ممرات التنمية الإقليمية: دلالات الاهتمام .. والمكاسب المحتملة
تحليل كرم سعيد
يتصاعد اهتمام القوى الدولية والإقليمية بخلق ممرات استراتيجية سواء بحرية أو برية لدفع عملية التجارة وتطوير الاقتصاديات. وتزايد الاهتمام بفكرة الممرات في ظل الانعكاسات المهمة لذلك الأمر على استراتيجية الطاقة والتنمية الاقتصادية للمجتمعات، وظهر ذلك في تحركات مستمرة لتأسيس العديد من الممرات الاقتصادية، كان أخرها، ممر “بايدن” الذى طرحه الرئيس الأمريكي خلال قمة العشرين التي استضافتها العاصمة الهندية نيودلهي في سبتمبر الماضي. كما تسعى بعض القوى الدولية، وبخاصة موسكو وبكين إلى استخدام الطرق البحرية المختلفة، واستكشاف وتنمية الموارد في القطب الشمالي، التي سيكون لها عظيم الأثر خلال المرحلة المقبلة على استراتيجية الطاقة والتنمية الاقتصادية في قارة آسيا، التي تضم قطاع واسع من الدول التجارية، والمستهلكة بشكل رئيسي للطاقة في العالم.
الأرجح أن عولمة الاقتصاد، التي أزلت الحدود بين الأسواق العالمية، وجعلتها أكثر اندماجاً وتداخلاً، بالإضافة إلى انعكاسات التطور التكنولوجي على عملية التبادل السلعي ونقل البضائع والمنتجات حول العالم، وفرت بيئة خصبة لإنشاء مزيد من الممرات التنموية، كما أحدث ما يعرف بــ “ثورة الحاويات” في النقل دوراً بارزاً في تعزيز عملية التوجه نحو تطوير عمليات الربط بين الدول لتقليل وقت وتكاليف نقل البضائع بشكل كبير.
في المقابل، فإن احتدام المنافسة في التجارة العالمية، واستخدام أنظمة الإنتاج المتكاملة التي تعتمد على سلسلة التوريد والإمداد “اللوجيستك” والتي تتطلب توافقاً وتناغماً بين أطراف السلسلة، فتحت الطريق أمام فكرة الممرات التي تربط بين الدول في قلب هذه المنظومة اللوجستسة، ودعمتها عملية التقنيات التكنولوجية الهائلة.
لذلك حظيت ممرات الربط التجارية بأولوية استراتيجية، خاصة أنها ساهمت في خلق حالة من النقل المتسلسل، والسريع وغير المكلف للبضائع، أي تسريع حركة المرور وتحسين موثوقيتها وجودتها.
ممرات الربط: خارطة تتوسع
حظى التوجه نحو التوسع في تأسيس الممرات التنموية التي تربط بين الدول باهتماماً بالغاً خلال المرحلة الحالية، وظهر ذلك في طرح العديد من مشاريع إنشاء الممرات الإقليمية، وهو ما يمكن بيانه على النحو التالي:
ممر بايدن: تم طرح فكرة ممر “بايدن” خلال قمة العشرين التي عُقدت في الهند في 9 و 10 سبتمبر 2023، وتعتمد فكرة الممر على إنشاء ممر اقتصادي يربط الهند ومنطقة الشرق الأوسط وأوروبا. ووقّعت الولايات المتحدة والهند والسعودية والإمارات وفرنسا وألمانيا وإيطاليا والاتحاد الأوروبي -على هامش قمة العشرين في نيودلهي- مذكرة تفاهم لإنشاء هذا الممر الذي يشمل سككا حديدية وربط موانئ ومد خطوط وأنابيب لنقل الكهرباء والهيدروجين، وكذلك ، عبور البضائع والخدمات بين الهند والإمارات والسعودية والأردن وإسرائيل وأوروبا بالإضافة إلى كابلات لنقل البيانات. ووصف الرئيس الأمريكي المشروع بالتاريخي لكنه لم يتحدث عن منافسة مفترضة مع مبادرة “الحزام والطريق” الصينية التي تقوم على إحياء طريق الحرير القديم. ويتوقع أن يحفز ممر بايدن التنمية الاقتصادية من خلال تعزيز الاتصال والتكامل الاقتصادي بين آسيا والخليج العربي وأوروبا.
ممر التنمية التركي “طريق حرير العراق”: تبذل تركيا جهوداً حثيثة لتطوير علاقاتها التجارية مع محيطها الخارجي، وتعزيز الاستفادة من موقعها الاستراتيجي على خارطة الاقتصاد العالم. وقال الرئيس التركي في 10 سبتمبر 2023 على هامش قمة العشرينإن، أن بلاده ستعمل مع كل من السعودية والإمارات والعراق بشأن ممر للسكك الحديدية والموانئ يبدأ من العراق ويمتد إلى دول الخليج وإسرائيل مروراً بتركيا وصولاً إلى العمق الأوروبي.
يربط الممر الاقتصادي الذى اقترحته تركيا مع العراق الطريق البري والحديدي الممتد من العراق إلى تركيا وموانئها، وذلك من خلال ربط ميناء الفاو في الخليج العربي والمقرر الانتهاء منه في العام 2025، وسيكون أكبر ميناء في الشرق الوسط، بتركيا عبر السكك الحديدية والطرق السريعة. وتجدر الإشارة إلى أن الميزانية الاستثمارية المقررة للمشروع، تبلغ حوالي 17 مليار دولار، على أن يتم إنجازه على ثلاث مراحل، تنتهي الأولى عام 2028 والثانية 2033 والثالثة 2050. ويسهم المشروع، المعروف أيضا باسم “طريق حرير العراق”، في إجراء التجارة بشكل أسرع وأكثر كفاءة. كما يهدف المشروع إلى اختصار مدة السفر بين آسيا وأوروبا عبر دول الخليج وتركيا، مع وجود تحديات ومخاوف عراقية وعربية من زيادة خارطة النفوذ التركي سلباً على السيادة العراقية.
ممر القوقاز: نجحت بعض دول القوقاز بالتعاون مع تركيا في دفع وتطوير التعاون والتكامل الاقتصادي بينها بصورة كبيرة، وبالتحديد أذربيجان وجورجيا، حيث تمكنت من تأسيس ممر يربطهما مع تركيا، وفي هذا السياق تمّ افتتاح خط سكك حديدية في أواخر العام 2017، وهو خط (باكو – تبليسي – قارص)، وهو الخط الذي يمتد مسافة (846 كم) عبر الدول الثلاث، ويربط بين أوروبا والصين، ويُعتبر جزءًا من طريق الحرير الجديد.
ممر الحزام والطريق: اقترحت الصين مبادرة الحزام والطريق في عام 2013 بقصد تحسين الترابط والتعاون على نطاق واسع يمتد عبر القارات من جهة، ومن جهة أخرى تعزيز قوتها الاقتصادية ونفوذها السياسي على الساحة الدولية. كما يستهدف المشروع الذى يضم حتى الآن نحو 140 دولة بناء شبكة اقتصادية وهياكل أساسية تربط آسيا بأوروبا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، فضلاً عن جعل قطاع واسع من دول العالم يعتمد بشكل متزايد على الصين.
ترتكز مبادرة الحزام والطيرق على شقين، أولها الحزام الاقتصادي لطريق الحرير البري، وثانيها طريق الحرير البحري، لربط المدن الصينية بالوجهات التجارية في آسيا وروسيا وأوروبا. ويوفر الممر خط حديدي جديد بمليارات الدولارات، يقلل على سبيل المثال زمن الرحلة من ساحل البحر الأحمر إلى أديس أبابا من 3 أيام إلى 12 ساعة فقط. ويتوقع أن يساهم ممر الحزام والطريق في تعزيز التجارة بنسبة تتراوح بين 1.7 بالمئة و6.2 بالمئة على مستوى العالم، وزيادة الدخل الحقيقي عالميا بنسبة من 0.7 بالمئة إلى 2.9 بالمئة، وفق تقديرات البنك الدولي.
بالتوازي، عمدت الصين إلى تطوير مبادرتها عبر إنشاء طريق الحرير الرقمي، في ظل رغبة بكين في جني ثمار الاقتصاد الرقمي المتنامي، وطريق الحرير القطبي بهدف تطوير طرق الشحن في القطب الشمالي، وتعزيز إنتاج الوقود الأحفوري البحري في تلك المنطقة، فضلاً عن طريق الحرير الصحي. وقد تمكنت الصين من خلال ذلك، من تطوير علاقات اقتصادية متماسكة وقوية مع الدول الشريكة في المبادرة.
الممر الأخضر لتوريد الحبوب الأوكرانية: مع تفاقم الحرب الروسية الأوكرانية، وانسحاب موسكو من اتفاقية الحبوب في يوليو 2023، والتي كانت تتم بوساطة تركية وأممية ناهيك عن اتجاه موسكو نحو ضرب البنية التحتية للموانئ الأوكرانية التي تعتمد عليها كييف لتوريد منتجاتها من الحبوب، أعلنت كل من أوكرانيا وبولندا وليتوانيا في 2 أكتوبر 2023 إنشاء ما سُمي “ممرا أخضر” لنقل الحبوب الأوكرانية إلى ميناء كلايبيدا غربي ليتوانيا. وتعني الاتفاقية الثلاثية بين بولندا وأوكرانيا وليتوانيا أن صادرات الحبوب الأوكرانية المرسلة إلى أسواق في أفريقيا والشرق الأوسط خصوصا، ستتوجه مباشرة عبر بولندا بدلا من إخضاعها لإجراءات تدقيق أولا على الحدود الأوكرانية البولندية.
ويستهدف هذا الممر، المساهمة في تسهيل عملية شحن الحبوب من الموانئ الأوكرانية، وهي الفكرة التي لاقت استحساناً من القوى الغربية والولايات المتحدة، خاصةً أن المبادرة جاءت استجابةً للاضطرابات التي شهدتها سلاسل توريد الغذاء حول العالم بفعل إصرار موسكو على عدم العودة لاتفاق الحبوب، وهو ما ترتب عليه ارتفاع هائل في أسعار المواد الغذائية عالمياً.
ممر قناة أسطنبول البحرية: يعد مشروع قناة إسطنبول بمنزلة ممر مائي ضخم على حافة إسطنبول، ودعا إليه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في العام 2011. وتربط القناة بحر مرمرة بالبحر الأسود بموازاة مضيق البوسفور بطول 45 كيلومتراً وعرض 275 متراً. ويستهدف المشروع توفير مسارات بديلة لحركة الملاحة البحرية فى مضيق البسفور، والتى تتراوح سنويا بين 40 و42 ألف سفينة، علمًا أن طاقة المضيق الاستيعابية تبلغ 25 ألف سفينة سنويًا فقط.
لذلك يتوقع أن تلجأ بعض السفن التجارية للمرور من قناة أسطنبول الجديدة بدلاً من الاضطرار إلى الانتظار فى مضيق البوسفور. وفي مارس 2021 أعلن وزير البيئة التركي عن أن بلاده وافقت على خطط تطوير قناة ضخمة على حافة إسطنبول. وثم تم افتتاح مشروع قناة إسطنبول رسمياً من جانب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في 26 يونيو 2021، وهو المشروع الذي ارتفعت تكلفته إلى ما يقدر بنحو 15 مليار دولار.
تطوير ممر البحر الشمالي الروسي: مع تفاقم تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، وتشديد العقوبات الغربية على روسيا، خاصة في المجال الاقتصادي، أبدت روسيا اهتماماً لافتاً بتطوير ممر البحر الشمالي الممتد عبر منطقة القطب الشمالي، الذي يربط بين المحيطين الأطلسي والهادئ عبر المحيط المتجمد الشمالي.
ومثل تطوير الممر أهمية كبري، باعتباره يديلاً آمناً يمكن توظيفه في تصدير النفط والغاز إلى الأسواق الخارجية، خاصةً أن الممر بات خالياً من الجليد بدرجة كبيرة. وفي هذا الصدد، أعلن رئيس الوزراء الروسي ميخائيل ميشوستين في أغسطس 2022، عن خطة تستهدف تطوير ممر البحر الشمالي الروسي حتى عام 2035، بإجمالي تمويل يقدر بنحو 1.8 تريليون روبل روسي؛ أي بما يعادل نحو 30 مليار دولار. ووفقاً للعديد من التقديرات، من المتوقع أن يصبح ممر الملاحة الشمالي، طريقا تجاريا رئيسيا للبضائع المشحونة بين أوروبا وآسيا في المستقبل.
الممر الأخضر بين السعودية والولايات المتحدة: الممر الأخضر مفهوم يشير إلى أي وسيلة نقل ذات تأثير منخفض على البيئة، ويشمل النقل غير الميكانيكي، والمشي وركوب الدراجات وتنمية العبور (transit oriented development)، والمركبات الخضراء (green vehicles)، ومشاركة السيارات (CarSharing)، وبناء أو حماية أنظمة النقل في المناطق الحضرية ذات الكفاءة .
ووقعت السعودية والولايات المتحدة، في 8 سبتمبر 2023 مذكرة تفاهم تحدد أطر التعاون بينهما، لوضع بروتوكول يسهم في تأسيس ممرات عبور خضراء عابرة للقارات، من خلال موقع المملكة الذي يربط قارتي آسيا بأوروبا. ويهدف هذا المشروع، إلى تيسير عملية نقل الكهرباء المتجددة والهيدروجين النظيف عبر كابلات وخطوط انابيب وكذلك إنشاء خطوط للسكك الحديدية. كما يهدف المشروع أيضا إلى تعزيز أمن الطاقة، ودعم جهود تطوير الطاقة النظيفة، إضافة إلى تنمية الاقتصاد الرقمي عبر الربط والنقل الرقمي للبيانات من خلال كابلات الألياف البصرية، وتعزيز التبادل التجاري وزيادة مرور البضائع من خلال ربط السكك الحديدية والموانئ.
ممر الإمارات- إيران- تركيا: في نوفمبر 2021 تم افتتاح خط تجاري يربط الإمارات بتركيا عبر إيران،، ويمكن لدولة الإمارات عبر هذا الممر، اختصار زمن الرحلات التجارية مع البلدين، ومسارها الذي يبدأ من ميناء الشارقة الإماراتي إلى مضيق باب المندب مرورا بقناة السويس ثم ينتهي في مرسين التركية، رغم أن عدد من المراقبين يشككون في ذلك.
انعكاسات ايجابية محتملة
على الرغم من التكلفة المالية التي يتطلبها إنشاء ممرات التنمية سواء البحرية أو البرية، وكذلك التعقيدات السياسية إلا أن التوسع الحالى في عملية الربط بين الدول، قد يحمل العديد من الانعكاسات الايجابية على كافة الأصعدة، في الصدارة منها، تسريع وتيرة تسوية الخلافات السياسية بين الدول التي تجمعها ممرات تجارية، وبدا ذلك على سبيل المثال في التقارب الأخير بين الإمارات وإيران، وكذلك توجه تركيا نحو تصفير خلافاتها مع دول الخليج والعراق.
على صعيد متصل، فإن بعض هذه الممرات ستسمح بتعزيز نفوذ الدول التي تقوم بتنفيذها والإشراف عليها، فمثلاً ممر الحزام والطريق، الذى وفر للصين الدخول في شراكات استراتيجية مع العديد من دول العالم، قد يمكنها من السيطرة تدريجياً على محيطها الإقليمي، دون خلق توترات مع الولايات المتحدة أو الغرب. وبعبارة أخرى، فإن المبادرة هي خطة صينية متطورة لنقل الهيمنة من الغرب والولايات المتحدة إلى الصين من دون الدخول في صراعات عسكرية أو توظيف للقوة الصلبة.
بالتوازي، فإن ممرات التنمية التي تم تأسيسها خلال الفترة الأخيرة، يمكن أن تساهم في تطوير وتحفيز التكامل الإقليمي، لا سيما وان تأسيس الممرات الدولية يعتمد بالأساس على فكرة مفادها سعي الدول في الأقاليم المتقاربة إلى تعزيز فرص التقارب وتسهيل نقل البضائع والحركة منها وإليها، بما يسهل فرص التبادل الاقتصادي بين تلك الأقاليم.
خلف ما سبق، يتوقع أن يدفع التوسع في إنشاء ممرات التنمية إلى تأمين مسارات نقل الطاقة وسلاسل توريد الغذاء خلال المرحلة المقبلة، خاصة في ظل استمرار الاضطربات العالمية، وتفاقم الصراع الروسي الأوكراني، والذى حمل تداعيات سلبية على عملية نقل الطاقة، ونقل الحبوب.
ختاماً: يمكن القول أن التوسع الحادث في إنشاء ممرات التنمية سواء على المستوى الإقليمي أو الدولي، يمكن أن تلعب دوراً معتبراً في إعادة خارطة المصالح الجيوسياسية والجيواقتصادية للدول المشاركة في تطوير الممرات ودفع الترابط بين الدول. كما يتوقع أن تلعب دوراً في إعادة خارطة الاستثمارات الدولية، لا سيما وأن الدول التي لديها طرق متعددة للتجارة والتواصل مع الخارج، قد تكون أكثر جذباً للاستثمارات الأجنبية.