متابعات

الذكاء الاصطناعي بين التهوين والتهويل

تحليل د. أحمد فتحي ..

يعيش العالم عصر الذكاء الاصطناعي (AI) الذي برز بسرعة كقوة تحويلية أحدثت ثورة في مختلف جوانب حياتنا، وتأثيرات على بيئة العمل في المجالات المختلفة والحياة الفردية اليومية، قد تتخطى تصورات أفلام المخرج سبيلبرج الهوليودية في فترة التسعينات عن مستقبل الأرض الذي تديره الآلات والحواسيب.


وقد أصبحت مصطلحات الذكاء الصناعي والروبوتات منتشرة إلى حد أن الناس يخشون أن تسيطر الآلات على حياتهم وأن يتناقص دور البشر في العديد من المجالات والمهن. غير أن الواقع بعيد كل البعد عن هذا التصور.

ويتميِّز البشر بقدرتهم على تطبيق مواهبهم ومهاراتهم وقدراتهم في صور مختلفة ومتفردة، وهو ما لا تستطيع المخلوقات الاخرى فعله، ويختلف الناس أيضا عن بعضهم البعض من حيث الإبداع والتفوق، ويوصف المتفوقون عادة “بالذكاء البشري” والذي يعرف على أنه “القدرة والمهارة لحل المشكلات”.

ويرجع السبب الرئيسي لتطوير الذكاء الاصطناعي هو محاكاة العقل البشري من خلال دراسة سلوك الذكاء البشري باستخدام البرامج الحاسوبية القادرة على فهم سلوكهم. وهذه الحقيقة تشير إلى أن الذكاء الحاسوبي والبشري سيكون له تأثير كبير وواضح على البشرية.

ويوصف الذكاء الاصطناعي بأنه “مهارة الآلات والبرامج لمحاكاة التجارب العقلية البشرية وأنماط ممارساتها، مثل القدرة على التعلم، والحكم، والاستجابة للحالات غير المبرمجة في الآلة “.

ويصف العلماء الذكاء الاصطناعي بأنه “دراسة وتصميم النظم الذكية التي تشمل بيئتها واتخاذ التدابير التي تزيد من فرص نجاحها”. ويشرح جون مكارثي، عالم الحوسبيات الذي ابتكر هذا المصطلح في عام 1955 بكلية دارتموث، في هانوفر بالولايات المتحدة الأمريكية خلال انعقاد مدرسة صيفية، أنه “علم وهندسة صنع الآلات الذكية”.

ولكن هل يمكن للآلة أن تصبح أذكى من الإنسان؟ يرد جان غابريال غاناسيا، رائد المعلوماتية بجامعة السوربون بإجابة قاطعة “لا، هذه أسطورة مستوحاة من الخيال العلمي”، مما يضع الذكاء الاصطناعي بين مطرقة “التهويل” بتحديات الذكاء الاصطناعي وسندان “التهوين” بفرص استغلاله المستقبلية.

تهوين تحديات الذكاء الاصطناعي

1- تهديد للاقتصاديات النامية:
وفقًا لصندوق النقد الدولي (IMF)، فإن ظهور الذكاء الاصطناعي يمكن أن يؤدي إلى اتساع الفجوة بين الدول الغنية والفقيرة عبر عدة قنوات مختلفة. وعلى وجه الخصوص، وجدت دراسة أجراها صندوق النقد الدولي أنه نظرا لارتفاع الأجور في الاقتصادات المتقدمة، فإن الدافع لاستبدال القوى العاملة بتكنولوجيات جديدة يكون أقوى هناك، مما يؤدي إلى ارتفاع الطلب على الاستثمار في الروبوتات بدلا من الجوانب التقليدية للاقتصاد. ووفقا لصندوق النقد الدولي، فإن هذا بدوره قد يتسبب في تحويل الاستثمارات من البلدان النامية إلى الاقتصادات المتقدمة، “مما يؤدي إلى انخفاض انتقالي في الناتج المحلي الإجمالي في البلدان النامية”.

ووجدت هذه الدراسة أيضًا أن المجال الذي من المتوقع أن يكون للذكاء الاصطناعي فيه التأثير الأكبر في العالم النامي هو سوق العمل، حيث اعتادت الاقتصادات المتقدمة منذ فترة طويلة على الاستعانة بالقوى العاملة من البلدان الناشئة، وخاصة في التصنيع والخدمات اللوجستية بين أنواع أخرى من الخدمات، فمن المتوقع أن يحل الذكاء الاصطناعي محل تلك العمالة الرخيصة.

2- الاعتبارات الأخلاقية: تعد أحد التحديات الرئيسية المحيطة بالذكاء الاصطناعي هو اتخاذ القرارات الأخلاقية. مع تزايد استقلالية أنظمة الذكاء الاصطناعي، تنشأ أسئلة حول المساءلة والتحيز والخصوصية. ويظل ضمان عمل الذكاء الاصطناعي بطريقة عادلة ومسؤولة مصدر قلق ملح.

وقد دعت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) إلى إقامة حوار عالمي حول تدشين إطار أخلاقي لتطوير الذكاء الاصطناعي، بمشاركة لعديد من الجهات الفاعلة مثل الشركات ومراكز البحوث وأكاديميات العلوم والدول الأعضاء في الأمم المتحدة والمنظمات الدولية وجمعيات المجتمع المدني، استكمالًا لتقرير اللجنة العالمية لأخلاقيات المعرفة العلمية والتكنولوجيا حول أخلاقيات الروبوتات في عام 2017، مع تجنب اتباع نهج “الانتقاء والاختيار” في الأخلاقيات.

3- تغيير جذري في الوظائف: تتمتع الأتمتة (Automation)، وهي عملية تطبيق الآلات للمهام التي يتم تنفيذها مرة واحدة أو على نحو متزايد من قبل البشر، التي تعمل بالذكاء الاصطناعي بالقدرة على إعادة تشكيل سوق العمل. وفي حين أنه ذلك قد يلغي بعض المهام الروتينية، فإنه يخلق أيضًا أدوارًا جديدة ويتطلب مجموعات مهارات جديدة، ويؤدي هذا التحول إلى إزاحة الوظائف ويتطلب اتخاذ تدابير استباقية لتحسين مهارات القوى العاملة وإعادة مهاراتها.

وقد ذكر تقرير صادر عن بنك الاستثمار غولدمان ساكس مطلع العام الحالي، إن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يحل محل ما يعادل 300 مليون وظيفة بدوام كامل خلال الفترة المقبلة، حيث يتم أتمتة بعض المهام والوظائف في جميع أنحاء العالم، وبحسب التقرير فإن تقنيات الذكاء الاصطناعي ستقوم بمهام ربع الوظائف في الولايات المتحدة وأوروبا، ويسلط التقرير الضوء على عدد من الصناعات والوظائف التي يمكن أن تتأثر، بما في ذلك الوظائف الإدارية، والعمل القانوني، والهندسة المعمارية، والإدارة.

4- خصوصية البيانات وأمنها: تعتمد أنظمة الذكاء الاصطناعي بشكل كبير على البيانات. يثير جمع وتخزين وتحليل كميات هائلة من المعلومات الشخصية والحساسة مخاوف بشأن خصوصية البيانات وأمنها. تعد حماية البيانات وضمان استخدامها المسؤول أمرًا بالغ الأهمية للحفاظ على الثقة في تقنيات الذكاء الاصطناعي.
ويوضح تقرير مفوضيّة الأمم المتّحدة السامية لحقوق الإنسان 2022 بالتفصيل، كيف تعتمد أنظمة الذكاء الاصطناعي على مجموعات كبيرة من البيانات، تتضمّن معلومات حول الأفراد يتم جمعها ومشاركتها ودمجها وتحليلها بطرق متنوّعة ومبهمة في أغلب الأحيان. وقد تكون البيانات المستخدمة لإثراء أنظمة الذكاء الاصطناعي وتوجيها معيبة أو تمييزية أو قديمة أو لا تمتّ بصلة بالموضوع المطروح. ويولّد تخزين البيانات الطويل الأمد مخاطر معينة، حيث يمكن استغلال البيانات في المستقبل بطرق غير معروفة بعد في يومنا هذا.

الافتقار إلى الشفافية: غالبًا ما تفتقر خوارزميات الذكاء الاصطناعي المعقدة إلى الشفافية، مما يجعل من الصعب فهم كيفية وصولها إلى قرارات أو توصيات معينة، ومن الممكن أن يثير هذا التعتيم مخاوف بشأن التحيزات، خاصة في المجالات الحيوية مثل الرعاية الصحية أو العدالة الجنائية.
ويدعم ذلك الاتجاه رئيسة قطاع التكنولوجيا في الاتحاد الأوروبي مارغريت فيستاجر، التي صرحت إن قدرة الذكاء الاصطناعي على تضخيم التحيز أو التمييز أصبحت مصدر قلق كبير وسببا ملحا لإيجاد حل. وبالنسبة لـ فيستاجر فإن ما يقلقها على وجه الخصوص، هو الدور الذي يمكن أن يلعبه الذكاء الاصطناعي في اتخاذ قرارات تؤثر على سبل عيش الناس مثل طلبات القروض، مضيفة أن هناك “خطرا بالتأكيد” يتمثل في إمكانية استخدام الذكاء الاصطناعي للتأثير على الانتخابات.

تهويل فرص الذكاء الاصطناعي

1- زيادة الكفاءة والإنتاجية: يقوم الذكاء الاصطناعي بأتمتة المهام المتكررة، مما يمكّن البشر من التركيز على الأعمال الأكثر تعقيدًا وإبداعًا. فهو يبسط سير العمل، ويعزز الدقة، ويحسن الكفاءة، مما يسمح للمؤسسات بتحقيق مستويات إنتاجية أعلى.

يتوقع تقرير صادر عن مؤسسة ماكينزي أن الذكاء الاصطناعي سيتيح للاقتصاد العالمي تحقيق منافع اقتصادية حجمها 4.4 تريليون دولار سنوياً، أي ما يوازي 4.4% من حجم الإنتاج العالمي في 2022.

وتراهين مؤسسة غولدمان ساكس أيضاً على إمكانيات التقنية، حيث توقّع المحللون في تقرير صدر في مارس الماضي 2023، أن الذكاء الاصطناعي التوليدي بإمكانه رفع إنتاجية العمل في الولايات المتحدة بنحو 1.5 نقطة مئوية سنوياً على مدى عقد من خلال توفير تكاليف العمالة وتوليد وظائف جديدة ورفع إنتاجية الموظفين الذين يحتفظون بوظائفهم.

2- تعزيز عملية صنع القرار: تمتلك أنظمة الذكاء الاصطناعي القدرة على تحليل كميات هائلة من البيانات وتقديم رؤى قيمة. وهذا يمكّن الشركات والأفراد من اتخاذ قرارات تعتمد على البيانات، مما يؤدي إلى تحسين النتائج والأداء.

وفي دراسة موسعة عن دور الذكاء الاصطناعي في عملية اتخاذ القرار داخل الوزارات الخدمية لدولة الامارات نشرت بمجلة كلية المعارف الجامعية، تتضمن تغيير آلية عمل الخدمات الحكومية، وصولا إلى تحليل البيانات بشكل كامل بحلول عام 2031، بينت المناقشات أنَّ استراتيجية الإمارات للذكاء الاصطناعي تستهدف عدة قطاعات حيوية في الدولة، منها قطاع النقل من خلال تقليل الحوادث والتكاليف التشغيلية. قطاع الفضاء بإجراء التجارب الدقيقة وتقليل نسب الأخطاء المكلفة. قطاع الطاقة عبر إدارة المرافق والاستهلاك الذكي. قطاع المياه عبر إجراء التحليل والدراسات الدقيقة لتوفير الموارد. قطاع التكنولوجيا من خلال رفع نسبة الإنتاج والمساعدة في الصرف العام، قطاع التعليم من خلال التقليل من التكاليف وزيادة الرغبة في التعلم. قطاع المرور تطوير آليات وقائية كالتنبؤ بالحوادث والازدحام المروري.

وعلى عكس ذلك، شرت مجلة “فورين أفيرز” (Foreign Affairs) مقالا عن الذكاء الاصطناعي، ودوره في “تشويه” صناعة القرار، للأكاديميين هنري فاريل أستاذ الشؤون الدولية بجامعة جونز هوبكنز، وأبراهام نيومان أستاذ نظم الحكم بجامعة جورجتاون، وجيرمي والاس أستاذ نظم الحكم بجامعة كورنيل.

ويوضح هؤلاء الباحثون أن عملية صناعة القرار تعتمد على البيانات باعتبارها هي النفط الجديد، لتصبح بذلك دولة مثل الصين بمنزلة “أوبك” أخرى، وإذا كان المصدر الرئيس الذي يعتمد عليه ذلك الذكاء هو البيانات، فإن الصين بتعداد مواطنيها الذي يتجاوز مليار نسمة، وتساهلها إزاء معايير الجودة العالية؛ يبدو أنه مقدّر لها الفوز في ذلك السباق، ويفترض الباحثون أن الغلبة في مجال الذكاء الاصطناعي ستؤدي بطبيعة الحال إلى تفوق إحدى الدولتين (الولايات المتحدة والصين) على الأخرى اقتصاديا وعسكريا بشكل أوسع.

3- انقاذ الأرض والاستدامة البيئية: حددت الأمم المتحدة 17 هدفا لتحقيق التنمية المستدامة على مستوى العالم، وتتصدى هذه الأهداف للتحديات العالمية التي تواجهها البشرية، بما في ذلك المتعلقة بالفقر وعدم المساواة والمناخ وتدهور البيئة والازدهار والسلام والعدالة، ووضعت المنظمة إطارا زمنيا لتحقيق جميع هذه الأهداف اعتبارا من عام 2030.

وفي هذا السياق، أوضح تقرير أعده الباحث أوين مولهيرن ونشرته مؤسسة “إيرث” (earth.org) على منصتها مؤخرا كيفية استخدام الذكاء الاصطناعي لتحقيق التنمية المستدامة في المجال البيئي.

وأكد الباحث في تقريره على أهمية استخدام الذكاء الاصطناعي في المحافظة على التنوع البيئي، حيث يمكن للذكاء الاصطناعي المتصل بالأقمار الاصطناعية اكتشاف التغيرات في استخدام الأراضي، ومراقبة الغطاء النباتي والحرجي، والتنبؤ بالكوارث الطبيعية ومراقبة وتحليل آثارها، كما يمكن مراقبة الأنواع الغريبة (الغازية) من الكائنات والتي قد تهدد منطقة بيئية محددة مثل المحميات البيئية وتحديدها وتتبعها، والقضاء عليها كلها باستخدام التعلم الآلي.

4- التطورات في مجال الرعاية الصحية: يتمتع الذكاء الاصطناعي بالقدرة على إحداث ثورة في الرعاية الصحية من خلال المساعدة في تشخيص الأمراض واكتشاف الأدوية وتخطيط العلاج. يمكن لخوارزميات الذكاء الاصطناعي تحليل البيانات الطبية ومساعدة المتخصصين في الرعاية الصحية في إجراء تشخيصات دقيقة وتحسين نتائج المرضى.

وقد أصدرت منظمة الصحة العالمية أول تقرير عالمي عن الذكاء الاصطناعي في مجال الصحة عام 2021، ليعد دليلًا عن كيفية تحقيق الاستفادة القصوى من منافع الذكاء الاصطناعي، حيث أوضح أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يستخدم لتحسين سرعة تشخيص الأمراض وإجراء الفحوصات ودقتهما، كما هي الحال في بعض البلدان الغنية التي بدأت في استخدامه؛ والمساعدة في الرعاية السريرية؛ وتعزيز الأبحاث الطبية وتطوير العقاقير؛ ودعم شتى تدخلات الصحة العامة مثل ترصد الأمراض، وإدارة نظم الصحة.

ويمكن أيضا للذكاء الاصطناعي أن يمكّن المرضى من التحكم بقدر أكبر في رعايتهم الصحية وتعميق فهمهم لاحتياجاتهم المتطورة. ويمكنه أن يساعد على سد النقص في الحصول على الخدمات الصحية في البلدان والمجتمعات المحلية التي تعوزها الموارد ويغلب فيها أن يقيّد وصول المرضى إلى العاملين في الصحة والمهنيين الطبيين.

كل تلك المعطيات تقودنا إلى أن التهوين والتهويل هم وجهان لعملة الذكاء الاصطناعي الواحدة، فكل مجال من المجالات التي تقودها فرص التطور والازدهار في ظل الذكاء الاصطناعي تلاحقها اتهامات التشكيك والتخوف من تداعيات استخدامه، ونفس الجهات الدولية والأكاديمية التي تعدد فوائده على المجتمعات في تقاريرها هي التي تتبني أخطار التوسع في الاعتماد عليه مستقبلًا دون رقابة وحوكمة.ويبقي التعامل مع الذكاء الاصطناعي مثل إشكالية الحريات في المجتمعات المختلفة، هل يحب أن تبقي مطلقة أم تقيد بضوابط وشروط، وإلى أي مدى يمكن لتلك الضوابط أن تحقق الاستفادة المثلى دون أن تقف عكس تيار ثورة الذكاء الاصطناعي؟

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى