نحو نظام إقليمي جديد بالشرق الأوسط
فتحى محمود –
إذا كان هناك خلاف بين المحللين السياسيين على الدور الذى يمكن أن تلعبه الحرب الروسية الأوكرانية في الإسراع بصياغة نظام عالمي جديد، بديلا للنظام الحالي الذى نتج عن الحرب العالمية الثانية، إلا أن تلك الحرب التي مازالت مستعرة أدت بالفعل إلى الإسراع بالبحث عن نظام إقليمي جديد في الشرق الأوسط، أو بمعنى أدق إعادة تنظيم هذه المنطقة التي تمثل أهمية جيواستراتيجية كبرى في العالم، وتعاني من أزمات تاريخية وصراعات قديمة جديدة وتدخلات من كل القوى الكبرى ومحاولات هيمنة إقليمية ودولية.
وإذا كانت نتائج الحرب العالمية الثانية هي التي شكلت النظام العالمي الحالي، فإن نتائج الحرب العالمية الأولى شكلت وجه الشرق الأوسط الحالى بعد اكتماله بتأسيس دولة إسرائيل، عندما توافقت بريطانيا وفرنسا في مايو 1916 وبدعم من روسيا القيصرية على تقاسم مناطق نفوذ رجل أوروبا المريض المعروف باسم الدولة العثمانية من خلال إتفاقية سرية اشتهرت لاحقا باسم (سايكس ـ بيكو) نسبة إلى الدبلوماسيين الذين مثلا لندن وباريس في التوقيع عليها، وسرعان ماتم تعديل حدود مناطق النفوذ المقسمة في المنطقة عبر اتفاقية (سان ريمو) في أبريل 1920، بعد سقوط روسيا القيصرية باندلاع الثورة البلشفية، وتأكيد عصبة الأمم أوضاع الانتداب الفرنسي والبريطاني على الدول العربية المقسمة بينهما، وبدء نشاط الحركة الصهيونية للعمل على إقامة وطن قومى لليهود في فلسطين.
بينما يؤكد الدكتور عبد الوهاب المسيري في موسوعته (اليهود واليهودية والصهيونية)، أن “الهدف من سايكس بيكو كان بالأساس توطين اليهود في فلسطين، إذ ارتبط الآباء المؤسسون للحركة الصهيونية، وعلى رأسهم ليونيل والتر روتشيلد، بالمصالح الرأسمالية الإمبريالية البريطانية والفرنسية، التي كانت تريد توسيع رقعة نفوذها في الشرق، وكانت تفكر بحماس شديد في التركة التي سيتركها رجل أوروبا المريض (الدولة العثمانية).”
خسائر الشعوب
والحقيقة أن هذه الاتفاقيات التي أعادت رسم الشرق الأوسط لم تكن على حساب الشعب الفلسطيني فقط، ولكن كانت على حساب الشعب الكردي أيضا الذى خسر كثيرا نتيجة تلك الترتيبات، فبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى بهزيمة الدولة العثمانية، جرت مفاوضات دولية فى فرنسا لإعادة تقسيم أراضى الدولة المهزومة، وانتهت المفاوضات عام 1920 بمعاهدة سيفر (نسبة إلى مدينة سيفر الفرنسية القريبة من باريس)، والتى وضعت اللبنة الأولى لتشكيل الشرق الأوسط الجديد وفقا لمصالح الدول الاستعمارية وخاصة انجلترا وفرنسا اللتين اقتسمتا النفوذ على دول المنطقة بعد ذلك عبر اتفاقية سايكس بيكو، واحتلت القضية الكردية مكانا بارزا في معاهدة سيفر، بهدف إنشاء دولة كردية مستقلة في كردستان تركيا، يمكن أن ينضم إليها كرد كردستان العراق إذا أرادوا ذلك، حيث يمكن لكرد تركيا إبلاغ مجلس عصبة الأمم خلال سنة من نفاذ هذه المعاهدة، برغبتهم في الاستقلال عن تركيا ، واذا وجد المجلس آنذاك أن هؤلاء جديرون بمثل ذلك الاستقلال وإذا أوصى – المجلس- بمنحهم إياه، فإن تركيا تتعهد من الآن بأن تراعي تلك الوصية، فتتخلى عن كل مالها من حقوق وحجج قانونية في هذه المناطق، وتصبح تفاصيل هذا التنازل موضوع اتفاق خاص بين الدول الحليفة الرئيسية و تركيا.
لكن مصطفى كمال أتاتورك الذى عزز موقفه بعد ذلك وسيطر على مقاليد الحكم فى تركيا لم يعترف بهذه المعاهدة، وتغير موقف الدول الأوروبية نتيجة خوفها من اتجاه تركيا الجديدة لإقامة علاقات وطيدة مع الاتحاد السوفيتي, وتحرك كرد تركيا الذين يمثلون نحو 20% من عدد السكان، وأرسلت جمعية انبعاث كردستان عدة مذكرات لعصبة الأمم لتنفيذ ما ورد في معاهدة سيفر، وإلا فسيضطر الكرد إلى انتزاع هذا الحق بقوة السلاح، ورفض أتاتورك ذلك مما أدى إلى اندلاع ثورة كردية عام 1921 شملت مناطق واسعة من كردستان، تم إخمادها بوحشية، وعقد بعد ذلك مؤتمر لوزان بسويسرا عام 1922 الذي استمر ثمانية أشهر، للتفاوض على معاهدة جديدة بين الغرب وتركيا، ورضخت الدول الغربية للشرط التركي برفض مشاركة أي وفد كردي في المؤتمر، ومنع مناقشة القضية الكردية في كردستان تركيا بشكل خاص، وكانت بريطانيا وفرنسا على استعداد للتنازل عن بعض امتيازاتهما في تركيا، خوفا من ارتمائها في أحضان الاتحاد السوفيتي، الذي يشكل خطرا على مصالحهما في المنطقة، وهكذا تجاهلت الدول الغربية وعودها بإنشاء دولة كردية .
وبدأ أتاتورك فى فرض نظام قوي صارم في الجمهورية التركية من أجل منع أي نزعة انفصالية قائمة على العرق أو الدين، وبقيت اللغة الكردية لعقود محظورة، سواء في التعليم أو حتى في الاستخدام اليومي، فلا صحف كردية ولا أغانٍ أو أشعار.
وبدأت الثورات وحركات التحرر الكردى الحديثة بالظهور فى مواجهة تعنت النظام التركى وعمليات طمس الهوية الكردية، ومازالت الانتفاضات الكردية مستمرة في تركيا حتى الآن، وحققت نجاحا ملحوظا من خلال الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا وكردستان العراق، رغم هجمات الجيش التركي المستمرة على تلك المناطق والتي استنكرتها الجامعة العربية خلال اجتماع اللجنة العربية الوزارية المعنية بمتابعة التدخلات التركية في الشؤون الداخلية للدول العربية، حيث أعربت عن قلقها من استمرار الوجود العسكري التركي علي أراضي عدة دول عربية و تدخلات تركيا في شؤونها الداخلية، والانتهاكات التركية المُتكررة لقرارات مجلس الأمن ذات الصلة بفرض حظر السلاح على ليبيا.
وأكدت اللجنة عدم شرعية وجود القوات التركية في كل من العراق وليبيا وسوريا، داعية الحكومة التركية للتعاون من أجل اتخاذ كافة التدابير التي من شأنها التصدي لعمليات رعاية وتجنيد وتدريب ونقل المقاتلين الإرهابيين الأجانب والمرتزقة لداخل حدود البلاد العربية.
التعاون التركي الإسرائيلي
والحقيقة أن الصراع العربي الإسرائيلي وتفرعاته أصبح عبر عقود طويلة المحرك الرئيسي للأحداث في منطقة الشرق الأوسط، والمحدد لتوجهات وسياسات دول المنطقة، حربا وسلما، حتى اقتنع العرب بصعوبة استعادة الأراضي العربية المحتلة بالقوة العسكرية في ظل تبني القوى العظمى وعلى رأسها الولايات المتحدة لدولة إسرائيل، فجاءت مبادرة السلام العربية في قمة بيروت العربية عام 2002 لتطرح حلا عمليا بانسحاب إسرائيل إلى حدود ماقبل 5 يونيو 1967 والسماح بإقامة دولة فلسطينية محتلة، مقابل السلام الشامل بين الدول العربية وإسرائيل ومعاملتها كدولة جارة وليست عدوا.
لكن فشل العرب في تسويق مبادرتهم وحشد قواهم الشاملة خلفها، أدى إلى رفض إسرائيل لها حتى أصبحت تلك المبادرة جزءا من الماضى، ومع ظهور تناقضات عديدة بين الدول العربية وبعضها البعض وصل إلى حد الاحتراب بأشكاله المختلفة، وسعى بعض الدول العربية إلى إسقاط أنظمة دول عربية أخرى بشكل مباشر أو غير مباشر، واستغلال قوى إقليمية لحالة الضعف والانقسام العربي بالسعي لفرض هيمنتها على المنطقة وخلق مواقع نفوذ لها داخل دول عربية، تبدلت أولويات الأمن القومي العربي وتداخلت المصالح في الشرق الأوسط لتصنع واقعا جديدا وتحالفات مختلفة.
وتزامن ذلك مع صعود كبير في العلاقات التركية الإسرائيلية، فمنذ أسابيع قليلة جاءت زيارة الرئيس الإسرائيلي اسحق هرتسوغ إلى تركيا لتعيد الزخم للعلاقات السياسية بين الجانبين وتصل بها إلى مستوى العلاقات التجارية والاقتصادية التي وصلت إلى أرقام قياسية العام الماضي ولازالت تواصل الارتفاع.
ورغم الوضع الرمزى الذى يمثله الرئيس في بنية الدولة الإسرائيلية إلا أن التأييد الكبير لهذه الزيارة من جانب زعيمي الحزبين الرئيسيين اللذين يشكلان الائتلاف الحاكم وهما نفتالي بينيت رئيس الوزراء ويائير لبيد وزير الخارجية، يكسبها أهمية إضافية، وسط اهتمام كبير من الإعلام الإسرائيلي بعد أن اصطحب هرتزوج معه 37 صحفيا إلى أنقرة.
وحرص الرئيس التركي رجب طيب أردوغان من جانبه على الاحتفاء الكبير بضيفه وزوجته، سواء في مراسم الاستقبال الرسمي أو المباحثات وصولا إلى الهدايا المتبادلة بين الطرفين، مع انتشار الأعلام الإسرائيلية في الطرق الرئيسية بالعاصمة التركية، إيذانا بإعلان أن حقبة جديدة من العلاقات التركية الإسرائيلية قد بدأت.
والحقيقة أنه رغم الخلافات السياسية التي كانت موجودة بين أردوغان ورئيس الوزراء الإسرائيلي السابق ايهود أولمرت، إلا العلاقات التجارية والاقتصادية وصلت إلى مستويات قياسية خلال السنوات الأخيرة، وبعد أ، كان حجم التبادل التجارى 800 مليون دولار فقط عام 2003 وصل في العام الماضى إلى 8.5 مليار دولار ، وسيرتفع هذا الرقم إلى 10 مليارات دولار في العام الحالي حسب تصريحات اردوغان، التي قال فيها إن لدينا فرص تعاون جاد في مجالات مثل السياحة والعلوم والتكنولوجيا المتقدمة والزراعة والصحة وصناعة الدفاع.
لكن كلمة السر في هذه الحفاوة التركية الكبيرة بالزيارة والحرص على دعم العلاقات مع إسرائيل الآن، والزيارات المرتقبة لوزيرى الخارجية والطاقة التركيين إلى تل ابيب، هي غاز البحر المتوسط، فمع اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية والعقوبات الأمريكية الأوروبية على روسيا ظهرت بحدة مشكلة الاحتياج الأوروبى إلى مصادر للطاقة وخاصة الغاز بديلا عن الغاز والنفط الروسى، وتحاول تركيا بقوة أن يكون لها دور في هذا المجال، وتحدث أردوغان في تصريحات متكررة عن أهمية قيام إسرائيل وتركيا بالعمل معا لنقل الغاز الطبيعى من إسرائيل إلى أوروبا، محاولا ترسيخ فكرة أنه لا يمكن ضخ حقول شرق المتوسط إلى أوروبا إلا عبر الأراضى التركية.
ويتجاهل الرئيس التركي أن بلاده لم تستطع ترسيم حدودها البحرية في البحر المتوسط حتى الآن، بسبب خلافاتها السياسية مع معظم الدول التي تشاركه هذه الحدود، وأن هناك مشروعات أخرى موجودة بالفعل وقادرة على نقل غاز شرق المتوسط إلى أوروبا بطرق متعددة.
الفوضى الخلاقة
لم تكن الحرب الروسية الأوكرانية سوى آداة ضغط جديدة لإعادة ترتيب منطقة الشرق الأوسط سبقتها محاولات عديدة، فقد سبق أن أطلقت إدارة الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش مصطلح الشرق الأوسط الكبير، على منطقة واسعة تضم كامل الدول العربية إضافة إلى تركيا،إسرائيل، إيران، باكستان وأفغانستان في إطار مشروع شامل يسعى إلى تشجيع الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي، حسب تعبيرها، في المنطقة، وأعلنت عن نص المشروع فى مارس 2004 .
وطورت وزيرة الخارجية الامريكية كوندوليزا رايس (صاحبة نظرية الفوضى الخلاقة) الفكرة بشكل أكثر تحديدا عبر مشروع الشرق الأوسط الجديد الذى طرحته عام 2006 ، الذى استهدف تغيير شكل المنطقة وتوجهاتها بأساليب متعددة منها الحروب العسكرية أو التحالفات الاقتصادية أو إسقاط بعض الأنظمة وصولا إلى ما سمى بالربيع العربى، لكن معظم هذه الأهداف لم تتحقق، رغم استمرار السعي إليها عبر تفجير أزمات متعددة في المنطقة، وانتهزت قوى إقليمية عديدة مثل إيران وتركيا الفرصة لمحاولة فرض هيمنتها على بعض دول المنطقة سواء بالاحتلال المباشر لمناطق عربية أو التدخل عبر أذرع محلية.
والآن تقف منطقة الشرق الأوسط أمام مفترق طرق مهم، وتسعى كل شعوب المنطقة إلى التحرر من هيمنة القوى الإقليمية والدولية، فهل تنجح في ذلك .. سؤال مهم ستتحدد إجابته على ضوء تطورات الأوضاع خلال الفترة القليلة المقبلة.