السودان وكارثة محققة .. شعب بين شقي الرحى
يُنذر النزاع الجديد الدائر بتقويض ما تبقى من مقومات معيشة تتسم بالهشاشة في البلاد، واحتمال وقوع واحدة من أكبر موجات النزوح الداخلي واللجوء في العالم، أخذاً في الاعتبار أن السودان يتحمل في ظروفه الصعبة أكثر من مليون لاجئ، ويعاني من نزوح نحو 3.7 مليون نازح داخلي فراراً من النزاعات المسلحة وانحسار الموارد في العديد من الأقاليم ارتباطاً بعوامل التغير المناخي، ويعتمد أكثر من ثلث عدد السكان نحو 16 مليون على المساعدات للبقاء على قيد الحياة.
ويشكل تمركز الصراع في العاصمة تهديداً شاملاً لما تبقى من فكرة وجود سلطة واحدة وبلد واحد لا يزال يعاني آثار من نزاعات أهلية مسلحة متعددة بدأت منذ العام 1983 جنوباً وتشمل كافة مناطق أطرافه، وعانى من ديكتاتورية فاشية قوضت وحدة البلد وسلامه الاجتماعي منذ انقلاب صيف 1989، وقامت بتدمير اقتصاد أغنى بلد عربي وأفريقي، وجرفت في طريقها ثروته البشرية التي اضطرت لهجرة وطنها.
وفي تقدير المنظمة العربية لحقوق الإنسان، فإن استمرار النزاع الجاري، والمؤشرات التي رافقت إجلاء الرعايا الأجانب ترجح استمراره لأجل غير مسمى، قد تقضي على ما تبقى للبلد من وحدة جغرافية، خاصة مع الدلائل بأن الحسم العسكري غير ممكن وفق المعطيات القائمة إلا بكلفة بشرية عالية للغاية، على الأقل في المدى المنظور.
وتشمل رقعة النزاع الجاري بالإضافة إلى العاصمة الخرطوم (نحو 6 ملايين نسمة) بحواضرها الثلاثة الرئيسية (الخرطوم – الخرطوم بحري – أم درمان)، تشمل ولايات شمال كردفان (2.5 مليون) وجنوب كردفان (أقل من مليون) وغرب كردفان (2 مليون) وشمال دارفور (2.5 مليون) وغرب دارفور (مليون) ووسط دارفور (أقل من مليون) وجنوب دارفور (3.5 مليون) وشرق دارفور (1.5 مليون)، وبشكل أقل ولايات النيل الأبيض (3 ملايين) و كسلا (3 ملايين) ونهر النيل (1.5 مليون).
أي أن امتداد النزاع زمنياً واتساع رقعته الجغرافية يهدد على نحو مباشر مقومات عيش نحو 28 مليوناً من السكان بنسبة تقارب الـ60 بالمائة في بلد يقارب تعداده الـ 46 مليون نسمة.
ويهدد النزاع الجاري ما تم التوصل إليه من اتفاقات تسوية سلمية والتفاهمات الأولية للنزاعات المسلحة الأهلية في مناطق النيل الأزرق وجنوبي كردفان وولايات إقليم دارفور، فضلاً عن التفاهمات المتواترة للحد من الاضطرابات في إقليم البحر الأحمر الذي عانى قبل أكثر من عقدين من نزاع أهلي مسلح، وهي العوامل التي قد تؤدي في ظل استمرار النزاع إلى تفكك البلاد إلى دويلات أقل، خاصة مع احتمالات تبدل خرائط التحالفات السياسية – القبلية في بعض الأقاليم الجغرافية.
كما يهدد استمرار النزاع بفقدان ما تحقق من استرداد لجزء كبير من مناطق الفشقة الحدودية مع أثيوبيا بعد عامين قتال الميليشيات الأثيوبية المدعومة من نظام أديس أبابا.
ويسعى هذا التقرير الموجز لتوفير ما أمكن من معلومات موثقة ومعلومات “مرجحة” حول الوضع الحالي بعد مرور نحو أسبوعين من القتال رغم الصعوبات البالغة التي تجابه جهود الرصد والتحقق، لا سيما وأن نظام البشير قام بطريقة ممنهجة بتجريف المجتمع الحقوقي السوداني الواعد – ضمن تجريف ثروة البلاد البشرية والاقتصادية -، وبينما يصعب على جماعات حقوق الإنسان المحلية ممارسة دورها في عمليات رصد ومتابعة الأحداث، فمن المؤكد أن القتال الأعمى الدائر في ولاية الخرطوم يضع قيوداً حادة على سلامة الفاعلين الحقوقيين الذين لطالما كانوا هدفاً لعمليات اغتيال وملاحقة وإيذاء، وخاصة من قبل الطرفين المتحاربين وعناصر النظام السابق، وبالتالي محدودية القدرة على التحقق من المعلومات، فضلاً عن صعوبات الوصول للمناطق الأخرى، وضعف موثوقية المصادر الميدانية في ضوء التداخل بين السياسي والقبلي، بالإضافة إلى صعوبة الاتصالات.
وبالرغم من نيل الوضع في السودان أولوية في اهتمام الإعلام العالمي والإقليمي، فإن التغطيات لا تعكس الصورة الشاملة للأوضاع في ظل المخاطر القائمة على سلامة الطواقم الإعلامية، فضلاً عن الانحيازات النابعة عن انتماءات المراسلين وخلفية مصادر الإعلام في ظل التناحرات الإقليمية والدولية الجارية.
الخطر الداهم – العاصمة
قادت المعارك في الخرطوم الكبرى إلى النيل بشكل فادح من الأهداف المدنية، وتبلغ التقديرات الأولية إلى مقتل نحو 600 مدني وجرح نحو 5 آلاف آخرين خلال 12 يوماً من الاقتتال. في حين تثور الخشية إزاء ارتفاع هذا العدد عن الفترة ذاتها نظراً لتوافر الشواهد على وجود جثامين القتلى في العديد من المناطق وخاصة في مدينة الخرطوم نتيجة تركز القتال في محيط المطار والقصر الجمهوري والقيادة العامة للقوات المسلحة.
بينما كابدت الخرطوم بحري وأم درمان نصيبها من الخسائر البشرية خلال موجات القصف الجوي والمدفعي التي قامت بها قوات الجيش النظامي ضد انتشار قوات الدعم السريع التي تتخذ من المناطق المدنية المأهولة مناطق ارتكاز لها بعد مغادرة أغلب مواقعها الأصلية بالعاصمة لتفادي الاستهداف الجوي والمدفعي.
الوضع الصحي
وفرض القتال الجاري قيود هائلة على التنقل، بما في ذلك على حركة طواقم الإسعاف لنجدة المصابين ونقل الجرحى إلى المستشفيات، مع تكرار استهداف عربات الإسعاف وتفتيشها، وهو الأمر الذي تكرر رغم الاتفاق على أربعة هدنات سابقة.
وتمتد الأزمة إلى قدرة الطواقم الطبية على الوصول إلى المستشفيات والمراكز الصحية، أو الاضطرار للبقاء فيها دون مغادرة تجنباً لمخاطر متنوعة، قبل أن تنال عمليات القصف ومجريات الاشتباكات من المستشفيات والمراكز الصحية ذاتها، بما أدى لمقتل وإصابة بعض الطواقم الطبية والمرضى.
وقد انهارت قدرة المراكز الطبية على تقديم الخدمات نظراً لضآلة الإمدادات الطبية وارتفاع عدد الحالات ومحدودية توافر المعدات وتراجع مخزون الأدوية، وطالت الأعمال العدائية كذلك بعض مصانع الأدوية في العاصمة.
وفي مجتمع تتراجع فيه مؤشرات الصحة وترتفع فيه معدلات الإصابة بالأمراض المزمنة، وخاصة أمراض السرطان وأمراض الفشل الكلوي المرتبطة بفقر موارد مياه الشرب النقية، ترتفع مخاطر الوفاة بين المرضى غير القادرين على القيام بالمراجعات الدورية في المشافي، أو التوجه في الحالات الطارئة للمراكز الطبية والعيادات، فضلاً عن صعوبات استقدام الأطباء والرعاية الصحية في المنازل.
وتشير التقديرات المتنوعة إلى انخفاض قدرة تلبية حجم الخدمة الصحية إلى نحو 16 بالمائة من القدرة التقليدية، والتي كانت بدورها لا تلبي حجم الطلب للخدمات الصحية.
ويُخشى أن يفاقم استمرار النزاع من شل المرافق الصحية بشكل تام، على نحو من شأنه أن يؤدي إلى كارثة صحية هائلة في ظل الافتقاد للخدمات الأساسية من توافر مياه الشرب النقية نتيجة تراجع قدرة محطات تنقية المياه، وضعف إمدادات الطاقة، وجهود المتنازعين للسيطرة على مراكز البنية التحتية.
الوضع الغذائي
يعاني السكان في عموم السودان من الغلاء الفاحش لأسعار السلع الغذائية، لا سيما مع فقدان العملة المحلية لنحو 100 بالمائة من قيمتها، حيث بلغت قيمة الدولار نحو 350 جنيها سودانياً في ربيع 2021، قبل أن يرتفع لنحو 600 جنيه سوداني خلال 2022 عقب انقلاب 25 أكتوبر 2021 وتجميد حزمة الدعم الاقتصادي التي قررها مؤتمر باريس في يونيو 2021، وبلغ سعر صرف الدولار 780 جنيها سودانياً قبل اندلاع النزاع.
ومع اندلاع النزاع، أغلقت البنوك أبوابها، ونضبت الأموال سريعاً من ماكينات الصراف الآلي محدودة العدد في العاصمة، ومع اقتراب مخزون السلع الغذائية من النفاذ في أسواق ومخازن العاصمة خلال شهر رمضان وقبل عيد الفطر، أدى النزاع الحالي لمنع تدفق السلع الغذائية على العاصمة، وارتفاع أسعار مخزون السلع المتاح لمستويات غير مسبوقة.
وفي سياق الهدنات الهشة المتتابعة، غادرت أعداد كبيرة – يستحيل تقديرها – حواضر الخرطوم الثلاثة باتجاه الولايات الجنوبية، وخاصة الجزيرة، يليها بعض المناطق في ولايات النيل الأبيض والقضارف وكسلا والنيل الأزرق وجنوب كردفان، وهي موجات يُتوقع تزايدها خلال الفترات القادمة لتدبير الاحتياجات الغذائية والصحية.
ومن المتوقع أيضاً أن تتدفق موجات أخرى من الخرطوم بحري وأم درمان باتجاه ولايتي نهر النيل والشمالية اللتان لا تزال تتمتعان بمستويات أكبر من الهدوء، للأسباب ذاتها.
وتشكل أعمال السلب والنهب التي يقوم بها أفراد طرفي النزاع سبباً إضافياً في النزوح المتزايد من الخرطوم الكبرى، وتم بالفعل استهداف مقار إقامة بعثات دبلوماسية أجنبية – قبل وبعد الإجلاءات – ومنازل التجار، وخاصة اللاجئين السوريين الناشطين في الأعمال التجارية.
إمدادات الطاقة
تعاني البلاد من تدني القدرة على توفير احتياجات الطاقة بصورة تقليدية، بلغت حد التهديد بالإظلام الشامل في 2021 لولا إمدادات الطاقة من الجارة مصر، وتبلغ متوسطات توافر الكهرباء في الخرطوم الكبرى أقل من نصف ساعات اليوم.
ويسعى الطرفان للسيطرة على محطات الكهرباء العاملة في العاصمة، والتي يهيمن عليها حالياً ميليشيا الدعم السريع، والمرشحة للتوقف مع استمرار النزاع، رغم أن ميليشيا الدعم السريع تمتلك مخزونات من الوقود، لكن قد يكون من الصعب نقلها والاستفادة بها في تشغيل محطات كهرباء الخرطوم.
كما سعت ميليشيا الدعم السريع في 25 الجاري لانتزاع مصفاة نفط واقعة شمالي الخرطوم من سيطرة قوات الجيش النظامي، فيما يُرجح أنه بهدف قطع الإمدادات عن قيادة الجيش النظامي وشل قدرة القيادة على العمل والاتصالات وإصدار التعليمات بالتحركات.
وتتركز أكثر من نصف المنشآت الصناعية، والغالبية الساحقة من الإدارات الاقتصادية في الخرطوم ومحيطها، وقد أصيبت تلك البنية الاقتصادية بالشلل شبه التام، وهو شلل مرشح بالاستمرار في ظل استمرار النزاع وغياب موارد الطاقة، بالإضافة إلى رفع معدلات البطالة المستفحلة لنسب أخطر.
ويؤدي شل قدرة الحكومة المركزية على العمل من إمكانيات استمرار تدفق إمدادات الطاقة المحدودة في الولايات الأخرى، فضلاً عن تدبير الاحتياجات المستقبلية الأخرى من خارج البلاد.
مسارات النزاع
تمكنت ميليشيات الدعم السريع منذ اليوم الأول للقتال من السيطرة على المفاصل الاستراتيجية في العاصمة الخرطوم، فضلاً عن عديد من المناطق في الولايات الغربية والجنوبية، وبينما أيدت بعض المصادر الميدانية روايات الدعم السريع بأن بعض قادة الجيش النظامي من أتباع النظام السابق بادروا لمهاجمة منشآت الدعم السريع في العاصمة دون علم قائد الجيش الفريق عبد الفتاح البرهان، فإن تحركات ميليشيا الدعم السريع الناجحة في اليوم ونصف اليوم الأول تؤشر على تنفيذ خطة معدة سلفاً.
غير أن الجيش تمكن في اليومين الثاني والثالث من استرداد كافة المواقع التي احتلتها قوات الدعم السريع خارج العاصمة الخرطوم وضواحيها بحكم تفوقه في قوة النيران التي توفرها قوات الطيران والمدرعات والمدفعية الثقيلة، بينما لم يكن متاحاً لها استخدام نفس قوة النيران في مناطق الخرطوم المأهولة مدنياً إلا على نطاق نسبي، خاصة بعد إعادة انتشار قوات الدعم السريع خارج معسكراتها باتجاه الأحياء المدنية، علماً بأن استخدام الجيش للطيران والأسلحة المتوسطة في معارك الخرطوم أدى لوقوع خسائر فعلية بين المدنيين.
يُذكر أنه وخلال ربيع 2022، تلقت المنظمة إفادات متنوعة بحالة تأهب قصوى بين صفوف قوات الجيش النظامي وقوات الدعم السريع في العاصمة الخرطوم، فيما قيل أنه استعداد لصراع محتمل بين الطرفين.
تزامن هجوم الدعم السريع على المفاصل الاستراتيجية في الخرطوم الكبرى، وخاصة في الخرطوم القديمة مع هجمات مماثلة شنتها قوات الدعم السريع على معسكرات للجيش في الولايات الغربية والجنوبية، وترجح بعض المصادر وقوع المئات من القتلى من صفوف الجيش النظامي في تلك المناطق وخاصة في ولايات غرب ووسط وجنوب دارفور، وكذا في مدينة الأبيض بولاية شمال كردفان التي شهدت معارك دامية.
ورغم استعادة الجيش لبعض تلك المناطق، فإن كلا الطرفين يعملان منذ 22 الجاري على الدفع بتعزيزات من الولايات الغربية والجنوبية لدعم الاحتياجات القتالية في العاصمة الخرطوم، وتشير المصادر الميدانية إلى نجاح قوات الدعم السريع في قطع إمدادات الجيش نحو الخرطوم واختراق دفاعاته والوصول إلى ضواحي الخرطوم الجنوبية والغربية، بينما أدى ذلك لإضعاف قوات الدعم السريع في المناطق الغربية على نحو أسهم في تعزيز سيطرة الجيش فيها وطرد قوات الدعم السريع منها، بما في ذلك اضطرار بعضها لمحاولة عبور الحدود في اتجاه الجارة تشاد، وورود معلومات غير مؤكدة حول قيامها بتسميم ينابيع المياه القليلة في الإقليم قبل الفرار.
وقد نجحت جهود الإدارة الأهلية في بعض مناطق غرب وجنوب غرب البلاد في التوصل لهدنة بين طرفي النزاع في تلك المناطق، ما يشكل مؤشر إيجابي على الدور الأهلي القوي الذي يمكن للمجتمع الدولي استثماره والبناء عليه في جهود وقف النزاع.
وتتركز حرب الشوارع بين طرفي النزاع في مناطق مدينة الخرطوم شرقي النيل الأزرق حيث تقع مقرات القيادة العامة للقوات المسلحة والقصر الجمهوري شمالي مناطق المدينة الرياضية والمطار الذي تعرض للشلل التام بعد قيام ميليشيات الدعم السريع بتدمير الطائرات المدنية الأجنبية والمحلية فيه، ومعلومات غير مؤكدة حول تدمير ممرات الإقلاع والهبوط.
وتلجأ الدول إلى استخدام مطار وميناء بورتسودان لإجلاء بعثاتها الدبلوماسية ورعاياها، قبل أن تتوافر إمكانية استخدام مطار قاعدة وادي سيدنا شمالي ولاية الخرطوم ومطار دنقلا بالولاية الشمالية.
وشكلت مبادرة الولايات المتحدة وبريطانيا في إجلاء رعاياهما وبعثاتهما الدبلوماسية عاملاً في إطلاق حمى ترحيل بقية الدول لبعثاتها ورعاياها، وهو ما يشكل مؤشراً على غياب أفق زمني واضح لاستمرار النزاع، وعلى محدودية الفرص الجادة لوضع حد له، وبالتالي وضع حد لمعاناة الشعب السوداني الذي يعاني من نسب فقر متعدد الأوجه تقارب الـ60 بالمائة.
ورغم الإعلان الشجاع للأمين العام للأمم المتحدة عن بقاء البعثات الأممية للعمل في السودان، إلا أن تطبيق ذلك على أرض الواقع سيلاقي صعوبات جمة، نظراً لافتقاد بيئة العمل للمعايير الأمنية التي تسمح لأفراد البعثات بممارسة مهامها، ويُذكر أن 3 من عمال الإغاثة التابعين لبرنامج الغذاء العالمي قد قتلوا في اليوم الأول للمعارك بولاية شمالي دارفور، بينما قتل أربعة عمال إغاثة آخرين لمنظمات إنسانية في وقائع متنوعة.
واضطرت غالبية منظمات الإغاثة لتعليق عملها، وتوقفت عمليات الإغاثة بصورة شبه تامة، وبدأت عدد من منظمات الإغاثة الأجنبية في سحب غالبية طواقمها وموظفيها الدوليين، ما يُنبئ بمخاطر هائلة على القطاعات السكانية التي تعتمد على الدعم الإغاثي.
ويظهر التباين في موقف طرفي النزاع من مبادرات الهدنة المتنوعة استجابات تتفاوت بحسب الموقف العسكري لكل منهما وتعكسها خروقات الطرفين لالتزاماتهما بالهدنة، حيث بادرت ميليشيات الدعم السريع لطرح الهدنة خلال فترة العيد على نحو ربما يكون قد سمح لها بإعادة تعبئة وتموضع قواتها، بينما التزام الطرفين جزئياً بمبادرة الهدنة التي طرحتها الولايات المتحدة والسعودية، وبينما وافق قائد الجيش منتصف ليل 26 – 27 الجاري على مبادرة بعثة الإيجاد بهدنة إضافية تبدأ منتصف ليل 27 – 28 الجاري لثلاثة أيام إضافية، وصرحت مصادر بقبول قائد الجيش إيفاد ممثل عنه لمفاوضات في جوبا بمبادرة من رئيس جنوب السودان، فقد تراخى قائد ميليشيا الدعم السريع عن التجاوب مع مبادرة الهدنة ولقاء جوبا المحتمل، قبل أن تعود وزارة الخارجية السودانية مساء 27 الجاري لتعلن رفض الحكومة التفاوض مع الدعم السريع.
في تلمس مخاطر النزاع والحلول الممكنة يأتي هذا النزاع على مقربة أسابيع من فصل الصيف شديد الحرارة ومشارف موسم الأمطار والفيضانات الذي يمتد حتى سبتمبر/أيلول، يندفع السودان نحو مأزق جديد من شأنه أن يودي بشعبه إلى التهلكة.
وتؤدي الأمطار الموسمية والفيضانات إلى تضرر ما لا يقل عن نصف مليون نسمة منن السكان، فخلال الصيف الماضي، بلغ تعداد المحتاجين لمساعدات إنسانية نتيجة الفيضانات نحو نصف مليون شخص.
تمرس السودان على العيش في ظل الحروب الأهلية والنزاعات المسلحة بداية من ١٩٨٣ في الجنوب الذي استقل ٢٠١١ باسم جمهورية جنوب السودان في ٢٠١١، وهي النزاعات التي اتسع نطاقها وتنوعاتها لتشمل إقليم الشرق وإقليم دارفور والنيل الأزرق وجنوب كردفان، وتؤثر بشكل حاد في نسيج المجتمع السوداني وقناعة قسم كبير من أبناؤه بأهمية وحدة البلاد والمساواة والمواطنة.
لكن النزاع هذه المرة يصل العاصمة الخرطوم ذاتها في تحول خطير يؤثر على فكرة توافر البلد على سلطة حاكمة، وبما قد يقضي على ما تبقى من وحدة البلد وسلامة أهله.
في السودان الشديد الثراء بتنوعه البشري وثرواته الزراعية والتعدينية وموقعه الجغرافي الحاكم، وبعد ٤٠ عاماً من الحروب والنزاعات، و٣٠ عاما من الديكتاتورية الوحشية، يعيش قرابة 16 مليونا من السكان على المساعدات، ويسجل قرابة 4 مليون من النازحين داخليًا، ويستقبل قرابة مليون ونصف المليون لاجئ من دول الجوار القريب والبعيد، في ظل اقتصاد تتابعت انهياراته دون توقف منذ انقلاب يونيو ١٩٨٩.
وبعد أقل من أسبوعين على انطلاق النزاع، سجلت المصادر خسائر بين المدنيين بنحو 600 قتيل و5 آلاف جريح، بينما يصعب إحصاء القتلى من العسكريين، وتبقى الأرقام في كلا التصنيفين غير معبرة في ضوء تدني قدرة الطواقم الطبيعة على الحركة في مناطق الخرطوم الكبرى حيث يحتدم النزاع.
قد يشكل النزاع بين طرفي الحكم الانتقالي نهاية لحلم السودان الواحد والمنفتح على التحول الديمقراطي، فبعد أن استأثر الطرفين العسكريين النظامي وشبه النظامي بالسلطة قبل ١٨ شهراً استبعدا خلالها الشركاء المدنيين، واستغلوا انقساماتهم غير المبررة وتشددهم غير المنطقي، كشف كليهما عن رغبتهما في التحكم بالسلطة، وهي الرغبة التي لا يمكن أن تتحقق إلا بإقصاء الطرف الآخر وتقويض حضوره السياسي والأمني والاقتصادي.
لم تكن أحداث ١٥ أبريل/نيسان سوى حدثًا كاشفا عن حقيقة متوقعة، لطالما حذرت المنظمة العربية لحقوق الإنسان الأطراف المختلفة من تحقُقها ودعت لتجنبها عبر تدابير متنوعة، فلم يكن إخراج المؤسسة العسكرية من المشاركة في إدارة المرحلة الانتقالية أمراً ممكناً لحين استكمال بناء النظام السياسي المنشود، كما لم يكن ممكنا التغافل عن استمرار البنى العسكرية للمعارضة المسلحة في مناطق الأطراف الحدود خارج معادلات الانتقال ومن دون التوصل لتسويات سياسية قابلة للحياة تسمح بتأمين الأساس الدستوري وبإجراء الانتخابات للوصول لشرعية دستورية قابلة للاستدامة.
حمل الاتفاق الإطاري الذي اتسم بالمثالية البلاد إلى ساعة الحقيقة، فبعد ثلاث سنوات من رفض الطرفين العسكريين طرح قضية الإصلاح الأمني على طاولة النقاش، رفضت ميليشيا الدعم السريع مطلب إذابتها في المؤسسة العسكرية خلال عامين، بما يقلص قدرتها على فرض شروطها على النظام السياسي المقبل على الأقل، فضلا عن السعي للاستحواذ على السلطة.
لم يكن موقف ميليشيا الدعم السريع مستغرباً أو غير متوقعاً، لكن الرهان الهش كان يستند على قوة الضغط الدولي والاقليمي لضمان توازن مرحلي يسمح بتمرير المسار الانتقالي ووضع لبنات الاستقرار عبر تراكم متدرج لمقوماته وليس عبر الاكراه المباشر، غير أن الاهتمام الإعلامي الدولي والاقليمي الراهن لا يعكس جدية بقدر ما يعكس تنافساً جارياً على الأدوار وامتلاك أدوات التأثير.
وجاءت قرارات إجلاء الدول الأجنبية لرعاياها وبعثاتها الدبلوماسية في وقت مبكر ليشكل قراراً بترك الشعب السوداني وحده لمعاناة الأمرين وترجيحًا لاحتمالات النزاع العاصف طويل الأمد، وبما ينذر بمخاطر تشرذم جغرافي واسع واستفحال النزاعات المناطقية على الموارد وتعزيز النزعات الانفصالية، فضلا عن موجات لجوء عارمة لدول الجوار.
وبينما سعى كل طرف من المتصارعين لتبرئة نفسيهما من ارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان في اعتصام القيادة العامة في ٣ يونيو ٢٠١٩، تارة بإلقاء كل منهما اللوم على الطرف الآخر، وتارة باتهام طرف ثالث يتمثل في النظام المخلوع باعتباره الخاسر، فقد تورط الطرفان المتنازعان حاليًا في ارتكاب حزمة من الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، ووضعا نفسيهما موضع الشبهة بارتكاب جرائم القتل خارج نطاق القانون، والتي تجلى أبرزها في اغتيال رموز المظاهرات المحتجة على انقلاب ٢٥ أكتوبر ٢٠٢١ بواسطة القناصة.
يشكل امتداد أمد النزاع تحدياً كبيراً لدول الجوار المباشر، وتتمتع دولتين فقط بالاستقرار هما مصر وإريتريا، بينما تغلب النزاعات والاضطرابات على ليبيا وتشاد وجمهورية أفريقيا الوسطى وجنوب السودان وإثيوبيا. وحتى إعداد التقرير الماثل، فحتى 27 الجاري استقبلت مصر نحو 16 ألف من السودانيين والجنسيات الأجنبية ووفر الهلال الأحمر المصري مساعدات على المعابر الحدودية، واستقبلت تشاد نحو 20 ألف، بينهم 10 آلاف سوداني على الأقل ووفرت منظمات الإغاثة الأممية الدعم للقادمين (حيث يوجد 400 ألف لاجئ سوداني في مخيمات شرقي تشاد)، واستقبلت إثيوبيا نحو 1000 لاجئ سوداني، ولا توجد مصادر حول عدد الفارين تجاه ليبيا، بينما لا توجد شواهد على فرار تجاه كل من إريتريا شرقاً وأفريقيا الوسطى جنوب غرب السودان.
ومن المتوقع في حال استمرار النزاع أن تشهد البلاد التي تعاني من موجات نزوح داخلي مليونية موجات إضافية من النزوح وعبور الحدود نحو دول الجوار، وفي ضوء انحسار الموارد وتداعيات موسم الأمطار، فيحتمل أن يصل الفارين خارج السودان إلى ما بين مليونين إلى ثلاثة ملايين خلال العام الجاري، خاصة مع احتمالات تشظي طرفي النزاع إلى كتل متنوعة على نحو ما شهدته الحركة الشعبية لتحرير السودان (جنوباً) وحركة تحرير السودان (غرباً) خلال العقود الماضية، على نحو سيستحيل معه وضع حد للنزاعات.
وبدلاً من أن يشكل التنوع الإثني عامل ثراء رئيسي للبلد، فقد يدفع النزاع إلى استغلاله كعامل سلبي في اتجاه التخندق والتقسيم المحتمل، سيما مع تسيد أمراء الحرب للمشهد وتوفير احتياجات الأمن والغذاء في مناطق سيطرتهم، على نحو ما جرى في بعض مناطق غرب وجنوب البلاد.
ولذا، يجدر التنويه من المخاطر التي ستشكلها تداعيات استمرار النزاع على أوضاع السلم في دول الجوار المباشر، وتأثيراته على الجوار الإقليمي العربي والأفريقي، وإمكانية تغذي ونمو بعض الحركات المتطرفة على وضعية النزاع الشامل لتهديد أمن الجوار، وحركة الملاحة الدولية في البحر الأحمر الذي يعاني من صراع دامي في سواحله الجنوبية الشرقية.
وتؤكد مصادر موثوقة بأن التفاهم بين قائد الجيش وقائد الدعم السريع بات من المستحيلات في ضوء الثقافة الشخصية لكل منهما وطبيعة علاقته بالطرف الآخر، وأن هذا الطابع الشخصي يفرض تحدياً إضافياً سيُعيق أية تسويات ويستدعي البحث عن حلول.
وبالبناء على ما سبق، يبقى هدف وقف القتال فوراً وتوفير مسار مفاوضات ناجح ضرورة لا غنى عنها على الصعيدين الإقليمي والدولي، ويجب استثمار كافة الموارد المتاحة للمجتمع الدولي في سبيل تحقيق ذلك.
توصيات أولية
- الحاجة لنهوض مجلس الأمن بمسئولياته في حفظ السلم والأمن الدوليين، خاصة عبر توفير الدعم اللازم لمبادرات التشوية، وتعزيز دور الكيانات الإقليمية المعنية، وخاصة هيئة الشراكة من أجل التنمية في شرق أفريقيا “الإيجاد”، وكل من الاتحاد الأفريقي وجامعة الدول العربية، وفقاً لأولوية ولاية الاتحادات الإقليمية.
- تدعو المنظمة لاجتماع عاجل لمجلس حقوق الإنسان بالأمم المتحدة للنظر في وضعية حقوق الإنسان المتفاقمة في ظل النزاع الجاري، والنظر في تشكيل لجنة تحقيق دولية مستقلة لرصد انتهاكات حقوق الإنسان وتوثيق الجرائم وضمان محاسبة المسئولين ومنع إفلاتهم من العقاب، والتنسيق مع المحكمة الجنائية الدولية في ضوء ولايتها على ملف جرائم إقليم دارفور.
- أهمية التلويح بفرض عقوبات شخصية على قادة طرفي النزاع في حال المماطلة للمبادرات الدولية لوقف القتال والجلوس إلى مائدة المفاوضات للتوصل لتسوية.
- النظر في عقد مؤتمر دولي عاجل لتوفير الدعم الإغاثي الضروري للسكان وتلبية احتياجاتهم، وضمان تلبية طرفي النزاع لفتح مسارات آمنة للعمل الإنساني.
- النظر في ترتيب إجراءات حماية إقليمية لطواقم الأمم المتحدة العاملة وغيرها من منظمات العمل الإنساني.
- الحاجة إلى تشكيل لجنة حكماء مصغرة من ذوي المصداقية الشعبية من قادة الأحزاب السياسية ورموز المجتمع المدني للمساهمة في بلورة جهود دولية ملائمة لمعالجة الأزمة.
(تقرير صادر فجر اليوم عن المنظمة العربية لحقوق الانسان)