مرت الأيام الأولى من العام الجديد على السودانيين بطعم الحنظل، فالحرب الدموية اللعينة التي اندلعت في الخامس عشر من أبريل الماضي تتواصل وتتمدد في أنحاء السودان، وتصبح أكثر شراسة وأشد فتكا بأرواح السودانيين وتدميرا لمقدرات الدولة السودانية وفرص بقائها ووحدتها، بعد أن ضيع طرفا الصراع الجيش السوداني وقوات الدعم السريع الفرص العديدة التي أتيحت لهما عبر منبر جدة، ومن بعده منبر الإيجاد، وأخيرا مبادرة تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية السودانية “تقدم” من أجل وقف الحرب، والدخول في مفاوضات سلمية لإخراج السودان من النفق المظلم الذي حُشر فيه.
وقد مثل اجتياح قوات الدعم السريع لولاية الجزيرة مؤخرا نقطة تحول كبيرة في سير هذه الحرب المدمرة، رغم أنه سيطر من قبل على معظم أنحاء ولاية الخرطوم ومعظم ولايات دارفور الخمس ومساحات واسعة من ولايات كردفان الثلاث، ومازال يحاول الوصول إلى الولايات الأخرى، بعد أن نقل الجيش السوداني العاصمة مؤقتا إلى مدينة بورتسودان شرقي البلاد.
ويبدو أن سيطرة الدعم السريع على ولاية الجزيرة بعد انسحاب الفرقة الأولي من الجيش منها قد فتحت شهية الدعم السريع لمزيد من التمدد إلى ولايات السودان الأخرى، لما لهذه الولاية وعاصمتها ود مدني من أهمية استراتيجية، حيث تعد أكبر مركز غذائي واقتصادي في السودان، وقد استقبلت أكبر عدد من اللاجئين من الخرطوم التي تبعد عنها 200 كيلو متر جنوبا، كما تتوسط العديد من ولايات السودان، سنار والقضارف والنيل الأبيض، وربما تطمح أو تأمل قوات الدعم السريع الوصول إلى تلك الولايات، لتنفتح أمامها الحدود مع أثيوبيا وجنوب السودان، وكانت المناطق التي سيطرت عليها من قبل في دارفور غربا قد فتحت الطريق أمامها إلى تشاد وأفريقيا الوسطى وليبيا وجانبا من الحدود مع جنوب السودان، وبالتالي تهديد وحصار الجيش السوداني، ويغذي هذا الطموح للزحف على باقي الولايات الأعداد الهائلة من المقاتلين التي انضمت للدعم السريع منذ بدء القتال وضاعفت أعداده وفقا لبعض التقديرات، وما باتت تحمله خطابات الدعم السريع من مداعبة لتطلعات ملايين المهمشين والمحرومين وضحايا الحروب في أطراف السودان المختلفة.
وقد أجج الاستيلاء على ولاية الجزيرة، وما ارتكب فيها من انتهاكات وفظائع مشاعر غضب واسعة وفرار 300 ألف من سكانها، وأدى إلى استنفار واسع وتشكيل مقاومة شعبية مسلحة في الولايات الأخرى التي باتت تخشى من زحف الدعم السريع إليها استعدادا لقتاله والدفاع عن أنفسهم وممتلكاتهم، بدعوة وتشجيع من القيادات العسكرية والإسلاميين، وهو الأمر الذي أثار مخاوف كبيرة من انتشار الفوضى المسلحة أو انزلاق السودان إلى حرب أهلية أو خطر التقسيم أو إراقة دماء غزيرة.
وقد اشتدت وتيرة المعارك وتطورت الأسلحة والقصف والهجمات المستخدمة في الخرطوم ودارفور، وازدادت حدة الجرائم والمجازر، كما انتظمت حملات استنفار وتدريب وتسليح المواطنين في ولايات الجزيرة والنيل الأبيض وسنار والقضارف ونهر النيل والشمالية وكسلا والبحر الأحمر، وخاطب بعض حكام الولايات والقيادات العسكرية في مناطق سيطرة الجيش لقاءات جماهيرية نظمتها قيادات شعبية وقبلية لحض المواطنين على حمل السلاح دفاعا عن أنفسهم، ومن جانبها تبرأت قوات الدعم السريع من عمليات النهب، وقالت إنها تلاحق من قاموا بهذه الانتهاكات وتلقي القبض عليهم، وتستعيد ممتلكات المواطنين وتعيدها إلى أصحابها، كما أدانت قوات الدعم السريع توزيع السلاح على المدنيين من قبل استخبارات الجيش السوداني، وقالت إن أنصار نظام الرئيس السوداني المعزول عمر البشير من الإسلاميين يسعون إلى تسليح المدنيين بهدف تفكيك السودان وتقسيمه، وأنها لن تسمح لهم بتنفيذ هذا المخطط.
وقد شهدت ولايات السودان الأيام الماضية بشكل مكثف خطابات للحشد والتهييج والكراهية والعنصرية، وأمهل ولاة ومسئولي بعض الولايات القيادات السياسية التابعة لقوى الحرية والتغيير ولجان المقاومة التي كان لها دور في الثورة ضد نطام الرئيس السوداني المعزول عمر البشير مهلة لمغادرتها، معتبرة أنها الذراع السياسي لقوات الدعم السريع، وقد أعادت هذه المشاهد للأذهان ذكريات خلت عن الحرب في جنوب السودان التي اعتبرت وقتها جهادا، والحرب في دارفور، وما ارتكب فيهما من فظائع وانتهاكات وجرائم حرب وإبادة.
ويخشى أن تؤدي هذه التعبئة والانتشار الكثيف للسلاح في أيدي المواطنين، إلى مواجهات دموية وإلى تحول الحرب إلى حرب أهلية شاملة، في ظل أجواء مضطربة وانقسامات حادة بشأن الموقف من هذه الحرب وغيرها، حيث تتعدد مستويات الحرب واتجاهاتها في السودان اليوم، فهي ليست حرب فقط بين البرهان وحميدتي أو الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، بل هي أيضا بين الإسلاميين في السودان وخصومهم الكثيرين، وبين قوى الثورة وفلول النطام السابق، وبين المركز والهامش، هي في حقيقة الأمر حرب على حاضر السودان ومستقبله، تتداخل فيها العناصر الداخلية والإقليمية والدولية، وتنزلق إليها عناصر قبلية وجهوية وعرقية، وينشط فيها سياسيون وحركات مسلحة ومرتزقة وتجار حروب، وتضخ فيها أموال هائلة ورشاوى وعمل إعلامي.
وقد شهد الشهر الحالي أول ظهور لقائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو “حميدتي” بعد أشهر طويلة من الغياب، الذي أثار تكهنات وشائعات وأقاويل حول موته، روج لها سياسيون ودبلوماسيون وإعلاميون من خصومه، فجاء ظهوره ليسبب للعديدين منهم إرباكا وإحراجا، وهم من كانوا يؤكدون ربما قبلها بلحظات أنه لن يلتقي القائد العام للجيش الفريق أول عبد الفتاح البرهان لأنه ليس على قيد الحياة، ورغم ظهور حميدتي ظل البعض ينكر وجوده، وهو يجوب العواصم الأفريقية، حيث التقى أولا الرئيس الأوغندي يوري موسيفيني ثم رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد ثم رئيس جيبوتي إسماعيل عمر جيلة، وبعدها التقي حميدتي مع الرئيس الكيني وليام روتو ورئيس جنوب أفريقيا، ورئيس رواندا بول كاجامي.
وفي الوقت نفسه التقى حميدتي رئيس الوزراء السوداني السابق عبد الله حمدوك الذي أختير مؤخرا ليكون رئيس تنسيقية القوى المدنية السودانية “تقدم” وعددا من قياداتها، وهي تضم قوى الحرية والتغيير وقوى أخرى انضمت إلى تحالف مدني أوسع، ليثير ذلك اللقاء جدلا كبيرا وانقساما بين مؤيد ومعارض، رغم اتفاق قوى “تقدم” وقائد قوات الدعم السريع على إعلان أديس أبابا، الذي تعهدت فيه قوات الدعم السريع بوقف فوري وغير مشروط للأعمال العدائية عبر التفاوض المباشر مع الجيش السوداني، كما أكد الإعلان أن السلام المستدام في السودان يجب أن يستند إلى وضع حد قاطع لتعدد الجيوش، وتشكيل جيش واحد مهني ، وتعهد الدعم السريع بفتح ممرات إنسانية آمنة لوصول المساعدات وإطلاق سراح 451 أسيرا، وتهيئة الأجواء لعودة المواطنين إلى منازلهم في المناطق المتضررة، والتعاون التام مع لجان التحقيق التي شكلها مجلس حقوق الإنسان، وتشكيل لجنة وطنية مستقلة لرصد الانتهاكات وتحديد المسئولين عنها بما يضمن محاسبتهم، بالإضافة لتشكيل لجنة حول من أشعل الحرب، والتوافق على تأسيس الدولة السودانية من خلال التأكيد على الحكم الفيدرالي والمدني والديمقراطي.
وقد أعقب الاتفاق ملاسنات بين البرهان وحميدتي، وتشكيك في اتفاق أديس أبابا، وقد عكس ذلك أزمة الثقة والضغائن الشخصية بين الرجلين، كما أعربت أطراف عديدة تخوفها من عواقب هذا الاتفاق بسبب التمدد الهائل لقوات الدعم السريع التي رأوا أنها لن تسلم حصاده على طبق من ذهب لقوى أخرى مدنية لم تقاتل أو تقدم التضحيات.
وأوصد البرهان الباب أمام أي صلح أو تفاوض مع قوات الدعم السريع، ووصف حميدتي بالخائن والجبان والأراجوز، كما سخر حميدتي من البرهان مشيرا إلى أنه اختبأ تحت الأرض في “البدروم” شهورا في وسط الخرطوم، قبل أن يهرب من مقر قيادة الجيش متخفيا، مما بدد الآمال في لقاء الرجلين، الذي كان يعلق عليه البعض أملا في إحداث اختراق ما في الموقف المتدهور في السودان.
وبينما يتخوف البعض من ظهور حميدتي ويعتبرون أنه يرفع الروح المعنوية لقواته، ويمكن أن يكون دافعا لها لمزيد من القتال والسيطرة، يرى آخرون أنه يمكن أن يعزز التوصل لاتفاق لوقف الحرب، وأن أي لقاء بينه وبين البرهان إذا أعد له جيدا وتواصلت الضغوط الإقليمية والدولية على الطرفين يمكن أن يؤدي لإحداث اختراق كبير يمهد لوقف إطلاق النار وبدء مفاوضات سلام تنهي الحرب وتبدأ صفحة جديدة في السودان الذي أنهكته هذه الحرب التي تحمل مهددات وجودية لهذا البلد العربي الأفريقي المهم.
لكن في الواقع تبدو الأمور شديدة التعقيد والتشابك، ولايبدو أن لقاء الرجلين البرهان وحميدتي الذي تسعى إليه “الإيجاد” و”تقدم” يمكن أن يتحقق بيسر وبدون ضغوط دولية وإقليمية هائلة، ويخشى ألا يكون هذا اللقاء في حال عقده حاسما في حل الأزمة، بسبب فجوة الثقة الكبيرة بين الرجلين والمعسكرين، وسعي كلا منهما لتعزيز موقعه على الأرض، وجلب السلاح وتجهيز العدة، فضلا عن الشروط والاتهامات المتبادلة بين الطرفين، اللذين مازالت جهات عديدة داخل كلا منهما تؤمن بقدرتها على سحق الطرف الآخر والقضاء عليه نهائيا في معادلة صفرية، حيث تتعدد المعارك الآن ومستوياتها، وهناك شكوك كبيرة حول سيطرة كلا القائدين على معسكره بالكامل، وقد برزت التباينات داخل المعسكرين، والأمر متعلق أيضا بمدى توافر الإرادة للوصول لاتفاق لوقف الحرب، والضمانات التي يمكن أن يحصل عليها الطرفان، ومدى تأثير الأطراف المتداخلة في هذه الحرب في توجيه مسارها، سواء الأطراف الداخلية أو الإقليمية أو الدولية، وبالتالي تبرز التساؤلات حول مدى توافر وجدية الضغوط الدولية والإقليمية والداخلية اللازمة لوقف هذه الحرب، وقدرتها على إجبار الأطراف المتصارعة علي وقف التدمير الذاتي، والتلويح بعصا العقوبات والملاحقة للجهات المعرقلة للسلام، ومدى وحدة المبادرات الإقليمية والدولية، ووجود خارطة طريق واضحة، تبدأ بوقف إطلاق النار والترتيبات العسكرية والإنسانية، وتنتهي بعملية سياسية شاملة تفضي إلى حكم مدني، وتحقيق مطالب الشعب السوداني، وإلا بقي السودان ضحية وفريسة للبندقية والمناورات والتآمر، والتدخلات الدولية الكثيفة.