أضيفت أزمة جديدة إلى أزمات المنطقة عمومًا والقرن الإفريقي خصوصًا في مطلع يناير الجاري عندما أقدم رئيس الوزراء الأثيوبي “آبي أحمد” بالتوقيع على اتفاق مبدئي مع “موسى بيهي عبدي” زعيم الصومال الانفصالي أو ما يعرف بـ”أرض الصومال” تقضي باستخدام أديس أبابا للميناء الصومالي “بربرة” المطل على البحر الأحمر، واتخاذه كمنفذ بحري لها هناك، تمهيدًا لإقامة قاعدة بحرية تجارية إثيوبية بالقرب من ميناء بربرة على مساحة 20 كيلومتر مربع لمدة 50 عامًا مقابل اعتراف أثيوبيا بـ” أرض الصومال ” أو “صوماليا لاند” الصومال البريطاني كدولة مستقلة، وحصول “أرض الصومال” على حصة قدرها 20% من الخطوط الجوية الإثيوبية التي بلغت إيراداتها نحو 6.9 مليار دولار وفقًا لإحصاءات عام 2022.
توقيت الاتفاق
يأتي توقيع الاتفاق المبدئي بين البلدين في وقت يشهد العالم زخمًا تتأجج فيه الأحداث ما بين الإبادة العرقية الإسرائيلية للفلسطينيين بغزة، والحرب الأوكرانية الروسية، وضربات المتبادلة بين الحوثيين في البحر الأحمر والولايات المتحدة وحلفائها، وعلى وجه العموم استهداف السفن المتجهة للأراضي الفلسطينية المحتلة على يد الحوثيين، ويذكر أن أثيوبيا حاولت التواجد في موانئ أريتريا على البحر الأحمر، خاصة ميناء “عصب” القريب من باب المندب، والذي يعد أكثر المناطق حساسية في البحر الأحمر لكونه الموقع الأضيق، ولكن أسمرة رفضت مما ترتب عليه توترات جديدة في العلاقات بين البلدين، كما أعلن ” آبي” في وقت سابق أن إثيوبيا والصومال ستندمجان معًا في دولة واحدة، وذلك رغبة في الوصول لثغرة على البحر الأحمر عبر موانئ الصومال، ومؤخرًا انتقلت أثيوبيا من الترغيب للترهيب، حيث هدد بأنه في حال الفشل في تأمين وصول بلاده إلى مياه البحر الأحمر سوف يؤدي ذلك إلى الدخول في صراعات مع دول المنطقة، وهو ما رفضته جيبوتي وإريتريا والصومال.
أهمية ميناء بربرة
تاريخياً كان ميناء بربرة قاعدة بحرية وصاروخية للحكومة المركزية الصومالية، وفي أعقاب اتفاقية 1972 بين إدارة محمد سياد بري والاتحاد السوفيتي، أصبحت مرافق الميناء تحت إدارة السوفيت، وتم استخدامه عسكريًا من قبل الولايات المتحدة، وبعد توطيد العلاقات بين الصومال والولايات المتحدة، مع بداية عام 2013 كان ميناء بربرة يحتوي على رصيف بطول 650 متر وعمق 11.5-12 متر، ويتمتع الميناء بموقع استراتيجي على امتداد مسار نقل النفط، كما يستخدم الميناء في عمليات تعبئة وتوزيع الأسمنت، وفي مايو 2016، وقعت موانئ دبي العالمية اتفاقية قيمتها 4442 مليون دولارًا مع حكومة صوماليلاند لضم وتشغيل مركز التجارة واللوجستيات المحلي في الميناء، وسيتضمن المشروع إقامة منطقة حرة، وبموجب اتفاقية أبرمت 2018 تمتلك موانئ دبي العالمية 51% من المشروع، و30% لصوماليلاند، بينما تبلغ حصة إثيوبيا 19%. من خلال الاستثمار في البنية التحتية لتطوير ممر بربرة كبوابة تجارية لها، والمفارقة أن حكومة أرض الصومال أعلنت في يونيو 2022 فقد الحكومة الإثيوبية لحصتها في ميناء بربرة بسبب عدم استيفاء الشروط المطلوبة لإتمام الصفقة قبل موعدها النهائي، فقد كان من المفترض أن تقوم أديس أبابا بتطوير طريق بري بطول 260 كيلومتر يصل بين بربرة والحدود الإثيوبية، لاسيما مع الخلل والقصور الذي يعاني منه الاقتصاد الإثيوبي في الآونة الأخيرة.
دوافع إبرام الاتفاق
– الموقع الجغرافي الذي جعل من أثيوبيا دولة حبيسة، وبالتالي تحاول أن تبحث عن نفذ لها على البحر فنسبة 95 % من المعاملات التجارية الأثيوبية تعتمد على جارتها جيبوتي، التي تمتلك 31 كلم من السواحل.
– ارتفاع تكلفة رسوم التجارة التي تتحملها إثيوبيا عبر ميناء جيبوتي والتي تقدر بنحو مليوني دولار يوميًّا، وما بين 1.5 إلى 2 مليار دولار سنويًّا.
– محاولات إثيوبيا تأمين موارد مائية، وتحقيق الأمن المائي حتى وإن كان على حساب دول المنطقة، لاسيما مع كونها ثاني أكبر دول أفريقيا سكانًا بعد مصر وفي المركز الـ 11 عالمياً، حيث يقدر عدد سكانها بـ 126.5 مليون نسمة، يمثلون 8.7% من جملة عدد سكان أفريقيا و1.6% من جملة سكان العالم.
– رغبة أديس أبابا في تحقيق أعلى مكاسب بأقل تكاليف، حيث يوفر لها ميناء بربرة الفرصة بإنشاء قاعدة عسكرية، بمجرد نيل الاعتراف لدولة صوماليا لاند “أرض الصومال” التي تتحين الفرصة لنيل اعتراف من أي دولة بها، وفي المقابل تحاشي دخول أديس أبابا في حرب مع أسمرة استكمالاً لسياستها في تصفير المشكلات مع جراتها في المنطقة منذ 2018.
– استغلال انشغال دول العالم بالأحداث الجارية على مستوى العالم، وكذا أزمة السودان وضعف دولة الصومال، والمشكلات السياسية والاقتصادية التي تعاني منها عدد كبير من دول القارة السمراء، واستغلال الانقسام بين الصوماليين.
– توظيف الدعم الخارجي الغربي لأثيوبيا، لاسيما الدعم الأمريكي والعلاقات الوطيدة مع الجانب الإسرائيلي والمشاريع المشتركة في مشاريع للسيطرة على دول القارة الإفريقية.
– التنافس على زعامة القارة الأفريقية من خلال تحركات أحادية الجانب، وفرض سياسة الأمر الواقع دون الاكتراث بمصالح الحكومات والشعوب الإفريقية.
– التخطيط لضم ممر بين “لغهاي” و”زيلع” المدينة التاريخية المجاورة لجيبوتي، والواقعة في منطقة أودال، وهي أقرب رابط للحدود الإثيوبية مع أرض الصومال، ويتراوح طولها بين 60 و80 كم، وهو ما يسهل بناء ميناء تجاري وقاعدة بحرية.
– صرف انتباه الشعب الإثيوبي عن الأوضاع الداخلية المتردية سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا، حيث خرج 70% من مناطق أمهرة وأورومو عن سيطرة النظام الإثيوبي، فضلاً عن أزمة تيغراي التي لم تحل بعد، وارتفاع معدلات الفقر والبطالة.
– خطورة الاتفاق
بدخول هذا الاتفاق حيز التنفيذ يبدأ التهديد لأمن المنطقة الأفريقية عامة والقرن الأفريقي خاصة، لاسيما مع الاضطرابات الموجودة أساساً في القارة الإفريقية كما هو الحال في السودان، وليبيا…، وغيرها ، كما أن أثيوبيا تحاول استعادت أمجاد قوتها البحرية وقت احتلالها لأريتريا، مما يهدد أمن عدد كبير من الدول المطلة على البحر الأحمر، ومنها مصر، حيث أنه ستؤثر على حركة الملاحة في قناة السويس، ناهيك عن موقفها المتشدد في قضية سد النهضة، وتهديدها الصريح للأمن المائي المصري بطريقة فرض الأمر الواقع ذاتها، كما أنها ستساهم في فرض عزلة على الصومال، وتعزز انقسام أراضيها، ومن ثم يسهل الانفراد بها، ويذكر أن تدخل إثيوبيا في الشأن صومالي كان أحد أهم أسباب نشاط الجماعات الراديكالية المسلحة بها، والتي تؤرق أمنها، ومن جانب آخر نجد أن أديس أبابا تسعى التوغل في دول المنطقة بكل السبل، وأكبر دليل على ذلك تدخلات أثيوبيا بالتعاون مع كينيا في بعض أزمات المنطقة لخدمة أهداف بعينها كما هو حادث في الملف السوداني، متخفيين تحت مظلة منظمة “إيجاد”، وعلاقتهما الوطيدة بقوات الدعم السريع، حيث أرادوا القيام بوساطة لصلاح هذه المليشيات، لإقامة منطقة منزوعة السلاح في الخرطوم، ونشر قوات أفريقية فيها (إثيوبية وكينية)، مما يعد احتلالاً مباشراً للسودان، إضافة لإنشاء منطقة حظر طيران في السودان، وهو ما يستدعي التجربة الليبية، والتي أدت لتدخل الناتو وتدمير الدول، وبالتالي فتنفيذ الاتفاق الخاص بميناء بربرة من شأنه أن يسهل من عملية توغل أثيوبيا في شئون دوال القارة وانتهاك سيادة دولها وزعزعة أمنها.
مواقف دولية تجاه الاتفاق
تعددت المواقف الدولية تجاه هذه الأزمة التي تحدثها إثيوبيا في المنطقة، وكان أبرزها:
الصومال
أعلن الرئيس الصومالي “حسن شيخ محمود” إلغاء الاتفاق الخاص بميناء بربرة بين إثيوبيا وأرض الصومال، وأنه لا يجوز لدولة أن تستولي على قطعة من الأرض بشكل غير قانوني، وأنه يرفض أي وساطة مع إثيوبيا بشأن الاتفاق مع أرض الصومال، وأن بلاده لا تنوي محاربة أثيوبيا، ولكن إذا تبدلت الأمور فلبلاده حق الرد، وينبغي أن تتوقف إثيوبيا عن خطواتها “الجنونية”، كما سيتم شحذ الدعم من قبل الجميع وبخاصة مصر، ودعا لبناء استراتيجية مشتركة معها، عندما يكون التهديد مشتركًا، وذكر أنه لا يريد تشتيت التركيز عن الحرب على “حركة الشباب” الإرهابية، حيث باتت هذه الحركة تستغل مذكرة التفاهم مع إثيوبيا لتدعو إلى تجنيد الشباب المتشددين متذرعة بعودة “الصليبيين”، وأن إثيوبيا لا تريد منفذًا على البحر، وإنما تريد ضم أرض صومالية إليها وهذا لن يحدث.
مصر
حذرت مصر من مغبة السياسات الأحادية لإثيوبيا، وقد وجه الرئيس المصري “السيسي” دعوة لنظيره الصومالي لعقد اجتماع بالقاهرة 20 /1/2024، حيث تباحثا فيما يخص الأعمال العدائية التي تقوم بها إثيوبيا ضد سيادة الصومال وسلامة أراضيه، والذي أكد على دعمه لموقف الصومال، وتم توجيه رسائل شديدة اللهجة لأديس أبابا، كذا أكد وزير الخارجية المصري في قمة (دول عدم الانحياز) بالعاصمة الأوغندية كمبالا على الاستعداد لتسخير القدرات والإمكانيات المصرية لمساعدة الصومال في بناء كوادره الوطنية، وتنفيذ خططه التنموية ودعم استقراره، وفي الاجتماع الطارئ بالجامعة العربية، بين وزير الخارجية المصري جدية الاهتمام العربي بالتطورات الأخيرة في الصومال، والاستعداد لتوفير ما يلزم لها من دعم على المستويين الرسمي والشعبي.
تركيا
جاء رفض أنقرة لمذكرة التفاهم الإثيوبية – الصومالية بخصوص ميناء بربرة بعدما قامت القاهرة بإعلانها رفض هذه المذكرة واختراقها للقانون، وبالتالي فقد أيدت تركيا وحدة الأراضي الصومالية ودعمت حربها ضد الإرهاب، ويذكر أن تركيا أعادت علاقتها بالصومال منذ 2011، وفي الوقت ذاته تربط تركيا بعلاقات مع الجانب الأثيوبي سواءً في مجال المشروعات الاقتصادية والمساعدات الإنسانية والتسليح، أو في عرضها الوساطة ما بين الحكومة الإثيوبية وتيغراي، إلا أن تركيا تحاول إيجاد دور لها في منطقة القرن الإفريقي، وتأمين تجارتها ومصالحها في المنطقة بكافة الطرق الممكنة.
الولايات المتحدة
ذكر “مايك هامر” المبعوث الأمريكي الخاص للقرن الأفريقي الذي حضر كمراقب إلى جانب الاتحاد الأوروبي والسعودية وتركيا في اجتماع رؤساء دول الهيئة الحكومية للتنمية في شرق أفريقيا (إيجاد)، إن مذكرة التفاهم تهدد بتقويض الأمن الإقليمي واستطاعت “حركة الشباب” الصومالية توظيفها.
وإجمالاً فإن سياسة أثيوبيا ذات الإرادة المنفردة وأحادية الجانب تضع دول منطقة القرن الأفريقي والدول المشاطئة على البحر الأحمر على صفيح ساخن، وتزيد مشكلات المنطقة والقارة السمراء تعقيداً، وهو ما سيمتد تأثيره إلى دول العالم ويؤثر سلبًا على التجارة والاقتصاد في العالم، ولن يقتصر تأثيره على دول المنطقة أو القارة فحسب.