من حيث المبدأ لا يستطيع أحد التكهن بمتى سينتهى النزاع الروسى ـ الأوكرانى وإن أردنا الدقة الروسى ـ الغربى وكل ما أقوله أو سيقوله غيرى هى مجرد تكهنات، وسـأعرض هنا أراء عدد من المختصين وليس كلها لأنها تقريباً متشابهة، وما يهمنى هو طرح وجهة نظرى.
بداية ما يحدث هو جزء أو حلقة من حلقات تداعيات انهيار الإمبرطورية السوفيتية إذا أخذنا الأمر باعتباره نزاع روسى ـ أوكرانى، أو لنقل الاتحاد السوفيتى، فعادة ما تنهار الإمبراطوريات على مدى عدد كبير من السنين قد يفوق المائة عام، لكن ما حدث مع الاتحاد السوفيتى كان غير طبيعى، فقد نمت فى الاتحاد السوفيتى واستيقظت فى الصباح فقالوا أنت الآن فى روسيا الاتحادية، وأين الاتحاد السوفيتى قالوا اختفى! ومن الممكن أن نشير إلى حلقات الانهيار التى مازالت مستمرة ومنها الأزمة الحالية ومن قبلها حرب ناجورنوكاراباخ بين أرمينيا وأذربيجان (حسم النزاع منذ فترة قصيرة لصالح أذربيجان)، حرب بريدنستروفيه وهى قضية مازالت عالقة، كانت مولدوفا قد انفصلت لكن بقى جزء منها مازال يعيش ويتبع روسيا لأن معظم سكانه من الروس، وقد يحدث تصعيد وتشتعل حرب من جديد فى إقليم بريدنستروفيه خلال الفترة القادمة، ثم جورجيا ومقاطعتيها المتمردتين أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا، والطريف أن الجزء الآخر من الآسيتينيين يعيش فى أوسيتيا أخرى هى أوسيتيا الشمالية وهى ضمن روسيا الاتحادية، وغيرها من المناطق فى وسط آسيا ناخيتشفان فى أذربيجان وتقع تقريباً فى أرمينيا، وبداخشان الجبلية (طاجيكستان) وأورينبورج وشمال كازاخستان وبالطبع الموضوع الذى نحن بصدده الآن أوكرانيا، ولن أذكر بالتفصيل مشاكل وسط آسيا. أى أن ما يحدث الآن بين روسيا وأوكرانيا هو حلقة من حلقات انهيار الإمبراطورية السوفيتية وأتصور أن الأمور ستستقر بعد أن تأخذ كل قومية حقها فى تقرير المصير، ويتم ترسيم الحدود على أسس لا تقبل الجدل فى المستقبل وبضمانات دولية.
هذا الأمر لا ينطبق على جمهوريات البلطيق التى سعت الولايات المتحدة لأن تحصل هذه الدول على استقلالها، وكانت روسيا نفسها من أوائل من اعترف بها حتى قبل الولايات المتحدة نفسها، فهذه الدول كانت أعضاء فى عصبة الأمم حتى عام 1939، وانضمت للاتحاد السوفيتى لحمايتها من ألمانيا النازية، ومن ثم هى لم تكن عضو فى الاتحاد السوفيتى الذى تأسس عام 1922، هذه الدول استقرت كثيراً بعد الاستقلال، وانضمت للاتحاد الأوروبى وحلف الناتو، ولا تشكل تهديد لروسيا رغم قربها الشديد من ثاتى أكبر المدن الروسية أو العاصمة الشمالية لروسيا ومسقط رأس الرئيس بوتين (سان بطرسبورج)، وحتى لها حدود مشتركة مع مقاطعة كالينينجراد الروسية. ما يؤرق جمهوريات البلطيق هو وجود بعض الجاليات الروسية، التى بحكم كونها أقلية عادة ما تكون فى حالة تعصب مدفوعة بنوع من غريزة حب البقاء، شأنها شأن أى أقلية فى أى مجتمع. أما دون ذلك فالأمور مستقرة.
من هنا سنحاول استشراف سيناريوهات نهاية العملية العسكرية الروسية فى أوكرانيا باعتبارها الحرب الأكبر فى فضاء الاتحاد السوفيتى السابق كما أنها بين أكبر دولتين سوفيتيتين سابقتين، ولفهم الأمر بعيداً عن فكرة تداعيات انهيار الإمبراطورية السوفيتية، اسمحوا لى أن أطرح سؤال مهم، وهو هل نصب الغرب فخاً لروسيا على طريقة فخ العراق وصدام حسين والكويت؟ لا أدرى، فالأمر هنا مختلف، وروسيا ليست العراق، روسيا دول قوية مصنعة للسلاح والأهم أن لديها سلاح نووى، وبكميات وتقنيات ربما تفوق ما لدى الولايات المتحدة، على ماذا تراهن إذاً الولايات المتحدة. فى تقديرى يراهن الغرب وحلف الناتو على استنزاف روسيا اقتصادياً من خلال العقوبات التى لم تشهدها أى دولة فى العالم من قبل والتى فرضت على روسيا، وتوريطها فى حرب استنزاف طويلة مراهنين على عناد الرئيس بوتين الذى لن يجد معه الغرب أو أوكرانيا سبيل لوقف عمليته العسكرية سوى بتحقيق أهدافه، ولهذا ربما يراهن الغرب على انقلاب داخلى أو انقلاب قصر فى روسيا، بعد أن تشتد الأمور الإقتصادية تدهوراً نتيجة العقوبات فيخرج الشعب أو مجموعة من النخبة الحاكمة على الرئيس، لكن هذه الفرضيات تظل مجرد أضغاث أحلام للغرب المتمثل فى الاتحاد الأوروبى والولايات المتحدة وحلف الناتو، فمن هذه الناحية روسيا مؤمّنة تماماً، إلا إذا حدث ما لم يكن فى الحسبان، تمرد شعبى على خلفية انخفاض مستوى معيشة الشعب وتدهور الأوضاع الاقتصادية بدرجة كبيرة تدفعه للخروج إلى الشارع، كما يقولون فى روسيا أن تنتصر الثلاجة على التليفزيون، أى تسؤ الأحوال المعيشية فلا تجدى الدعاية والإعلام معها شيئاً، لكن من الواضح حتى هذا صعب لحد ما فالأمور المعيشية تسيطر عليها الدولة بدرجة كبيرة وتحاول حلها أولاً بأول والكل يذكر أزمة البيض الأخيرة والتى سارعت الحكومة باستيراده من ثلاث دول فى آن واحد (تركيا وكازاخستان وأذربيجان).
علاقات روسيا مع الغرب مازالت متواصلة فهى تصدر محروقات لأوروبا رغم العقوبات (المجر وسلوفاكيا) ومن ثم فإن الغرب هو الذى يمول العملية العسكرية الروسية فى أوكرانيا دون قصد، ولم تفلح العقوبات فى سد هذه الثغرة، لكن فى نفس الوقت اعتماد روسيا على النفط والغاز وبعض الموارد الطبيعية الأخرى فى تمويل حوالى 40% من ميزانيتها العامة جعلها رهينة لدى الغرب، وإذا وجد الغرب مصادر بديلة لما كان يحصل عليه من روسيا سيحدث خلل كبير فى الاقتصاد الروسى وحتى فى مستوى معيشة المواطنين، وهو ما كان يحذر منه السياسى والمستشرق الروسى الأهم فى الحقبة السوفيتية يفجينى بريماكوف عندما قال فى كتابه “التفكير بصوت عال” والذى صدر عن دار الهلال بعنوان “روسيا والتحديات الصعبة” ترجنة د. نبيل رشوان عندما كان يحفز الحكومات الروسية المتعاقبة على ضرورة عدم الاعتماد على تصدير المحروقات كمصادر للدخل، وكلنا يعرف أن من دق المسمار الأخير فى نعش الاتحاد السوفيتى كانت المملكة العربية السعودية عندما رفعت إنتاجها من النفط فانخفض السعر فانهار تقريباً الاقتصاد السوفيتى ( جورباتشوف … وحيداً مع نفسى نشر فى دار الهلال بعنوان … جورباتشوف يتذكر كيف ولماذا سقط الاتحاد السوفيتى ـ ترجمة د. نبيل رشوان) وهنا وقع جورباتشوف فى قبضة الغرب اقتصادياً فلم يرحمه، حتى غربت الشمس عن دولته.
أنبرى الكثيرون من الخبراء فى استشراف مستقبل الصراع الحالى بين الغرب وروسيا على أرض وبأيدى أوكرانيا وبالسلاح الغربى، وقد وجدت فى كتاب سفير المانيا السابق لدى روسيا روديجير فون فريتش تصور لما قد تنتهى إليه الأحداث، حيث وضع السفير السابق كافة احتمالات انتهاء العملية العسكرية أمامه على الطاولة وبدأ يتنبأ بما يمكن أن يحدث بما فى ذلك انتصار أوكرانيا. ويستطرد السفير الألمانى السابق لدى موسكو، أنه من الممكن أن تثير المقاومة العنيدة للجيش الأوكرانى حفيظة الرئيس بوتين فيبدأ فى استخدام القوة المفرطة دون مراعاة للخسائر بين المدنيين مما قد يدفع الرئيس الأوكرانى للاستسلام دون قيد أو شرط، فى هذه الحالة، أى انتصار روسيا، فإنه سيتم الإعلان عن ضم منطقة الدونباس وجزء آخر من الأراضى الأوكرانية وهو القرم إلى روسيا إضافة إلى الجزء الذى تسيطر عليه روسيا من خيرسون وزابوروجيا، لكن انتصار الرئيس بوتين من الممكن أن يفتح شهيته لتحقيق مزيد من الانتصارات الجيوسياسية الأخرى (جمهوريات البلطيق وبولندا وشمال كازاخستان)، كما أن دول الاتحاد السوفيتى السابق خاصة فى وسط آسيا ستخضع بالكامل، فى هذه الحالة، لروسيا، ومن الممكن أن نقول هى بمثابة عودة حقبة سوفيتية لكن بشكل جديد (أوروآسيا بسيادة روسية) وهذا سيؤثر على النفوذ الصينى وسيتراجع النفوذ التركى فى وسط آسيا، وهو ما لن يجد قبولاً لدى الغرب سواء من ناحية كونها مغامرات جيوسياسية جديدة أو تقوية موقف روسيا فى فضاء الاتحاد السوفيتى السابق والعالم على حساب جمهوريات البلطيق، التى قد تكون الهدف القادم لروسيا.
أما فى حالة انتصار أوكرانيا لأى سبب (الكتاب يطرح فرضيات) فإن السفير السابق فون فريتش، الذى يعتقد أن روسيا اهتمت بقوات الردع النووية والأمن السيبرانى ولم تول اهتمام كاف بقوات المشاة والقوات التقليدية، ومن ثم كما يقول السفير افتراض احتمال انتصار أوكرانيا على الأرض وارد، ويتوقع السفير أنه فى هذه الحالة سيفرض الرئيس الأوكرانى سيطرته على الدونباس والقرم، ثم يتم قبول أوكرانيا فى الاتحاد الأوروبى، لكن لم يذكر السفير أى شئ عن احتمال انضمام أوكرانيا للناتو، وقد يكون عدم انضمامها للحلف نوع من التهدئة مع روسيا، لكنه أشار إلى أن روسيا فى هذه الحالة يمكن أن تدفع تعويضات عن الأضرار التى تسببت فيها لأوكرانيا.
أما لو تجمد النزاع ولم ينتصر أحد وأجهدت المعارك الجانبين وتوقفا عند الخطوط الحالية، فى هذه الحالة، ستجمد كل من روسيا وأوكرانيا النزاع على طريقة عام 2014، وقد توقع اتفاقية مينسك ـ 3 ونعود لنقطة الصفر، لكن المعارك ممكن أن تندلع فى أى لحظة، وهذا التجميد سيكون فى صالح روسيا فهى ستكون مسيطرة على بعض المناطق فى أوكرانيا وتقريباً فتحت طريق برى للقرم، وفى نفس الوقت لن تدفع تعويضات لأوكرانيا عن الأضرار التى أحدثتها بها، لكن أوكرانيا ستعيش فى حالة قلق دائم خوفاً من تجدد المعارك فى أى لحظة.
ولم يستبعد السفير فون فريتش السيناريو المرعب وهو فرضية استخدام روسيا لأسلحة نووية أو كيميائية، وهنا يقول السفير فى هذه الحالة سيتدخل حلف الناتو، وستحدث مواجهة مباشرة بين الغرب وروسيا، لكن وفق كلام السفير هذا الاحتمال غير مناسب للكرملين واستبعده السفير من الاحتمالات الحالية على الأقل فى الوقت الراهن.
أما الخبير العسكرى الروسى كونستنتين سيفكوف، فقد كتب مقالاً فى أحد المواقع الإليكترونية افترض فيه حالة خسارة روسيا فى هذه العملية العسكرية، وقال إن هذا ممكن حدوثه إذا تقاعست روسيا عن سحق وتدمير ” الطابور الخامس” فى موسكو، وأشار إلى أن هناك عناصر معادية تشغل مناصب هامة فى هرم السلطة الروسية، ولهذا وفق رؤيته المعركة سوف تحسم ليس فى أوكرانيا ولكن فى موسكو. وأشار إلى أنه إذا لم نستطع سحق “الطابور الخامس” فإن العملية العسكرية سوف تنتهى دون تحقيق أهدافها النهائية، وهو ما سيعنى هزيمة عسكرية لروسيا، حتى لو تم توقيع اتفاق سلام بأفضل الشروط التى توافق عليها القيادة “الفاشية” فى أوكرانيا، لأن هذا سيعنى أن القيادة القومية فى أوكرانيا بقيت، وهذا يعنى أننا تخلينا عن مبدأ اقتلاع النازيين الجدد من أرض أوكرانيا.
أما الخبير العسكرى فيكتور بارانتس فلم يذهب بعيداً وتحدث عن سيناريو الأيام المقبلة، أو بمعنى أدق بعد تخلى روسيا مؤقتاً عن السيطرة على مدن أوكرانية مثل كييف وتشيرنيجيف وغيرها كخاركوف من مدن الشمال الأوكرانى وجزء من خيرسون فى الجنوب، وتوقع أن تقوم القوات الروسية بعد انتهاء مهمتها فى الدونباس، بالسيطرة على ميكولايف وأوديسا ومدن الجنوب المطلة على البحر الأسود وذلك لعزل أوكرانيا تماماً عن البحر الأسود، باختصار هو يرى أن كل السيناريوهات تؤدى إلى جهنم بالنسبة للقوات الأوكرانية المرابطة فى الدونباس، وإذا تمكنت القوات الروسية من محاصرتها من الخلف كما تطمح عبر مدينة “إزيوم” من اتجاه خاركيف، فإنه سيتم القضاء على هذه القوات تماماً، ولن تستطيع أوكرانيا تعويض هذه القوات. وهنا قد يحاول الناتو والغرب لعب دور أكبر ومن الممكن أن تحدث المواجهة التى لا يرغب فيها لا الناتو ولا روسيا، والتى لا مفر منها فى حالة إشراف أى من طرفى الصراع على الأرض على الهزيمة الساحقة.
أما صحيفة “نيويورك تايمز” وعلى لسان الخبير العسكرى سبنسر بوكارت ليندل، فقد توقع أربع احتمالات لانتهاء النزاع الحالى 1ـ إحراز تقدم فى المفاوضات الجارية، التى تقوم فيها تركيا بدور الوسيط، مع استمرار المعارك العسكرية على الأرض، التى يقول عنها وزير الخارجية التركى إن الطرفين يتقاربان بالتدريج فى وجهة نظرهما، فيما يرى بهذا الخصوص وزير الخارجية الأمريكى بلينكن أنه لم يلاحظ سعى من الجانب الروسى لوقف الحرب، ومن هنا يعتقد الكاتب أن الحل الدبلوماسى مستبعد فى الوقت الراهن ومن وجهة نظرهم أن روسيا مازالت متمسكة بتغيير السلطة فى كييف ونزع سلاح أوكرانيا، وفى تصورى الأمريكيون هنا متسقون مع أنفسهم ومع أهدافهم من إشعال هذه الحرب، وهو السعى لإطالة أمدها لتصدير السلاح واستنزاف روسيا اقتصاديا وعسكرياً وبالمرة اختبار السلاح الأمريكى فى مواجهة مع السلاح الروسى على الأرض، فشلت مفاوضات اسطنبول على أى حال. 2ـ وهنا ينقل الكاتب وجهة نظر خبراء العلاقات الدولية، التى تقول إن بوتين يرى فى الحل الدبلوماسى مخرج أخير، لكنه قبل ذلك سيستمر فى قصف المدن والبنية التحتية الأوكرانية لتقوية موقفه فى أى مفاوضات تجرى أو ستجرى فى المستقبل، ويشير الكاتب إلى أنه فى حالة عدم قدرة روسيا على احتلال أوكرانيا فإنه قد يرغب فى دفع معظم الشعب الأوكرانى للجؤ للغرب ليتسبب للأخير فى أزمة اجتماعية واقتصادية طاحنة، كما ينقل الكاتب عن السيد توماس فريدمان. لكن الكاتب يعتقد بأن هذا سيجعل المقاومة من قبل الجيش الأوكرانى تشتد ومن ثم سيطول أمد الحرب، التى من الصعب التنبؤ بنتيجتها ولا فترة استمرارها. 3ـ
اجتذاب الصين للصراع كحليفة لروسيا، وهذا أمر ليس مستغرب فقد طلب الرئيس بوتين مساعدات اقتصادية وعسكرية من الصين، غير أن الولايات المتحدة تقف بالمرصاد أمام تحرك من هذا النوع، وحذرت بكين من عواقب مثل هكذا تصرفات. تعتبر الصين من الدول المكتفية ذاتياً إلى حد كبير ولكنها وفق الكاتب تحتاج إلى الخارج فى بعض احتياجاتها وتجارتها مع كل العالم والغرب على وجه الخصوص تقدر بحوالى 1,6 تريليون دولار، ولهذا فإنها إذا قدمت دعم عسكرى لروسيا قد يتدهور موقفها التجارى على الأقل مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى الشريكان الأكبر للصين تجارياً فى العالم، وهى الآن تنتهج موقف محايد وتتعهد بالاستمرار فى ذلك فى المستقبل. وفى اعتقادى أن الصين هى أسعد دولة فى العالم بما يحدث الآن، فالغرب المنافس أو الذى ستصعد الصين على أنقاضه مشتبك فى حرب استنزاف مع روسيا، كما أن الأخيرة جار الصين القوى يستنزف على أيدى الغرب، ومن قال أن الصين تريد روسيا قوية، فى حين يعيش 40 مليون صينى فى سيبيريا والشرق الأقصى الروسى بعضهم بشكل رسمى والآخر بشكل غير شرعى، كما أن بكين فى تصورى أخر ما ترغب فيه أن تكون جارتها روسيا فى وضع قوى ومنتصرة فى الحرب، وهى لديها مشكلة تايوان، الصين تريد روسيا مصدر لا ينقطع للمحروقات والخامات، ناهيك عن أن حجم تجارة الصين مع واشنطن والأوروبيين يفوق التريليون ونصف تريليون دولار، فى حين لا يتجاوز حجم تجترتها مع روسيا 150 مليار أو على الأكثر 200 مليار، وأخيراً للصين مشكلة حدودية مع روسيا تم تجميدها بعد وصول الرئيس بوتين للحكم، لذلك فإن إضعاف روسيا فى مصلحة الصين بلا شك، هذا غير المنافسة الشديدة بين روسيا والصين وتركيا على النفوذ فى جمهوريات وسط آسيا السوفيتية السابق (منذ فترة ليست بالبعيدة وقع الرئيس الكازاخستانى اتفاقية تعاون فى مجال الدفاع مع تركيا، بعد أن الأخيرة ساعدت أذربيجان فى استعادة ناجورنوكاراباخ من أيدى الأرمن حلفاء روسيا، أما الحليف الثانى المفترض لروسيا فهو الهند وهى لها علاقات طيبة بروسيا من حيث استيراد السلاح الروسى، لكن لا ننسى، أن الهند غير راضية عن العلاقات المتنامية بين روسيا والصين، لأن بكين المنافس التقليدى لها فى هذا الجزء من العالم ولا ننسى المشاكل الحدودية التى تندلع بسببها الاشتباكات بينهما من حين لآخر، لكنها لا تمانع فى اتخاذ موقف محايد إضافة إلى علاقتها الجيدة بواشنطن والاتحاد الأوروبى . 4 ـ يفترض الكاتب انتصار روسيا، وهو ما يعتبره الكاتب الأمريكى الإحتمال الأكثر تشاؤماً، ويقول أين الضمان ألا يقوم الرئيس بوتين بعدم تكرار ما قام به مع مولدوفا أوجورجيا أوبولندا أوجمهوريات البلطيق، وهذا بالطبع سيؤدى إلى مواجهة مباشرة مع حلف الناتو وبداية حرب عالمية، خاصة وأنه كلما اقتربت القوات الروسية من الحدود الغربية لأوكرانيا كلما زاد الخطر على الدول المجاورة وهى أعضاء فى الناتو، وليس من المستبعد أن يصل صاروخ روسى لوارسو عاصمة بولندا أو تسقط الدفاعات الأرضية الروسية طائرة لحلف الناتو، وحينها قد تحدث مواجهة مباشرة بين الناتو وروسيا.
مجلة “المصالح القومية” الأمريكية، نشرت أربع احتمالات لتطور الأحداث فى أوكرانيا وتقول المجلة إنه بالإضافة إلى التسوية الدبلوماسية، هناك أربع احتمالات لتطور الأحداث، وهى :1 ـ أن يلحق طرف بالآخر هزيمة ساحقة، وبعد ذلك يفرض شروطه التى تحقق مصالحه على الطرف الآخر، واعتبر كاتبو المقال أن هذا الإحتمال يعتبر ضعيف. 2 ـ أن يتحول النزاع إلى حرب طويلة مزمنة مع تعبئة قوات جديدة وزيادة فى الخسائر سواء البشرية أو فى المعدات، مما سيزيد الضغط فى اتجاه الحل الدبلوماسى. 3 ـ كما تطرح المجلة فكرة أن تتطور طبيعة النزاع بشكل حاد كأن يحدث تصعيد أفقى ويشارك عدد أكبر من الدول فى النزاع، أو تصعيد رأسى كأن تستخدم الأطراف أسلحة دمار شامل. 4 ـ أن يحدث فى نفس الوقت نزاع آخر فى منطقة أخرى من العالم تمس مصالح الولايات المتحدة والمجتمع الدولى بشكل مباشر، كأن تهاجم الصين تايوان. تعتقد المجلة أن الإحتمال الثانى هو الذى من الممكن أن يكون له النصيب الأكبر من الحدوث.
كانتت مجلة “جولوبال تايم” الأمريكية قد من قبل عن أن الولايات المتحدة تحاول إطالة أمد النزاع فى أوكرانيا عن طريق إمداد الأخيرة بالسلاح وقالت المجلة “إن إمداد الولايات المتحدة لأوكرانيا بالسلاح دون حساب لا يساعد على التوصل لحل سلمى، ولكنه يطيل من أمد النزاع”، وتستطرد المجلة “إن واشنطن والناتو يريدان الإيقاع بروسيا فى مصيدة نزيف دماء طويلة”.
أما معهد “جلوبسيس للسياسة” ومقره براتسلافا عاصمة سلوفاكيا، فقد أشار خبراؤه إلى أن احتمالات تطور النزاع كثيرة ومن الصعب التنبؤ بأى منها سيحدث، ويتوقع المعهد حرب طويلة ويقول إن الجانبين يستعدان لمثل هذا السيناريو، فلا روسيا ولا أوكرانيا يمكنها الآن الرهان على نصر حاسم لأى منهما على الآخر، فى نفس الوقت يرفض كلا الطرفين الاستسلام، وكلاهما يعتقد أنه يستطيع تحقيق الانتصار، كما أن الرأى العام فى الطرفين يرفضان تقديم أى تنازلات لبعضهما البعض، ولهذا فإن الطرفين يستعدان لحرب استنزاف طويلة، وكل طرف يراهن على نضوب إمكانيات الطرف الآخر أولاً. كلا الطرفين يأمل فى أن يحقق وضع أفضل على الأرض لكى يتفاوض من موقع قوة ليحصل على شروط أفضل فى أى اتفاق سلام. روسيا تراهن على انتهاء احتياطيات أوكرانيا من الأفراد المدربين، كما تدرك موسكو أن صمود أوكرانيا فى الدفاع يعتمد بالدرجة الأولى على الإمدادات التى تحصل عليها من الغرب، الذى تأمل موسكو فى أن يمل تقديم المساعدات لما لا نهاية. من ناحية أخرى يعتقد الأوكران أنهم كسبوا المرحلة الأولى من الحرب، وأن العملية العسكرية الخاطفة التى كانت روسيا تطمح من خلالها تغيير النظام فى أوكرانيا قد فشلت، والمدينة الوحيدة الكبيرة التى استطاعت روسيا السيطرة عليها جزئياً هى خيرسون . واستطاع الأوكران الحصول على دعم متزايد من دول الغرب، الذى بدأ فى توريد أنواع متطورة من الأسلحة، بعد أن كانوا يتحدثون عن سلاح سوفيتى قديم من دول حلف وارسو السابقة، ما ساعد الأوكران على ووقف تقدم القوات الروسية.
يتوقع مراقبون أن تستمر المعارك فى شرق أوكرانيا لفترة طويلة، على طريقة الحرب العالمية الثانية، عندما يتواجه جيشان كبيران لديهما كفاءة عالية. ومن هنا ومع تصاعد المعارك فى الشرق نجد أن الجيش الروسى يصعد والجيش الأوكرانى يرد وأحياناً يسترد أو يخسر مناطق هنا أو هناك ويتوقع أن تستمر هذا الحالة لفترة طويلة (الوضع الحالى)، وستنحصر هذه الحرب الطويلة فى شرق البلاد، ويتوقع البعض أن تعود القوات الروسية لمحاولة الاستيلاء على كييف فى حال ما إذا حققت نجاح وتقدم سريع فى الشرق، ومن الممكن أن تنطلق فى اتجاه الغرب، أو على الأقل القيام بعمليات قصف للبنى التحتية لإحداث شلل للحياة فى غرب أوكرانيا.
الحرب الطويلة هى عندما يحاول طرف التقدم والطرف الآخر يدافع ولفترة طويلة مما يؤدى إلى خسائر كبيرة فى العسكريين وكذلك فى المدنيين، ومن ثم سيزداد عدد اللاجئين والمهجرين داخل البلاد، وهذا يعنى أن العقوبات المفروضة على روسيا وبيلاروسيا لن تستمر فقط بل سيجرى تشديدها، الآن يفكر قادة الغرب فى فرض عقوبات تفرض عزلة اقتصادية تامة على روسيا، وهو ما سيزيد من من تأثير الصين على الساحة الدولية، فلكى تتجنب روسيا العزلة الاقتصادية فإنها ستلجأ للصين ـ ليس لديها طريق آخر ـ للتعاون الوثيق وتوريد البضائع الصينية والاعتماد على البنى التحتية المالية الصينية والدعم الدبلوماسى، والصين تدرك هذا جيداً وتنتظر لكى تفرض شروطها على روسيا، والتى ستكون بلا شك فى صالح بكين، لكن موسكو ستكون مضطرة لقبولها. بالإضافة إلى أن حرباً طويلة لا تنبئ بأى شئ جيد، لا للاقتصاد العالمى ولا لتضخم ما بعد الكوفيد ـ 19، والخسائر الإقتصادية للجميع ستتصاعد.
هناك سيناريو آخر وهو عبارة عن سلام وتجميد النزاع بدون غالب أو مغلوب، وهو احتمال ضعيف، من المتوقع بعد عدة أسابيع من تجميد الحرب أن يوقع الطرفان اتفاق سلام على أساس الخطوط المتواجدة بها قوات الطرفين، والاتفاق على هدنة فى الشرق ووقف إطلاق نار على غرار ما كانت قبل 24 فبراير 2022، دون أى ضمان للاستقرار فى المستقبل، أى يمكن استئناف القتال فى أى وقت. وإذا أصبحت الأراضى محل النزاع مع أوكرانيا ستقتصر على الشرق، مع منح أوكرانيا ضمانات أمنية، على أن تبدأ عملية الإعمار فى الأراضى الخاضعة للحكومة الأوكرانية، بحيث يقوم الاتحاد الأوروبى ودول أخرى مثل كندا والولايات المتحدة وغيرهم بتقديم مساعدات اقتصادية سخية وعدوا بها أوكرانيا، ومع حصول كييف حالياً على حق التفاوض للانضمام للاتحاد الأوروبى، سيكون جيداً لأن إعمار أوكرانيا مع استمرار الحرب غير ممكن.
حتى إذا تم التوصل لاتفاق على الطريقة التى ذكرت، فإن علاقة الدول الغربية مع كل من روسيا وبيلاوروسيا لن تعود بأى حال من الأحوال للمستوى الذى كانت عليه قبل الحرب مباشرة، من الممكن رفع بعض العقوبات، لكن هذا سيكون فيه نوع من الحذر وليس مرة واحدة، ومن غير المعروف ما إذا كانت دول الغرب ستعترف بالأراضى التى ضمتها روسيا كجزء منها نتيجة الحرب. سيكون من الصعب على دول الاتحاد الأوروبى بعد العملية العسكرية أن ترى فى روسيا شريك مؤتمن أو مرغوب فيه فى أى من المجالات، وستستمر الدول الأوروبية فى البحث عن بدائل لمصادر الطاقة الروسية أو أى مواد خام أخرى كانت تستوردها من روسيا، لكنها لن تعود لروسيا فى هذا إلا فى أضيق الحدود.
هناك سيناريو أقل احتمالا للحدوث، وهو ما يأمل كثيرون فى حدوثه، لكنه قائم وإن كان ضعيفاً، وهو تغير السلطة فى روسيا، لكن فى الوقت الحالى يسيطر فلاديمير بوتين بقوة على كافة مقاليد الأمور فى البلاد، ولهذا فإن هذا السيناريو ضعيف الإحتمال، إلا إذا حدثت هفوة وخطأ غير مقصود، وكما قلت من قبل حالة تمرد شعبى.
أما السيناريو الأخير حدوث حرب النووية، وهو أن تقرر روسيا استخدام السلاح النووى سواء ضد أوكرانيا أو ضد إحدى دول الغرب، فى هذه الحالة سيجد حلف الناتو والولايات المتحدة أنفسهما شريكان مباشران فى الحرب. حتى لو كانت الضربة النووية على الأراضى الأوكرانية،هنا سيدخل حلف الناتو الحرب بشكل كامل ومباشر ضد روسيا. أو مثلاً أثناء هجوم روسيا على الأرتال العسكرية فى غرب أوكرانيا بالقرب من الحدود مع بولندا أو سلوفاكيا وحتى لو دون قصد حدث قصف لمواقع عسكرية أو مدنيين فى أى من هاتين الدولتين على أراض الاتحاد الأوروبى، فى هذه الحالة سيكون على حلف الناتو الرد وفق اتفاق الأمن الجماعى الموقع بين هذه الدول الأعضاء والمادة الخامسة من ميثاق الحلف، دخول الناتو الحرب بشكل مباشر لن يكون فى صالح روسيا بالتأكيد، لكن فى كل الأحوال سيزداد حجم الدمار والضحايا بدرجة كبيرة جداً، كنت أود أن أستبعد تبادل الضربات النووية من السيناريوهات المحتملة، لكن على الرغم من أنه أحد الاحتمالات التى من المستبعد أن تحدث، لكنى وجدت أنه لابد من إدراجه ضمن الاحتمالات، فتهديدات المسئولين ورجال الدعاية تحدثت عن هذا كثيراً، وعلى وجه الخصوص ضد واشنطن ولندن.
فى واقع الأمر السيناريوهات كثيرة وكلها تتراوح من تجميد النزاع إلى انتصار أحد الطرفين، لكن الذى لا شك فيه أن “عملية روسيا العسكرية” لها تداعيات كبيرة تصب فى مدى تأثير المواجهات الحالية بين الغرب والناتو من ناحية وروسيا من ناحية أخرى، فالحرب ليست بين روسيا وأوكرانيا، أوكرانيا هى أرض المواجهة فقط. تحدث الرئيس الأمريكى بايدن عن نظام عالمى جديد قد ينشأ نتيجة العملية العسكرية الروسية الحالية، وموسكو من وجهة نظرها ترى فى المواجهة الحالية “معركة العصر” وتخوضها موسكو من أجل نظام عالمى جديد، يضع فى اعتباره مطالب روسيا الأمنية ومصالحها الجيوسياسية، وبالدرجة الأولى القضاء على أحادية القطب فى العالم.
العالم الآن يقف على أعتاب مرحلة فاصلة، تتكرر كل ثلاث أو أربعة أجيال، ـ حسب قول الرئيس الأمريكى بايدن ـ وأشار الرئيس الأمريكى إلى أن أخر مرة عاشت الإنسانية الوضع الحالى كان فى عام 1946، حينها تشكل نظام عالمى بعد الحرب العالمية الثانية ويقول الرئيس الأمريكى إن الولايات المتحدة حينها أقامت “النظام العالمى الليبرالى”. وأشار الرئيس الأمريكى دون اعتبار للقوى الأخرى فى العالم، أنه يجب على بلاده أن تحدد نتائج ما يجرى فى العالم من تحولات، وأعرب الرئيس بايدن عن أمله فى إقامة نظام عالمى جديد لما بعد الحرب الأوكرانية وأكد على “أن بلاده يجب أن تقود هذا النظام الجديد بتوحيد بقايا قوى العالم الحر”.
فى موسكو متفقين مع رؤية الرئيس الأمريكى حول فكرة بزوغ فجر نظام عالمى جديد، لكن ليس فيما يتعلق بقيادة الولايات المتحدة وسيادتها فى هذا النظام العالمى الجديد، وتعتقد موسكو بأنه مع نهاية الحرب فى أوكرانيا سيظهر نوع جديد من توازن القوى فى العالم، “سيعكس بكل ما تعنية الكلمة من معنى، نتائج المعركة الدائرة الآن من حيث الوضع الذى سيكون عليه النظام العالمى الجديد” وفق وزير الخارجية الروسى سيرجى لافروف. لكن من الواضح أن الرئيس الأمريكى يريد العودة لهيمنة الولايات المتحدة، التى سادت منذ ثلاثين عاماً عقب انهيار الاتحاد السوفيتى، فى مرحلة ما بعد أوكرانيا، ويضرب مثلاً بالأربعينيات وحتى 1990، وواقع الأمر كان العالم ثنائى القطب وليس عالم ليبرالى أمريكى كما يقول الرئيس بايدن، على أى حال ـ هذا الأخير ـ يرى أن ما بعد أوكرانيا ستكون الولايات المتحدة هى القطب الأوحد المهيمن. بينما يرى لافروف أن العالم ليس “قرية كونية واحدة” وليس “قرية أمريكية”، على أى حال هو تصور أمريكى وهو سابق لآوانه، لأن الحرب لم تنته بعد ولا أحد يدرى ما ستنتهى إليه.
روسيا ترفع حالياً شعار أنها تناضل من أجل عالم متعدد الأقطاب، على اعتبار أنه ليست كل الدول وافقت على الاشتراك فى العقوبات على روسيا وهو ما يعنى عدم الرضى عن أحادية القطب الحالية، هناك الكثير من الدول التى ترفض العولمة أو القرية الكونية، تحت قيادة الولايات المتحدة، وتضع روسيا أملها على دول مثل الصين والهند والبرازيل والمكسيك لتفكيك النظام العالمى الحالى.
فى داخل الولايات المتحدة نفسها هناك بعض الشخصيات الأمريكية تتنبأ بأن تكون نتائج نهاية الحرب فى أوكرانيا سلبية على واشنطن، وهنا الحديث يدور عن أفول سيادة العملة الأمريكية الدولار فى العالم، واعترف رئيس نظام الاحتياطى الفيدرالى الأمريكى بأن الحرب فى أوكرانيا من الممكن أن تدفع الصين للإسراع بتطوير نظام مالى جديد للدفع به حول العالم كبديل للمنظومة الحالية التى يعتبر الدولار محورها الرئيسى (وكالة بلومبرج ـ مارس الماضى). حتى أن بعض الأوروبيين من حلفاء واشنطن بدأ يعرب عن مخاوفه من الاحتفاظ بالاحتياطى النقدى بالدولار خوفا من أن يتعرض لما تعرضت له الاحتياطات الروسية بالخارج من تجميد ومصادرة.
أما كيف سيكون شكل العالم بعد الحرب من حيث التعددية القطبية، الصين ستحاول اجتذات الجزء الأكبر من دول منطقة المحيط الهادى، ولدعم نفوذها ستستخدم بكين الآليات الاقتصادية من البنك الآسيوى للاستثمار فى البنية التحتية، الذى يضم بين جدرانه دول حليفة لواشنطن مثل كوريا الجنوبية والفليبين وأستراليا، بالإضافة لمشروع طريق الحرير، والذى سيشمل مشروعات اقتصادية جاذبة لأى دولة.
فيما يتعلق بروسيا فى عالم ما بعد أوكرانيا، فهى بالعملية العسكرية فى أوكرانيا أثبتت أنها تحاول بناء منطقة نفوذها (أوروآسيا)، وأكدت على أنها لن تقبل بأى تدخل من خارج روسيا فى هذا الأمر، ورأينا تدخل قوات منظمة الأمن الجماعى التى تقودها روسيا فى إخماد التمرد فى كازاخستان بداية 2022، مما أعطى روسيا دور جيوسياسى مهم فى وسط آسيا، لكنها فشلت فى حل مشكلو كارابخ وكان دور روسيا سلبى، ما سمح لتركيا بأخذ جزء من نفوذ روسيا فى جنوب القوقاز، وقيامها بعملية عسكرية فى جورجيا عام 2008 لحماية مناطق نفوذها، وغيرها من المناطق فى فضاء الاتحاد السوفيتى السابق، وهى غير مستعدة للتنازل عن هذا الدور، إن لم تكن لديها رغبة لتوسعته على حساب تحالفاتها مع صربيا مثلاً فى البلقان. لكن فى منطقة أوروآسيا قد تصطدم روسيا فى المستقبل بكل من الصين وتركيا وهما شريكان هامان لموسكو حالياً وهى لا ترغب بالتأكيد فى الصدام معهما. تركيا تلعب على وتر الثقافة فى وسط آسيا وأنشأت منظمة الدول الناطقة بالتركية ومقرها كازاخستان، وساعدت أذربيجان فى حربها الأخيرة ضد أرمينيا فى تحرير ناجورنوكاراباخ، أما الصين فنفوذها كبير فى وسط آسيا بحكم الجغرافيا، ناهيك بالطبع عن تغول الجالية الصينية فى الشرق الأقصى وغرب سيبيريا الروسيين. وربما يكون أحد أهداف العملية العسكرية الروسية هو اجتذات الناطقين بالروسية فى أوكرانيا لتوطينهم فى الأراضى الروسية الشاسعة الغير مأهولة فى أقصى الشرق الروسى وسيبيريا، لإحداث توازن مع التغول الصينى فى تلك المناطق النائية.
ووفق بعض الخبراء، فإن وضع الولايات المتحدة كقطب فى عالم متعدد الأقطاب، أو عالم ما بعد أوكرانيا، البعض يذهب هنا لأبعد مما يجب ويقول إن الولايات المتحدة كقطب حددت بنفسها “حدودها” وهى متمثلة فى غرب أوروبا وكندا وأستراليا، كما ترغب واشنطن فى رؤية كوريا الجنوبية واليابان ولا بأس من وجود الهند ضمن فلكها، وهى مستعصية عليها حتى الآن، كما أن كوريا الجنوبية حولها علامة استفهام كبيرة، أما الجزء الأكبر من أوروبا كما يتوقع بعض الخبراء فقد لا يجد نفسه فى الفلك الأمريكى وهذا محل شك كبير، فالعملية العسكرية الروسية فى أوكرانيا دفعت دول أوروبا على الانضمام للناتو أكثر من أى وقت مضى، وبالتالى التحالف مع الولايات المتحدة أى القطب الأمريكى، بدليل أن فنلندا انضمت للناتو والسويد على بعد خطوة من الانضمام ولا أستبعد انضمام النمسا فى المستقبل. وعلى الرغم من إلحاح بعض الدول الأوروبية فى إنشاء جيش أوروبى مستقل بعيداً عن الناتو (فرنسا تقود هذا التوجه)، يرى البعض أن أى انقسام داخل المنظومة الأوروبية حالياً هو لصالح روسيا. ومن غير المعروف كيف ستتصرف دول أمريكا اللاتينية والشرق الأوسط وبقايا أوروبا. فهى ربما تنتظر انقشاع غبار العملية الروسية فى أوكرانيا، نتائج الصراع فى أوكرانيا ستكون هى المحدد الوحيد للتحالفات القادمة للدول التى لم تحدد موقفها بعد.
أما ما هى المناطق التى ستكون ساحات صراع قادمة؟ وكما أعلنت القيادة الروسية أولاً: أنها لن تتحمل وجود الأمريكيين فى فضاء الاتحاد السوفيتى السابق، بما فى ذلك الجزء الأوروبى منه، وثانياً: الصين والولايات المتحدة تسعيان للسيطرة فى منطقة آسيا والمحيط الهادى على حد سواء. والنزاع الحالى فى أوكرانيا سيكون بمثابة مفجر لصراعات ونزاعات دولية وإقليمية أخرى، فمن ناحية كما يفترض البعض عالم متعدد الأقطاب سيتكون (فى حال خروج روسيا منتصرة) لكن فى نفس الوقت ومن ناحية أخرى ستخوض الولايات المتحدة صراعاً مريراً من أجل الحفاظ على ما بقى لها من هيبة وهيمنة، هاتين النزعتين ستصطدمان، وقد تدخلان فى صراع مفتوح ليس فقط على أرض أوكرانيا، رغم أن أوكرانيا هى المسرح الرئيسى للصدام حالياً، فمن غير المستبعد بدء حلقة جديدة من الصراع فى جنوب شرق آسيا حول جزيرة تايوان، وهذا سيكون جزء من التناقض الأمريكى مع الصين، وإن كانت واشنطن تفضل تأجيل هذا الفصل من الصراع مؤقتاً. كل هذا سيكون جزء من محاولة واشنطن الحفاظ على جزء من هيمنتها التى كانت عندما كان العالم أحادى القطب. إطار العالم لم يتضح بعد، باستثناء أن العالم لم يعد “أحادى القطب”، وإن كانت الأحداث الأخيرة فى غزة والبحر الأحمر تشير إلى أن واشنطن هى الفاعل والمبادر، كما سعت واشنطن لبنائه منذ نهاية ثمانينيات القرن الماضى، ولذلك فإن أوكرانيا تعتبر منعطف فارق يعكس تطور سيذهب لأبعد من ذلك بكثير من الناحية الجيوسياسية.
ما يحدث فى أوكرانيا الآن هو نتاج تناقض فى المنظومة الدولية، تصاعد على مدى ثلاثين عاماً، نتيجة رفض الولايات المتحدة القاطع، إدماج روسيا فى منظومة الأمن الأوروبية، بدلا من توسع الناتو شرقاً، أقام الغرب منظومة أمن “مركزية للناتو”، فى الوقت الذى أبعد فيه روسيا عنها، بدأوا فى أجتذاب دول مثل أوكرانيا وجورجيا وغيرها من دول البلقان، بالرغم من تحذير روسيا، والمشكلة ليست فى أوكرانيا فى حد ذاتها، أى أن الأمر ليس إقليمى بحت، بل أن الأمر امتد ليصبح أوروبى بمفهومه الواسع، مما حول الخلاف إلى نزاع مفتوح نشهده الآن.
وبصرف النظر عن نتائج معركة أوكرانيا، فإن بعض الخبراء يؤكدون على أن الأوضاع الحالية تشير إلى أن النظام العالمى الحالى أصبح متداعى لدرجة أن حلفاء واشنطن التقليديين فى منطقة الخليج، لم يعودوا يستجيبون لطلبات الولايات المتحدة كما كانوا فى السابق، على سبيل المثال قامت المملكة العربية السعودية بإيعاز من الولايات المتحدة بزيادة إنتاجها من النفط فى نهاية الثمانينيات، فهوت أسعار النفط مما دق المسمار الأخير فى نعش الاتحاد السوفيتى، وتقوم السعودية الآن بعملية هدفها عدم استخدام الدولار فى تجارتها مع الصين، ويعتقد بعض الخبراء أن الأزمة الأوكرانية قد تعجل بقتل الدولار كعملة وحيدة تسود العالم وتسيطر على الأنظمة المالية ومنها الاحتياطات النقدية لكثير من الدول، فهل دارت عجلة بناء نظام عالمى جديد متعدد الأقطاب. مازلت أكرر هذا يتوقف على نتيجة الأزمة الأوكرانية ومن سينتصر فيها، روسيا وأمريكا تلعبان المباراة النهائية التى لابد أن يفوز فيها أحدهما، والاتحاد السوفيتى لم ينهار بعد وما يحدث هى توابع زلزال انهياره، كما أن روسيا تأخرت فيما يتعلق بمنطقة نفوذها، فهاهى دول البلطيق فى حلف الناتو، وجورجيا وأوكرانيا قدمتا طلبات للاتحاد الأوروبى ومن غير المستبعد فى المستقبل للناتو، وهاهى أذربيجان تتحدث مع تركيا باعتبارها شعب واحد فى دولتين، وهى التى اتهمت روسيا فى السابق بأنها دعمت أرمينيا للاستيلاء على ناجورنوكاراباخ، وهاهو رئيس كازاخستان الذى أنقذته روسيا من السقوط فى بداية العام الجارى إثر تمرد شعبى، يوقع اتفاقية أمنية ودفاعية مع الرئيس التركى، سيكون على روسيا بعد أوكرانيا عمل الكثير لتجميع حلفاءها السابقين، وسيكون عليهما عمل الكثير من الناحية الإعلامية لاستعادة الثقة فى فيها كقوة صاحبة نفوذ فى فضاء الاتحاد السوفيتى السابق وخاصة من الناحية الثقافية، فهناك مخاوف من أنه بعد تعددية الأقطاب تجد روسيا نفسها دون مناطق نفوذها فى أوروآسيا، نتيجة زحف الفرقاء والحلفاء فى آن على منطقة أوروآسيا (الصين وتركيا).
هذه الحرب أو العملية العسكرية سمها ما شئت سوف تخلف وراءها منظومة جديدة للأمن فى العالم، وسوف تغير خرائط كثيرة، ولعل أهم مكسب لأوكرانيا ومهما كانت الاتفاقيات التى ستوقعها بعد انتهاء الحرب ومهما كانت الضمانات، هو أنها ستصبح دولة ذات ذات حدود معترف بها، حتى ولو ضحت ببعض الأراضى، كما أنها فى حال انضمامها للاتحاد الأوروبى ستصبح لاعب مؤثر خاصة بتحالفها مع بولندا ودول البلطيق ومن خلفهم بريطانيا التى تحاول إنشاء تحالف بقيادتها تدعمه واشنطن التى ربما أدركت أن تنافستها مع روسيا على أوروبا مجهد لها وتريد منح أوروبا لوكيل تثق فيه مثل بريطانيا، ترتيبات الأمن فى أوروبا باختصار ستختلف عما كان عليه قبل 24 فيراير 2022، وفى تقديرى أن مسعى أوكرانيا للانضمام للاتحاد الأوروبى هو بالدرجة الأولى محاولة منها لرسم خريطة حدود سياسية واضجة ومعترف بها من دول أوروبا وواشنطن على الأقل، وذلك أن بعد هزت العملية العسكرية وتصريحات الرئيس بوتين قبلها وجود الدولة الأوكرانية من جذورها.
روسيا ليس أمامها إلا أن تنتصر، ولو حتى على شاسات التليفزيون ووسائل الإعلام لأن معنى هزيمة روسيا هو سقوط دول وسط آسيا فى براثن الصين وتركيا وفى المستقبل حلف الناتو، ولذلك من المتوقع فى حالة وصول المعارك إلى مرحلة خطوط تماس ثابتة أن تعلن روسيا أنها حققت أهدافها من العملية العسكرية وهو السيطرة التامة على جنوب أوكرانيا وشق طريق برى آمن إلى شبه جزيرة القرم ومن الممكن الجلوس للتفاوض لوضع الترتيبات والضمانات الأمنية اللازمة. فهذا النزاع لا يقبل القسمة على إثنين فالولايات المتحدة وحلف الناتو خارجين للتو من هزيمة ثقيلة فى أفغانستان وليسوا على استعداد لهزيمة أخرى خلال فترة قصيرة وإلا فإن الغرب كقوة مهيمنة سيفقد هيمنته وهيبته إلى الأبد، بينما روسيا قد تخسر مناطق نفوذها التقليدية فى أوروآسيا وقواعدها الجديدة فى الشرق الأوسط وأفريقيا وتعتبر العملية العسكرية الحالية عرض للحلفاء الجدد ولقدرات روسيا كقوى عظمى عائدة للساحة الدولية.
الصين رابحة بلا شك وهى لا ترغب فى انتصار روسيا إلا من منطلق أن تكون فزاعة للغرب تشغله عنها لأطول فترة ممكنة حتى تتمكن على الأقل الخروج من الشرنقة لتصبح لاعب فاعل على الساحة الدولية، كما أنها سعيدة جداً بالعقوبات الغربية على روسيا، ولما لا وهى تأخذ المحروقات والمواد الأولية بأسعار منخفضة، وستجد فى روسيا شريك تجارى قوته الشرائية كبيرة ويريد تعويض مقاطعة الغرب له، وفوق كل هذا لا ترغب الصين وهى فى ذلك مثلها مثل أى قوة صاعدة أن يكون جارها منتصر وقوى، وهى التى لها مشاكل حدودية مع روسيا، وربما تفتح شهيتها لإعادة النظر فى اتفاقيات قديمة وقعتها مع القياصرة الروس تخلت بمقتضاها عن مناطق فى سيبيريا، ربما فى حالة روسيا القوية لا تستطيع حتى مجرد إثارتها، رغم أن الصين حلت هذه المشكلة بطريقة هادئة عن طريق مواطنيها المتواجدين فى الشرق الأقصى وسيبيريا.
الناتو وأوروبا وإيديولوجية جديدة، وبعد الخطر الروسى الداهم وجدت أوروبا نفسها وجهاً لوجه مع روسيا ولا أتصور أن الولايات المتحدة تمكنت من وقف هذا الخطر باستثناء تقديم الدعم العسكرى لأوكرانيا، ومن غير المستبعد أن تنقسم أوروبا إلى جزء مؤيد لروسيا (المجر والنمسا وألمانيا) وآخر مؤيد للولايات المتحدة وبريطانيا ومنه بولندا وجمهوريات البلطيق التى قد تكون الهدف القادم لروسيا كما يقول الخبراء الغربيون. لكن لا شك أن كل التفاقيات التى وقعتها روسيا مع حلف الناتو قد سقطت وسيدعم الحلف من تواجده العسكرى على حدوده الشرقية وبالقرب من روسيا.
لا أتصور أن روسيا قد تقدم على استخدام أسلحة دمار شامل من أى نوع، لأن سيستدعى رد حاسم من الناتو والولايات المتحدة، كما أن من شأنه أن ينفض من حول روسيا حلفاء مستفيدين من الوضع مثل الهند والصين، كما سيجتذب تعاطف لأوكرانيا من دول لم تحدد موقفها من النزاع بعد.