن هذا النظام يمكن أن يحل محل النظام العربى، وعلى الرغم من أن هذا النظام مأزوم بمعنى الكلمة إلا أن الحديث عن إحلال نظام شرق أوسطى محله بلا أساس أصلًا، فما يُسمى بالنظام شرق الأوسطى مازال حافلًا بتفاعلات صراعية ليس فقط بين دول عربية وأخرى شرق أوسطية، كما هو الحال فى العلاقة بين إسرائيل وعديد من الدول العربية، وإنما أيضًا بين دول النظام شرق الأوسطى غير العربية، كحالة إسرائيل وإيران أو حتى إيران وتركيا، ولذلك فأى حديث عن نظام شرق أوسطى يحل محل النظام العربى رغم أزمته فاقد للأساس أصلًا، وقد فشلت كل محاولات إقامة نظم شرق أوسطية أمنية فى مرحلة المد القومى العربى كحلف بغداد ومشروع أيزنهاور فى خمسينيات القرن الماضى، وكذلك مُنيت جهود إقامة نظام شرق أوسطى اقتصادى بالفشل عقب اتفاقية أوسلو١٩٩٣، وكذلك محاولات إقامة التحالف شرق الأوسطى الذى ورد ذكره فى بيان قمة الرياض٢٠١٧ ثم وأدته قمة جدة للأمن والتنمية فى العام الماضى، وأهال عليه التراب الاتفاق السعودى – الإيرانى الأخير.
وبالنظر فى التداعيات المُحتملة للاتفاق على الصراعات الدائرة فى بعض البلدان العربية، فهذه الصراعات نشبت عقب الانتفاضات الشعبية فى مطلع العقد الماضى، واكتسبت أبعادًا إقليمية وعالمية بدرجات متفاوتة بحيث لم يعد ممكنًا وصفها بأنها صراعات عربية واستدامت حتى الآن، فهل يكون للاتفاق السعودي-الإيرانى تأثير عليها؟ والبديهى أن تكون الإجابة بالإيجاب لأن لطرفى الاتفاق مواقف فاعلة تجاهها وإن يكن بدرجات متفاوتة، فبينما يبدو تأثيرهما فى حده الأقصى فى الصراع الدائر فى اليمن تشترك معهما فى التأثير الواضح قوى إقليمية وعالمية كتركيا وروسيا والولايات المتحدة فى سوريا، ونفس هذه الدول مع بعض الدول الأوروبية فى ليبيا، ولا يعنى هذا غياب أى تأثير لقوى إقليمية وعالمية فى اليمن ولكنه فى حده الأدنى، وعلى ضوء هذه الإجابة لا يصبح السؤال عن تأثير الوفاق السعودي-الإيرانى على الصراعات فى البلدان العربية وإنما عن درجة هذا التأثير، وقد كتبت فى يناير الماضى موضوعًا بتكليف من مركز المستقبل بدولة الإمارات بعنوان احتمالات تسوية صراعات الشرق الأوسط في٢٠٢٣ كانت فكرته الأساسية أن أى تغيير فى أوضاع هذه الصراعات سيكون أساسًا بفعل المتغيرات الإقليمية نظرًا لاستمرار الاستقطاب الحاد بين أطراف الصراع المحليين، وعدم قدرة هذه الأطراف على حسم الصراع عسكريًّا حتى الآن بسبب الدعم الإقليمى والعالمى الذى تتلقاه، وبالنسبة للقوى العالمية فإن أولوية الصراعات الإقليمية قد تراجعت بالنظر للتطورات الخطيرة الجارية الآن على الساحة الدولية والتى تتعلق بمصالح وقيم أهم بكثير من الصراعات التى تجرى على الأراضى العربية، ولذلك فإن لهذه الحرب أولوية حاسمة بالنسبة للقوى الكبرى مما يؤثر بالتأكيد على الموارد التى يمكن أن تخصصها للصراعات الدائرة فى منطقتنا، ونستطيع أن نفهم هذه المقولة عندما نتذكر أن دولة من دول المنطقة قد زودت أوكرانيا بعدد محدود من دبابات قديمة صُنِعت فى الاتحاد السوفيتى، وقد يُقال إن لهذا العمل دلالة رمزية، لكنه يعنى بالتأكيد أن القوى العالمية المتصارعة فى حاجة لأى موارد تُعجل بحسم الصراع فى أوكرانيا، ولنتصور مدى صعوبة زيادة نوعية للدعم الروسى لنظام الأسد أو الأمريكى لمعارضيه لو تطلبت تطورات الصراع ذلك، أما المتغيرات الإقليمية فقد خَلُص التحليل إلى أنها الوحيدة التى تشهد حراكًا واضحًا بالنظر إلى اتجاه القوى الإقليمية بصفة عامة إلى تخفيف الاحتقان وتطبيع العلاقات عقب تفاعلات صراعية دارت بينها وإن لم تتخذ الشكل العسكرى المباشر كما حدث فى اليمن وسوريا وليبيا، وبدا وكأن هذه القوى الإقليمية قد توصلت بدرجات متفاوتة إلى أن استمرار الاحتقان بينها، لن يُفضى إلى انتصارات حاسمة وإنما إلى استنزاف يعتد به للموارد، فشهدنا انفتاحًا سعوديًا وإماراتيًا ومصريًا على تركيا وانفتاحًا إماراتيًا على إيران، وهكذا انتهى التحليل إلى أن المصدر الوحيد لأى أمل فى تغيير يطرأ على الصراعات فى اليمن وليبيا وسوريا هو استمرار التحولات الإيجابية فى العلاقات بين القوى العربية ونظيرتها الإقليمية، وجاء الاتفاق الأخير ليؤكد هذا الاتجاه ويفتح الباب للأمل فى التوصل لتسويات لتلك الصراعات، فما هى حدود هذا الأمل؟
سارع البعض للتفاؤل بأن الطريق صارت ممهدة للتوصل لتسويات سريعة للصراعات، وساعد على ذلك التوصل شبه الفورى لاتفاق لتبادل الأسرى بين الحكومة الشرعية فى اليمن والحوثيين، غير أن المتفائلين فاتهم أن هذا الاتفاق لم يكن بالشمول المنشود، وأن اشتباكات مسلحة بين الطرفين عقب الاتفاق أفضت إلى مقتل١٠جنود يمنيين، وأن محاولة حوثية قد جرت السبت الماضى لاغتيال وزير الدفاع اليمنى ومرافقيه، وهذا هو بيت القصيد، فاتفاق الأطراف الإقليمية فى صراع ما لا ينهيه وإنما يزيل العوائق الإقليمية لتسويته، فكأن هذا الاتفاق أشبه بإزالة حجر ضخم كان يسد مدخل مغارة بما سمح بدخولها، لكن ما بداخل المغارة قصة أخرى أبطالها أطراف محلية بينها تناقضات أيديولوجية واحتقانات سياسية، ناهيك بالمصالح المادية التى ترتبت لهم عبر الزمن، وهى مسألة غاية فى الأهمية تعرقل تسوية الصراعات نظرًا لأن هذه التسوية تهدد بتصفية تلك المصالح، ولعل الدكتور غسان سلامة الأكاديمى اللبنانى البارز والمبعوث الأممى الأسبق لليبيا كان أوضح من بيّن دور هذه المصالح فى عرقلة تسوية الصراع فى ليبيا، فهل تستطيع هذه الأطراف عرقلة تسوية يمكن أن تتفق عليها الأطراف الإقليمية؟ الإجابة بالتأكيد بالإيجاب لأن للأطراف المحلية رؤى ومصالح لا يمكن أن تضحى بها بسهولة، وحتى لو تصورنا أن قادة هذه الأطراف لابد أن يأتمروا بأوامر داعميهم الإقليميين فإن للمنشقين عنهم قدرة على تخريب التفاهمات التى يمكن التوصل إليها، والعينة واضحة فى الأحداث التى أعقبت الاتفاق وسبقت الإشارة إليها حالًا فى اليمن.
وما ينطبق على اليمن ينطبق على لبنان ربما بدرجة أكبر على ضوء تعقد الإشكالية الطائفية فيه وكذلك سوريا، كذلك فإن مغارة التسوية تنطوى أيضًا على مصالح لقوى عالمية ليس معنى أن اهتماماتها تراجعت أو الموارد التى تخصصها للصراعات الإقليمية تقلصت أنها ستقبل أى إضرار بمصالحها فى تسوية هذه الصراعات وهى عديدة ومتنوعة ما بين مصالح استراتيجية واقتصادية، وليس معنى هذا أن الاتفاق السعودي-الإيرانى لن تكون له انعكاسات إيجابية على تسوية الصراعات فى المنطقة، ولكن رسالة هذا التحليل أن هذه الانعكاسات لن تحدث تلقائيًا وبسهولة وستنطوى على جهود شاقة ومعقدة للتوصل إلى توازنات بين مصالح أطراف الصراعات كافة لضمان استدامتها على المدى المتوسط على الأقل وذلك كله بافتراض استمرار مناخ التهدئة الإقليمية، والله أعلم.