متابعات

بعد فوزه: هل ينجح ماكرون في قيادة فرنسا المنقسمة؟!

تقرير من باريس ــ آتون:

إذا كان فوز إيمانويل ماكرون بولاية ثانية لرئاسة فرنسا يعد أمرا تاريخيا باعتباره أول رئيس فرنسي في منصبه يتم إعادة انتخابه منذ 20 عاما، والرئيس الوحيد في عهد الجمهورية الخامسة الذي أعيد إلى منصبه بالاقتراع العام المباشر بينما كان يتمتع بأغلبية برلمانية، فإن فرنسا 2022 ليست هي فرنسا 2017، فبعد الأزمات المتتالية من السترات الصفر إلى جائحة كورونا والحرب الأوكرانية مروراً بسجالاتٍ داخلية حول الإصلاحات الاقتصادية، تأرجحت مستويات نمو الاقتصاد الفرنسي لتهبط إلى أسوأ حالاتها العام 2020 مسجلةً انكماشاً نسبته 8% قبل أن ينتعش الاقتصاد مجدداً بفضل تخفيف قيود مكافحة وباء كورونا، مسجلاً نمواً بنسبة 7%، وصولا إلى الانقسام السياسى الذى عكسته نتيجة الانتخابات حيث حصل التيار القومى الشعبوى المتطرف يمينا ويسارا على نحو 60% من أصوات الناخبين في الجولة الأولى، وهو ما سيلقى بظلاله على الانتخابات النيابية المقررة في يونيو المقبل، فهذه النتائج شاهدٌ على صعود مستمرّ لليمين المتطرف، ناهيك عن اليسار المتطرف، في ظلّ استقطاب حاد يُرجّح أن يتجسّد في الانتخابات النيابية، والتي يسعى خصومه لاستغلالها من أجل تجريد حزبه من أغلبيته البرلمانية، وفرض تعايش يكبّل سياساته، ويجعله “بطة عرجاء”,

وقد وضح ذلك في تصريحات رئيس حزب “فرنسا الأبيّة” اليساري المتطرف جان لوك ميلانشون، الذي حلّ ثالثاً في الدورة الأولى، بنيله 22% من الأصوات، فاعتبر أن الجولة الثالثة تبدأ هذا المساء، في إشارة إلى الانتخابات النيابية المرتقبة في 12 و19 يونيو. وحضّ مواطنيه على انتخاب رئيس للوزراء يؤذن بظهور “ثلثٍ يمكنه تغيير كل شيء”، ووصف ماكرون بأنه أسوأ رئيس منتخب للجمهورية الخامسة في فرنسا.

لكن ماكرون تعهد بتجديد أسلوبه لكي يكون رئيساً للجميع، وأشار إلى تغييرات عميقة يعتزم تنفيذها، مضيفاً: أدرك أيضاً أن عدداً من مواطنينا صوّتوا لي ، ليس دعماً للأفكار التي أحملها، بل لمواجهة اليمين المتطرف… الغضب والاختلاف في الرأي اللذان قادا مَن صوّت لليمين المتطرف، يجب أن يجدا أجوبة، وشدد على أن هذه الحقبة الجديدة لن تكون استمراراً للسنوات الخمس المنقضية، في إشارة إلى ولايته الأولى.

عكس الخطاب التصالحي للرئيس الوسطي إدراكاً لتزايد شعبية اليمين المتطرف، الذي حقق نتائج تصاعدية، إذ أن جان ماري لوبان، والد مارين، نال 17.79% أمام الرئيس اليميني الراحل جاك شيراك، في انتخابات 2002، ومارين 33.90% من الأصوات في مواجهة ماكرون قبل 5 سنوات، قبل أن تتجاوز حاجز 40% للمرة الأولى الآن.

واعتبرت صحيفة لوموند الفرنسية ذلك فشلاً لماكرون، مذكّرة بقوله عشية فوزه في عام 2017، بأنه يريد التأكد من أن الفرنسيين لم يعُد لديهم أيّ سبب للتصويت لمصلحة المتطرفين.

ونبّهت الصحيفة إلى أن اليمين المتطرف لم يحقق أبداً نتيجة مشابهة، معتبرة أن على ماكرون أن يوحّد معسكره، من أجل الحصول على أغلبية مستقرة، في ظلّ أخطار انقسام بين الحسّاسيات المختلفة التي تشكّل قاعدته. وأشارت إلى أن الرئيس الوسطى حدّد مشاريع ذات أولوية سيُطلقها بدءاً من الصيف، بما في ذلك معالجة مسألة القدرة الشرائية للفرنسيين، التي شكّلت أحد أبرز ملفات الحملة الانتخابية، وإصلاح رواتب التقاعد، ناهيك عن ارتفاع فاتورة الطاقة، ومسألتَي المدارس والصحة.

غير أن بعض المراقبين يرى أن فوز ماكرون على حساب القومية الشعبوية مارين لوبان – تُعد انتصارا شخصيا لماكرون (44 عاما)، الذي خاض الانتخابات مرتين فقط في حياته تكللتا بالنجاح، ولكنه كان أيضا إلى حد ما انتصارا للسياسات الوسطية والليبرالية على نطاق واسع الموالية لأوروبا على قوى الشعبوية، حيث صاغ ماكرون انتخابات الإعادة على أنها تصويت مع أو ضد التسامح والحرية والاحترام والاتحاد الأوروبي.

فقبل الجولة الأولى من التصويت، كانت المؤشرات في صالح لوبان، إذ وصفت نفسها بصوت “الشعب”، وقادت حملة ذكية ركزت على المناطق الريفية وشبه الريفية والأماكن التي تضررت من التدهور الصناعي، وركزت على تكاليف المعيشة التي هي الشغل الشاغل للناخبين، لكن في الفترة التي سبقت الجولة الثانية، غيرت استطلاعات الرأي طريق ماكرون، وخلال مناظرتهما المباشرة، كشف عن صلات لوبان بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، كما كشف النقاب عن تناقضاتها حول الضرائب وأوروبا وسياسة الطاقة والمزيد.

لكن النتائج التي أوضحت انقسام الشارع الفرنسي تثير تساؤلات كثيرة حول قدرة ماكرون على تجاوز هذا الانقسام، فصحيفة “فاينانشال تايمز” البريطانية أشارت إلى أن الرئيس الذي أعيد انتخابه يواجه انقسامات قبل الانتخابات البرلمانية المقررة في يونيو المقبل، فقد تنفس حلفاء فرنسا الأوروبيين ودول حلف شمال الأطلسي (الناتو) الصعداء بعد فوز ماكرون المقنع على منافسته اليمينية المتطرفة وتم ضمان مكانة فرنسا كعنصر أساس في الاتحاد الأوروبي ومُسهم قوي في الناتو في دعمها أوكرانيا ضد روسيا لمدة خمس سنوات أخرى، لكن في الوقت نفسه فإن نتائج الاقتراع تظهر حقيقة أن اليمينية المتطرفة القومية، و المتشككة في أوروبا، والمناهضة للهجرة، أصبحت أقوى من أي وقت مضى منذ الحرب العالمية الثانية، وذلك في وقت لا يزال فيه المجتمع الفرنسي منقسما بشدة، خاصة أن لوبان تعهدت بمواصلة القتال مع حزب التجمع الوطني الذي تنتمي إليه في انتخابات يونيو للجمعية الوطنية (البرلمان)، والتي يحتاج ماكرون للسيطرة عليها إذا كان سيحكم بشكل فعال على مدى السنوات الخمس المقبلة.

وفى هذا السياق تؤكد تارا فارما، من المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية إن التحدي الأكبر الذي يواجه ماكرون هو خلق شعور بالتماسك في بلد مجزأ للغاية، حيث ستبذل لوبان قصارى جهدها للاستفادة من نتيجتها في الانتخابات البرلمانية في يونيو. لذلك فإن التحدي الأول والرئيسي لماكرون هو تأمين الأغلبية فى الانتخابات البرلمانية بفرنسا التي ستجرى يومى يومي 12 و19 من حزيران/ يونيو، ويحتاج حزب (الجمهورية إلى الأمام) – الذي أسسه ماكرون – وحلفاؤه إلى أغلبية 289 نائبًا في مجلس النواب المكون من 577 مقعدًا.

إلى جانب التحديات الاقتصادية والمعيشية فقد اشتكى عدد كبير من الناخبين من أنهم واجهوا صعوبة في تغطية نفقاتهم، ووعد ماكرون أنه سيبقي على الحدود القصوى لأسعار الغاز والكهرباء وأسعار الوقود، كما حدد المزيد من التدابير بما في ذلك دعم أكبر لذوي الأجور المنخفضة والعاملين لحسابهم الخاص، ووعد ماكرون بإصلاح معاشات التقاعد والتي فشل في تنفيذها في ولايته الأولى – رفع سن التقاعد تدريجيا إلى 65 بحلول عام 2031 باستثناء أولئك الذين يعملون في وظائف بدنية صعبة – وأوضح أنه سيتم تطبيقها بحلول الخريف، ولذلك يسعى ماكرون يهدف إلى إطلاق مشاورات أولية مع النقابات وأرباب العمل قبل الصيف، وكذلك إطلاق مشاورات مبكرة حول إصلاحات نظام التعليم المركزي في فرنسا، وإدخال مزيد من الاستقلالية للمدارس والجامعات، ونظام الرعاية الصحية، بهدف تحسين الخدمات في المناطق الريفية على وجه الخصوص.

علاوة على التحديات الخارجية أيضا لفرنسا إذ يجب علي ماكرون خلال رئاسة بلاده للاتحاد الأوروبي لمدة ستة أشهر، أن يركز على إعداد إستراتيجية يمكن تطبيقها خاصة بأولوية باريس المتمثلة في تأمين الحدود الخارجية للتكتل والسيطرة على الهجرة السرية، وتعميق التعاون الدفاعي وتطوير نموذج نمو اقتصادي أوروبي قائم على الاستثمار في التكنولوجيا الفائقة.

ومع ذلك فإن بعض وسائل الإعلام العالمية رأت أن فوز ماكرون سيعني استمرارية للسياستين الاقتصادية والخارجية اللتين انتهجها خلال ولايته الأولى، ورجحّت أن تكون ولايته الثانية عاصفة أكثر من الأولى، إذ أن حزبه قد يخسر أغلبيته في البرلمان، ذلك أن أحزاب اليسار واليمين المتطرف تأمل بالاستفادة من مزاج وطني لتقليم أجنحة ماكرون، وهو ما أشار إليه دومينيك رينييه، أستاذ العلوم السياسية في “معهد باريس للدراسات السياسية”، بقوله أن الوضع الحالي يشهد على هشاشة المجتمع الفرنسي، وخاصة أن لوبان تقدّمت ماكرون في بعض أجزاء فرنسا، وكذلك لدى الشباب والطبقة العاملة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى