ظاهره الرحمة وباطنه العذاب.. ماذا وراء إنشاء ميناء أمريكي إسرائيلي بغزة؟
تحليل:د. فرناز عطية
بعد ثمانية أشهر من اندلاع الحرب في غزة وأعمال الإبادة التي مارستها وتمارسها إسرائيل بعد تنفيذ حماس لعملية طوفان الأقصى 7 أكتوبر 2023 تخرج علينا الولايات المتحدة الأمريكية بالتعاون مع إسرائيل وحليفتها قبرص بمشروع “ميناء غزة” المنشئ لدواع إنسانية، خاصة مع تحذير الأمم المتحدة من مجاعة وشيكة تهدد مئات الآلاف من أهالي القطاع، وبناءً عليه تم تثبيت رصيف مؤقت على الشاطئ في غزة بمساعدة مهندسي الجيش الإسرائيلي، وقد تم تنفيذ العمليات اللوجستيات من خلال حوالي 1000 جندي وبحار أمريكي في الميناء المؤقت في قبرص إلى الرصيف العائم على شاطئ غزة، حيث أرسلت السفينة العسكرية الأمريكية (الجنرال فرانك إس بيسون)، إلى الشرق الأوسط لدعم عملية بناء الميناء، واستغرق بناءه قرابة الـ60 يومًا، ويتوقع الجانب الأمريكي أن تصل شحنات الإغاثة إلى 150 حمولة يوميًا تدخل القطاع وتسلم إلى الأمم المتحدة، وفي مقابل لا تثق منظمات الإغاثة في وصول المساعدات، بسبب بيئة العمل غير الآمنة وصعوبة حصولها على تصريحات للتحرك والقيام بأعمالها في القطاع، حتى أن هناك تخوف من أن يؤدي هذا الميناء إلى إنهاء عمل الأونروا، وغيرها من منظمات الإغاثة.
إنشاء ميناء بغزة.. ليست بفكرة جديدة
وجد في غزة ميناء قبل 1967 تصدر وتستورد منه احتياجاتها، وقد طُرح في عملية التسوية باتفاق أسلوا 1993 واتفاق شرم الشيخ 1999، فكرة بناء ميناء ومطار في المدينة، حيث اتُفق على البدء في عملية التنفيذ عبر اتفاقية شرم الشيخ الموقعة في سبتمبر 1999، وفي مطلع عام 2000 بدأت السلطة الفلسطينية في بناء ميناء بحري صغير وسط مدينة غزة بتمويل أوروبي، لكن إسرائيل قصفت ودمرت موقع الميناء في الانتفاضة الثانية بعد ثلاثة أشهر فقط من بدء بنائه، ثم استأنفت السلطة الفلسطينية البناء بعد الانسحاب الإسرائيلي أحادي الجانب من غزة على إثر “اتفاقية المعابر سنة 2005″، والتي تضمّنت بندًا ينص على عدم تدمير الميناء مرة أخرى، وبعد فوز حماس في الانتخابات التشريعية الثانية 2006، والشقاق بين فتح وحماس، واستئثار الأخيرة بالحكم في غزة، ما أدى لحصارها اقتصاديًا من قبل إسرائيل وتراجع العمليات التنموية بها، ونتج عن ذلك عرقلة بناء ميناء بغزة كاد أن يحدث انتعاشه للاقتصاد الفلسطيني، خاصة وأن التمويل الأوروبي كان مرصودًا بالفعل، وفي أغسطس 2016 رفضت تل أبيب مقترحًا لإقامة ميناء أمام سواحل غزة لأسباب أمنية، وعادت الفكرة للظهور مرة أخرى 2018 بواسطة “أفيغدور ليبرمان” وزير الدفاع الإسرائيلي السابق إبان زيارته لنيقوسيا، واليوم تحييها إسرائيل وتنفذها على أرض الواقع بدعم أمريكي، لتحقيق أغراض بعينها في منطقة الشرق الأوسط، متذرعة بالدوافع الإنسانية لخدمة أهل غزة.
الأسباب الحقيقية لسعي إسرائيل لإنشاء ميناء غزة
بالرغم من التكاليف الباهظة التي يرجح أن تتعدى الـ 10 مليار دولارًا لإنشاء الميناء العائم التي أعلنت واشنطن ونيقوسيا وتل أبيب أنه مؤقتًا، والتي وصلت المرحلة الأولى منه إلى مبلغ 320 مليون دولارًا، إلا أنهم هموا بتنفيذه، وتشغيله في فترة وجيزة، ويمكن تفسير ذلك بعدة عوامل منها:
- إحكام قبضة إسرائيل على منطقة الشمال في القطاع، والتحكم في كل ما يدخل ويخرج من وإلى القطاع، وعزله عن الخارج، خاصة وأن تفتيش الشحنات سيتم من قبل الولايات المتحدة وقبرص- الدولة العضو في الاتحاد الأوروبي-وليس من قبل دول عربية، مثل مصر التي تشارك حدودًا برية مع غزة.
- تقويض القدرات العسكرية لحركة حماس، والقضاء على أي شكل من أشكال المقاومة، وإنهاء أي دور لها في سلطة حكم القطاع المدنية.
- يعد الميناء العائم خطوة نحو محاولة إبعاد مصر وإنهاء دورها في كل ما يخص الملف الفلسطيني.
- السيطرة على مصادر مهمة للطاقة تابعة للقطاع، فقد تم إجراء مسح منذ 2010 أقر بوجود آبار الغاز والنفط في هذا القسم من البحر المتوسط الذي يطل عليه القطاع، وأن المنطقة عائمة على هذه الآبار، وأيضا بأن بحر غزة تحديدًا لديه ما يفوق 2.5 ترليون متر مكعب من الغاز، ومنها حقل غزة مارين، ويذكر أن السلطة الفلسطينية كادت أن تنفذ اتفاقًا مع الجانب المصري يعطيه الحق في الاستثمار في تلك المنطقة، ولكن وجود إسرائيل هناك يعني سيطرتها هي والجانب الأمريكي على كل الثروات ومصادر الطاقة.
- حقيقة هذا المشروع الصهيوأمريكي بعيدة كل البعد عن الجانب الإنساني، وترتبط بشكل أساسي بمشروع الممر الاقتصادي، حيث أن التواجد الأمريكي هناك بات مطلوبًا بشدة، لا سيما وأن واشنطن قد بدأت تستشعر بأن إسرائيل وحدها لا تستطيع أن تضمن تنفيذ خط الممر البحري لهذه القناة، فعليها أن تكون موجودة بجيشها.
- من الناحية الاقتصادية الميناء سيوفر تكاليف النقل المرتفعة من ميناء أسدود، مما يساهم في إنعاش حركة النقل والتجارة لإسرائيل.
- يعد هذا الميناء مدخلاً للضغط على مصر من خلال محاولة التخلي عن قناة السويس وعن معبر رفح والسعي لتشييد الميناء الدائم.
- تغيير التوزيع الديموغرافي للقطاع، لاسيما بعد تهجير أهله واستحواذ إسرائيل على مهمة توزيع المساعدات، وإعادة الاعمار مستقبلاً.
- القضاء على فكرة “الدولة الفلسطينية” الواحدة، خاصة مع سعي نتنياهو لخلق سلطة مدنية محلية في القطاع تدعمها أطراف إقليمية مثل الإمارات والأردن، مع احتفاظ تل أبيب بالسيطرة الأمنية لسنوات قادمة.
- استخدام الميناء في عمليات تهجير مواطني القطاع، وتسهيل عملية خروجهم منه، عن طريق قبرص ومن ثمة الهجرة للدول الأوروبية، مما يضمن استبعاد فكرة العودة لأهل القطاع، وهذا ما طرحه نتنياهو في الكنيست عندما عرض مشروع إنشاء ميناء غزة.
- رغبة إدارة “بايدن” في كسب تأييد الجماهير الأمريكية والاستجابة للضغوط الداخلية التي انتقدت موقفها الداعم لإسرائيل في حرب غزة، ومحاولة تحسين صورتها أمام المواطن الأمريكي من خلال تبرير إنشاء هذا الميناء بدوافع إنسانية.
- سعي إسرائيل الحثيث لإنهاء دور الأونروا، وهو ما قوبل بالرفض من قبل كثير من الدول لاسيما بعد وقف تمويل الأونروا من قبل بعض الدول، والتضييق الإسرائيلي والأمريكي على عملها، وبالتالي تحاول تل أبيب فرض ذلك من خلال سياسة الأمر الواقع بمحاولة انفرادها بالسيطرة على الوضع الإنساني والمساعدات في غزة.
- محاولة السيطرة على المساعدات الإنسانية التي تصل القطاع ، مما يشرعن من تواجد إسرائيل بالقطاع ويجعله مبررًا ، ناهيك عن الرفض الإسرائيلي المطلق لأن يكون لأي طرف آخر دور في توزيع المساعدات.
وبالرغم من تأكيد المنظمات الإغاثية المعطل عملها حاليًا في قطاع غزة بسبب عدم إدخال المساعدات، أن المعابر البرية أكثر فاعلية في إيصال المساعدات للقطاع، أضف إلى ذلك انجراف جزء من الميناء العائم الذي شيد بإشراف أمريكي وحماية إسرائيلية إلى أسدود بسبب قوة أمواج البحر مما يزيد في تعطيل إيصال المساعدات لأهالي القطاع، ناهيك عن تحذير الأمم المتحدة من أن 576 ألف شخصًا على الأقل في غزة، يمثلون ربع السكان، على حافة المجاعة، بسبب شح المساعدات التي تدخل إلى القطاع أي أن الميناء لم يفي بالغرض الذي أنشأ من أجه، إلا أن كل من إسرائيل وأمريكا تتمسك بهذا الخيار لما يجنيه من عوائد ومصالح اقتصادية وسياسية وأمنية في المنطقة حاضرًا ومستقبلاً، كما تم إيضاحه، ومن ناحية أخرى ينفي أي اعتبار إنساني للممارسات الأمريكية والإسرائيلية في منطقة الشرق الأوسط ككل.