دراسات

سياسات حكومة نتنياهو وأثرها على هوية وأمن إسرائيل

د. فرناز عطية .. لم تكمل حكومة نتنياهو عدة أشهر على الوصول للسلطة في إسرائيل، إلا وقد أثارت كم كبير من القلاقل والاضطرابات في الداخل الإسرائيلي، وجدل وامتعاض في الخارج، بسبب سياستها وممارساتها العنصرية ضد الفلسطينيين، وقراراتها التعسفية الراديكالية التي تتنافى مع مفهوم الديموقراطية.

تتحالف حكومة نتنياهو مع تجمع الصهيونية الدينية المتطرف ثالث أكبر مجموعة في الكنيست، وثاني أكبر مجموعة في الائتلاف الحاكم بقيادة ” إيتمار بن غفير” وزير الأمن القومي، وتلميذ الحاخام الراحل مئير كاهانا ذو الأيديولوجية المعادية للعرب، حتى أن الولايات المتحدة وصفت حركته بأنها جماعة إرهابية، وكذا زعامة ” بتسلئيل سموتريتش” الذي أضحى وزيرًا للمالية، والمؤمن بتحويل إسرائيل إلى دولة هالاخية (تقوم على الشريعة اليهودية)، وضرورة إقامة دولة إسرائيل الكبرى التي تضم فلسطين والأردن، وضم الأراضي الفلسطينية، وانطلاقا مما سبق ذكره عمدت هذه الحكومة إلى اتخاذ إجراءات مثيرة لسخط الجماهير الإسرائيلية والفلسطينية ضاربة بأصوات المعارضين عرض الحائط، وكان أبرزها:

  • التعديلات القضائية:
    أدى إصرار حكومة نتنياهو على إرساء عدد من التعديلات القضائية بالرغم من معارضة الجماهير لهذه التعديلات، إلى احتجاجات واسعة بين الفئات المختلفة من الشعب في إسرائيل، فقد وافق البرلمان الإسرائيلي “الكنيست” في منتصف فبراير 2023 على القراءة الأولية لمشروعَي قانونَين يتعلّقان بالإصلاح القضائي، على الرغم من الاحتجاجات الشعبية المستمرة؛ مما أحدث أزمة فجرها هذين التشريعين المقترحين على نطاق واسع في إسرائيل.
    ويذكر أن هذه التعديلات لها تبعات خطيرة على الأوضاع السياسية والاقتصادية في إسرائيل:

    سياسيًا
    تؤدي للإخلال بنظام الضبط والتوازن في العملية الديمقراطية، وتدمير مبدأي الفصل بين السلطات واستقلالية القضاء، فهذه التعديلات ستجعل اليد العليا للسلطة التنفيذية، التي يعد وزراؤها أعضاء في الكنيست، وبموجب خطة الإصلاح الشامل المقترحة من قبل حكومة نتنياهو، التي تقضي بتفويض الحكومة في تعيين القضاة، يصبح المشهد السياسي تحت هيمنة شخص واحد، ألا وهو رئيس الوزراء، ويعمل التشريع المطروح لإجراء التعديلات القضائية على تقويض المحكمة العليا والحد من صلاحياتها في إلغاء القوانين، ويسمح للبرلمان بإعادة سن القوانين التي استبعدتها المحكمة، كما يمنح الحكومة السيطرة على تعيين القضاة، ويسمح للوزراء بتعيين المستشارين القانونيين لوزاراتهم، كذا يسمح لرئيس الوزراء نتنياهو بتخطي تهمة الفساد التي تلاحقه منذ عامين، كما تسمح للأشخاص المدانين بارتكاب جرائم، لكنهم نجوا من السجن، بأن يصبحوا وزراء، ومن ناحية أخرى يعتقد أن تؤدي هذه التعديلات إلى زيادة العنف في المجتمع الإسرائيلي بين المكونات العلمانية والدينية، وكذا الاختلاف مع الحلفاء الرئيسيين لإسرائيل مثل: الولايات المتحدة، وانخراط المتشددين أكثر في الحياة السياسية بعد أن كان دورهم ثانويًا نظرًا لتفرغهم لدراسة التوراة واستثنائهم من التجنيد الإجباري.

    اقتصاديًا

الإضرار بالتصنيف الائتماني لإسرائيل، وهروب رؤوس الأموال إلى الخارج، وبهذا الصدد صدرت تحذيرات من محافظ البنك المركزي الإسرائيلي، وشركة الخدمات المصرفية الاستثمارية “جي بي مورغان”، وعدد من شركات التصنيف الائتماني الدولية، كما حذر بنك إتش إس بي سي في تقرير له في 6فبراير2023 من انعكاس هذه التعديلات وتأثيرها سلبًا على التصنيف الائتماني الدولي لإسرائيل والاستثمار الأجنبي فيها، كذا انتقد “فولكر تورك” مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان التعديلات القضائية المزمع إقرارها وأكد أنها ستقوض قدرة القضاء على حماية الحقوق الفردية ودعم سيادة القانون، وجدير بالذكر أن نتنياهو حذر أرباب العمل بقطاع التكنولوجيا والمستثمرين بها من الانسحاب ومغادرة البلاد اعتراضًا على خططه لأن البلاد ستظل “مكانا آمنًا للأعمال والتقنية.

  • العقاب الجماعي والممارسات العنصرية ضد الفلسطينيين
    عمدت حكومة نتنياهو التي يغلب عليها الطابع اليميني المتطرف إلى اتخاذ قرارات وإجراءات عنصرية واستفزازية ضد الفلسطينيين، ومحاولة شرعنة هذه الممارسات العنصرية من خلال السعي لتعديل بعض القوانين أو إصدار قوانين ضد الفلسطينيين.
    ويذكر أن الحكومة الحالية بالرغم من حداثة عهدها إلا أن هناك تزايد في عدد الجرائم المرتكبة في حق الفلسطينيين، حيث كررت اعتداءاتها على المخيمات الفلسطينية والفلسطينيين في القدس، ناهيك عن نفيذ اعتقالات، أو اغتيالات بحقهم، إلى جانب هدم منازلهم وغيرها، ما أثار حنق الفلسطينيين حتى قام شاب بالاعتداء على كنيس إسرائيلي في حي النبي يعقوب شمال شرقي القدس يناير 2023 حيث قضى على إثر هذا الاعتداء 8 أشخاص، ووقعت بعض الإصابات، ما أدى لانزلاق الطرفين إلى دائرة العنف والعنف المضاد، كما ونفذت إسرائيل، في الشهر ذاته عملية داخل مخيم جنين، والتي راح ضحيتها حوالي 9 أفراد، وإصابة 13 آخرين، طالبت السلطة الفلسطينية بدورها، بتحرك دولي عاجل ضد القوات الإسرائيلية وما تمارسه من عمليات عقاب جماعي للفلسطينيين وإرهاب المستوطنين للفلسطينيين بالقتل والسرقة وهدم البيوت خاصة المقدسيين تحت حماية الجيش الإسرائيلي، هذا إلى جانب عملية اقتحام المسجد الأقصى على يد مستوطنين متطرفين ورفعهم العلم الإسرائيلي في باحاته وتكرار اقتحام شرطة الاحتلال لمصلى باب الرحمة في شهر رمضان/ إبريل وتخريب تمديدات الكهرباء داخله، هذا إلى جانب الغارات الجوية التي تشنها إسرائيل منذ فبراير الفائت على قطاع غزة.
  • زيادة البؤر الاستيطانية:
    وافق رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو على استئناف البناء الاستيطاني في الضفة الغربية، أو أراضي عرب 48 أو القدس، وذلك في إطار الاتفاقيات الائتلافية التي أبرمها مع شركائه اليمينيين، من خلال تطبيق قانون “التنظيم والبناء” الذي يهدد بهدم 50 ألف منزل في الجليل دون ترخيص، و 20 ألف منزل في القدس، وكذا إلغاء الكنيست لقانون “فك الارتباط” في مارس 2023، وهو القانون الذي سُن عام 2005 وقضى بإخلاء المستوطنات من قطاع غزة، و4 مستوطنات شمالي الضفة الغربية، وإلغائه يسمح بالتوسع في الاستيطان بشمال الضفة الغربية والعودة لغزة، ويذكر أن حكومة نتنياهو أعدت خطة غير مسبوقة للاستيطان في الضفة الغربية لشرعنة وزيادة المستوطنات اليهودية هناك، ضمت:
  • إقرار آلاف من خطط البناء.
  • ضمّ ملايين الفلسطينيين إلى المعطيات الرسمية.
  • إخراج الإدارة المدنية من وزارة الأمن.
  • انعقاد المجلس الأعلى للتخطيط والبناء في يهودا والسامرة “الضفة” في كلّ شهر، بدلاً من كلّ ثلاثة أشهر، بهدف إقرار بناء شقق ومؤسسات عامة.
  • تشكيل لجنة “مجلس أعلى” مصغرة لإقرار مبانٍ تربوية وصناعية ستنعقد كل أسبوعين، ويتوقع أن يقر المجلس 18 ألف وحدة سكنية جديدة في الشهور القادمة.
  • استكمال مشاريع التي أُوقفتها الحكومة السابقة.
    كما تستهدف حكومة نتنياهو منطقة الجليل شمال فلسطين ذات الأغلبية الفلسطينية، والتي تعد مصدرًا مهمًا للمياه ولها بعد استراتيجي لقربها من لبنان ومن الجولان، وتشمل خطة الاستيطان في الجليل: منح الامتيازات لليهود في الجليل والنقب، كبيع الأراضي للمستوطنين بأسعار رخيصة، ومنح تصاريح البناء وتسريع معاملاتهم، وتخصيص الميزانيات لليهود فقط، خاصة رجال الشرطة والأمن الذين يقودهم “بن غفير” وزير الأمن القومي، حيث ترى حكومة نتنياهو ضرورة توسيع الاستيطان في الجليل التي تضم 29 مستوطنة على مساحة 17 ألف دونمًا.
  • استحداث قوة الحرس الوطني
    تعود فكرة إنشائه إلى “إيتمار بن غفير” وقد واكبت هذه الفكرة الاحتجاجات الشعبية ضد التعديلات القضائية، وقد قايض بن غفير الموافقة على تأجيل التعديلات مقابل موافقة الحكومة على إنشاء قوة الحرس الوطني، وتهدف إلى مواجهة الفلسطينيين والجرائم المنبثقة عن المجتمعات العربية، وقد وافقت الحكومة على تمويل هذه القوة، وقد تم الاتفاق بين “كوبي شبتاي” قائد الشرطة الإسرائيلية و “بن غفير” على إنشائها ويتوقع أن تخضع مباشرة للأخير، ويذكر أن الحكومة صادقت على تقليص ميزانيات كافة الوزارات بهدف إقامة هذه القوة، ومن المقرر أن تبلغ ميزانيتها مليار شيكل 275 مليون دولارًا تقريبًا ، وهو ما قوبل بمخاوف وانتقادات من قبل الفلسطينيين والإسرائيليين، فقد عارضت “غالي باهراف ميارا” المستشارة القضائية للحكومة (المدعية العامة في إسرائيل) إنشاء هذه القوة، وسيطرة بن غفير عليها وأكدت أنها تعترضها عقبات قانونية لتداخل مهامها مع الشرطة، ناهيك عن تخوف العلمانيين من استخدام هذه القوة لسحق معارضي الحكومة اليمينية المتطرفة، مما ينذر باحتمالية اندلاع حرب أهلية في إسرائيل.

    الاحتجاجات الداخلية وتهديد أمن إسرائيل:
    هل توفر هذه الاحتجاجات والاضطرابات الداخلية فرصة ملائمة للنيل من أمن إسرائيل وقدرتها على الردع؟ تعالت بعض الأصوات مؤخرًا مؤيدة هذا الأمر، ولكن في الحقيقة ما هذا إلا دعاية صاخبة لمعارضي حكومة نتنياهو لضغط على الحكومة لتنفيذ مطالبهم، ففي واقع الأمر فإن العمليات ضد إسرائيل غالبًا ما ترتبط في معظمها بما تمارسه إسرائيل ضد الفلسطينيين والمقدسات الإسلامية من أعمال قمعية وهمجية، ولم ترتبط قط بالتوترات أو الاضطرابات الداخلية مهما بلغت شدتها في إسرائيل، فالعمليات التي ينفذها بعض الشباب الفلسطيني هي سلوك فردي وليست عمليات منظمة ردًا على اقتحامات الجيش الإسرائيلي في شرق القدس والضفة الغربية ضمن حملة “كاسر الأمواج”، والتي بدأت في عهد حكومة “بينيت” و”لابيد”.

    كذا فبإمعان النظر إلى أعداء إسرائيل كما تسميهم تل أبيب، فهم مشغولون بأمور داخلية فعلى سبيل المثال “حزب الله” منخرط في الأوضاع السياسية والاقتصادية المتردية في لبنان ومستحدثاتها، ومحاولة الاستفادة اقتصاديًا قدر الإمكان من اتفاقية “ترسيم الحدود” اللبنانية -الإسرائيلية، وفيما يخص حركتي حماس والجهاد الإسلامي، فحماس مشغولة بإعادة بناء قدراتها التي تضررت بعد مواجهة “حارس الأسوار” مع الجانب الإسرائيلي مايو 2021، فضلاً عن رغبتها في تجنب إحداث أي توتر مع الوسيط المصري الذي يرعى التهدئة بينها وبين تل أبيب، كما أن لها قدرة على تقييد الجهاد الإسلامي ومنعه من إطلاق صواريخ على إسرائيل تؤدي لتصعيد الخلاف معها، وبالتالي فكل هذه الأطراف ليست مستعدة للدخول في مواجهة موسعة ومباشرة مع إسرائيل في الوقت الراهن وبالتالي تعجز عن استثمار التوتر في الداخل الإسرائيلي، ومن جهة أخرى فإيران منشغلة بملفها النووي وبمحاولة إنقاذ تواجدها وأذرعها في المنطقة، لاسيما مع الهجمات والضربات التي تتلقاها من تل أبيب في سوريا، مما يتعذر معه إمداد حلفاءها في المنطقة بالأسلحة الإيرانية.
    ومن زاوية أخرى نجد أن نتنياهو “ثعلب السياسة” في إسرائيل الذي تكرر فوزه وتوليه لمنصب رئاسة الوزراء لديه الخبرة الكافية للتعامل مع مثل هذه القضايا، وهؤلاء الأعداء على حد تعبير الإسرائيليين، هذا إلى جانب تماسك المجتمع الإسرائيلي وقت التهديدات الخارجية.

    الاحتجاجات الداخلية والهوية الوطنية
    يرى البعض ومنهم الكاتب ” ديفيد جروسمان” أن تحليل هذه الاحتجاجات الشعبية يؤكد حدوث تحول في الهوية الوطنية القومية لإسرائيل تجري على خلفية التغيير العالمي؛ فالدولة التي لطالما صنفت كدولة قومية ليبرالية وعلمانية ذات ميول غربية تعالج تحدياتها بشكل مباشر وكامل سواء في الداخل أو في الخارج، منذ بنائها في الأربعينات وصقلها خلال بقية القرن العشرين، تشهد اليوم مواطنين ذوي خلفية تاريخية متباينة عن سابقيهم، كما أن الحريديم والمتدينين زادت مساحة مشاركتهم في السياسة والاقتصاد لاسيما مع التهديدات الأمنية التي تواجه إسرائيل في المنطقة، وعدم وضوح بنية النظام العالمي حتى الآن، وبالتالي أضحت الاستراتيجية الوطنية لإسرائيل ترفع شعار “أمن إسرائيل” أولاً حتى لو كان ذلك على حساب أن تتغير هوية الدولة وتتسم بالطابع اليميني جانحة عن القيم الغربية.

    وهذا يعني أنه حتى لو انهارت الحكومة التي يقودها نتنياهو قبل انتهاء ولايتها، فإن الحكومة القادمة سترث على الأقل بعض الصلاحيات لتحويل الهوية السياسية والاجتماعية للبلاد إلى اليمين، مما سيولد احتجاجات شعبية واضطرابات داخلية، وتهديدات بالهجرة، وتحولات اقتصادية، بحيث يحاول العلمانيون والليبراليون إبطاء هذه العملية، ولكن ستصبح إسرائيل كأي دولة تسعى لتحقيق مصالحها لخلق انسجام محلي ومواجهة التحديات الاستراتيجية، حتى وإن اختلفت مع الولايات المتحدة الأمريكية، حيث أصبح ما يحقق مصلحة واشنطن ليس بالضرورة يحقق مصلحة تل أبيب والعكس صحيح.
    وفي المقابل يرى نتنياهو وأنصاره أن الاحتجاجات، التي دفعت مئات الآلاف من الإسرائيليين إلى الشوارع لمدة 17 أسبوعًا على التوالي ليست علامة على انهيار الديمقراطية، وإنما علامة على قوة النقاش العام.

    وأخيرًا يمكن القول بأن استمرار حكومة نتنياهو في نهجها التعسفي العنصري الديكتاتوري، يعمل على التأثير على الاستقرار في الداخل ويثير السخط الشعبي الإسرائيلي، ولكنه لا يهدد بشكل مباشر أمن إسرائيل أو يوجد الفرصة السانحة للانقضاض عليها، ولكنه مجرد ضغط شعبي للتعبير عن رفض السياسات التي تنتهجها هذه الحكومة ومحاولاتها الانفراد بالقرار، مما قد يعجل برحيلها، ومن جانب آخر فإن سياسات العقاب الجماعي والقمع التي تسلكها هذه الحكومة ضد الفلسطينيين ستؤدي لمردود عكسي يساهم في التعجيل برحيل هذه الحكومة لأنه سيؤدي للانخراط في دائرة العنف والعنف المضاد، وهو ما يسعى المواطن الإسرائيلي لتجنبه بكافة الطرق الممكنة.
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى