بؤرة ساخنة قيد الانفجار: هل تدخل الحديقة الخلفية لأمريكا ساحة الصراعات الدولية؟
تحليل د.فرناز عطية
يبدو أن منطقة أمريكا اللاتينية لم تسلم من احتمالية اندلاع بؤرة من بؤر الصراع التي باتت تضع عالمنا المعاصر على صفيح ساخن، فإلى جانب الصراع المشتعل على أوجه بين أوكرانيا وروسيا، والعدوان الإسرائيلي على غزة، تظهر على الساحة بوادر تشير إلى احتمالية قرع طبول الحرب في منطقة أمريكا اللاتينية بين كاراكاس وجورج تاون بسبب الخلاف الحدودي بينهما بشأن الإقليم المعروف بـ(ايسكيبو أو اسيكيبا)، والذي أقدمت فنزويلا على ضمه لأراضيها مؤخرًا، وبناء عليه قامت جويانا بدورها بطلب عقد اجتماع لمجلس الأمن لتهديد الإجراءات الفنزويلية ضدها للسلام والأمن الدوليين ، والذي اجتمع 8/12/2023 في جلسة مغلقة وناقش الأزمة المتصاعدة بين الجارتين في أميركا الجنوبية بشأن الإقليم المتنازع عليه.
النزاع التاريخي على الإقليم
يعتبر إقليم ايسكيبو الغني بالنفط و والذهب والمياه العذبة والأخشاب منطقة نزاع طويلة الأمد بين فنزويلا وجويانا، ورثتاه عن القوى الاستعمارية حيث كانت تخضع فنزويلا للاحتلال الإسباني، بينما جويانا خضعت للاحتلال البريطاني، وبموجب الاتفاقية الإنجليزية الهولندية 1814، ُنقلت المستعمرات الهولندية (ديميرارا وبيربايس وإيسيكيبو) إلى بريطانيا العظمى، في 1831 دمجت بريطانيا كلًا من: بيربايس وديميرارا وإيسيكيبو مع جويانا البريطانية، وفي عام 1899 بحكم قرار محكمة باريس استولت مملكة المتحدة لأكثر من قرن من الزمان على الإقليم، فيما أدانت فنزويلا قرار محكمة باريس، وتمسكت بأن نهر إيسيكيبو الواقع شرق المنطقة ينبغي أن يشكل الحدود الطبيعية بين البلدين كما أُعلن عام 1777، في ظلّ الحكم الإسباني، لافتة إلى أن المملكة المتحدة استحوذت على أراض فنزويلية بدون حق في القرن 19.
وازداد الوضع تعقيدًا عندما استقلت جويانا 1966، وقد عقدت اتفاقية جينيف التي وقعت عليها الولايات المتحدة وفنزويلا وجويانا البريطانية في 27 فبراير عام 1966، والتي تنص على أن ترسيم الحدود البحرية بين الدولتين لا يزال قضية معلقة، وأن مثل هذا الترسيم سيتطلب مفاوضات، وأن يحل الأمر بين البلدين بشكل سلمي.
اشتعال فتيل الأزمة:
ظلت فنزويلا محترمة لما تم الاتفاق عليه في اتفاقية جينيف، حتى اتخذت جويانا بالتحالف مع الجانب الأمريكي وشركة النفط “إكسون موبيل” إجراءات منذ عام 2015 باستخراج النفط بإرادة منفردة في مياه لم ترسم حدودها بعد، وتقدر بعض كميات الاكتشافات بـ 11 مليار برميل، مما زاد من اللهجة العدائية بين البلدين، مما حدا بالرئيس الفنزويلي ” نيكولاس مادورو” إلى أن يدعو لتجديد مطلب ضم الإقليم من خلال طرح مشروع قانون لضمّ الإقليم، وهو مطلب قائم منذ قرن، كما أمر بأن يتم التسريع في منح التراخيص للشركات الفنزويلية لاستغلال النفط والغاز والمناجم في هذه المنطقة، واستحداث فرعاً لشركة النفط الوطنية الفنزويلية هناك، وإعلان إنشاء ولاية فنزويلية جديدة غرب نهر إيسيكويبو، والتفعيل الفوري لخطة المساعدة الاجتماعية لجميع سكان هناك وإحصائهم وإصدار الوثائق الفنزويلية اللازمة لهم، وبناءً عليه أدلى الفنزويليون الأحد 3 ديسمبر 2023 بأصواتهم في استفتاء عقدته كاراكاس لضم إقليم ايسكيبو الخاضع لإدارة دولة جويانا المجاورة، وذلك في إطار حملة ” ايسكيبو لنا”، وقد شارك حوالي4, 10 مليون ناخب فنزويلي، ويذكر أن 95% منهم أيدوا ضم المنطقة لبلادهم، وتبلغ مساحة الإقليم 160 ألف مترًا مربعًا، ويمثل أكثر من ثلثي مساحة جويانا فيما يشكل سكانه خمس إجمالي عدد سكانها، أي ما يقدر بـ125 ألف نسمة، وفي المقابل أعلن “عرفان علي” رئيس جويانا أن ما ذكره نظيره الفنزويلي من إجراءات يمثّل “تهديداً مباشراً لسيادة بلاده وسلامة أراضيها واستقلالها السياسي”.
عوامل شجعت على خلق الأزمة:
أولا: عوامل داخلية
1- رغبة الرئيس الفنزويلي في زيادة شعبيته، والبحث عن قضية وطنية يتمكن من حشد الداعمين لها من الشعب الفنزويلي، لاسيما مع عدم قبول الولايات المتحدة له، ومحاولاتها لاقتلاعه من السلطة، خاصة مع اعتناقه للأيديولوجية الشافيزية، وعلاقاته الوطيدة بالدول المناوئة واشنطن كالصين وروسيا وكوبا.
2- الظروف الاقتصادية الصعبة التي عانت منها فنزويلا سواءً بسبب العقوبات الأميركية أو سوء الإدارة وتفشي الفساد.
3- بدء كاراكاس تنفس الصعداء والشعور بوجود فرصة للانتعاش الاقتصادي والاستقرار السياسي، خاصة بعد أن رفعت واشنطن عددًا من العقوبات عنها، ورغبتها في استغلال ثروات الإقليم لدعم اقتصادها.
4- توفر القدرات والإمكانات العسكرية للجانب الفنزويلي مقارنة بنظيره في جويانا، فجدير بالذكر أن عدد عناصره النشطة لا يقل عن 120 ألف ضابطًا وجنديًا، مقابل حوالي 3600 عنصرًا لدى الأخيرة.
ثانيًا: عوامل خارجية
1- استغلال الجانب الفنزويلي انشغال العالم حاليًا بالأوضاع المشتعلة في أوكرانيا والإبادة العرقية الإسرائيلية للفلسطينيين في قطاع غزة، مما يسهل مهمة ضم الإقليم.
2- إرهاق الولايات المتحدة الأمريكية واستنزاف مواردها المالية في الدعم المالي والمساعدات لحلفائها أوكرانيا وإسرائيل في حروبهم واستياء الشعب الأمريكي، فجدير بالذكر أنه تم عرقلة تمرير تشريع بالكونجرس، من شأنه توفير مساعدات أمنية لأوكرانيا وإسرائيل بقيمة 106 مليارات دولارًا.
3- العلاقات الوطيدة بين فنزويلا وروسيا والصين في العديد من المجالات العسكرية والاقتصادية والاستخباراتية واللوجستية، مما يوفر غطاء خارجي داعم لموقف كاراكاس بشكل غير مباشر، حيث تمثل هذه الأزمة فرصة سانحة للتدخل بشكل خفي في منطقة النفوذ الأمريكي واختراقها التأثير سلبًا على الولايات المتحدة.
وبالتالي فإذا تمسكت كاراكاس بضم الإقليم وما سيتبعه من الإجراءات التي هددت بالقيام بها لإضفاء الهوية الفنزويلية عليه؛ فإن خيوط الأزمة ستتعقد وتحتدم مما يرجح تدخل الولايات المتحدة الأمريكية لصالح حليفتها جويانا، بأن تفرض مزيدًا من العقوبات على الجانب الفنزويلي، ويستبعد في المستقبل القريب أن تتم المواجهة العسكرية، لأن واشنطن مستغرقة في جبهتين دوليتين في منطقتين مختلفتين، ولا ترغب في فتح جبهة ثالثة في الوقت ذاته، وفي حال حدوث المواجهة العسكرية؛ سيفرض ذلك على واشنطن التدخل، خاصة وأن منطقة أمريكا اللاتينية منطقة تماس مباشر بالأمن القومي الأمريكي، وبالتالي فهي أولى بالتدخل، مما يعني أن الضغوط الاقتصادية والداخلية والامتعاض الأمريكي من إدارة بايدن من المرجح أن يزداد، ومن زاوية أخرى فإن فنزويلا بما تعانيه من ظروف اقتصادية وسياسية تجعلها تتجنب صدام عسكري تدعمه الولايات المتحدة، وبالتالي فإن الخيار العسكري يظل هو الأبعد.