مخاطر متعددة: تأثير توسع نشاط الشركات الأمنية والعسكرية الخاصة
تحليل الباحث محمد صابر
بدأت الشركات الأمنية والعسكرية الخاصة الانخراط في “حروب بالوكالة proxy wars” منذ انتهاء الحرب الباردة بفضل الولايات المتحدة الأمريكية خاصًة، وكان لها دورًا بارزًا في التأثير على الخرائط السياسية في بعض دول العالم، كما استخدمت بعض الدول هذه الشركات في تنفيذ سياساتها الخارجية، واعتمدت عليها بدرجة عالية كونها تتمتع بالقدرة على أداء نشاطات عسكرية وقتالية واستخباراتية بالإضافة إلى اتسام معظمها بالقدرات المتميزة على تحليل المعلومات، مما يوفر على الدول الانهماك في المخاطر والكثير من الجهود، التي قد لا تملك بعض الجيوش النظامية وبالأخص الضعيفة منها مثلها.
وعلى الرغم من مدى تميز عمل الشركات الأمنية الخاصة عن الميليشيات المسلحة، فإن ممارسات هذه الشركات وتوسع دورها بنطاق هائل في مختلف الصراعات حول العالم، ولاسيما تحركات “فاغنر” في إفريقيا، واستمرار تعاظم الدور الذي تلعبه في العلاقات الدولية تشكل العديد من التحديات أمام الدول التي تتواجد بها في القيام بتنفيذ وظائفها الأساسية، كما تهدد بتآكل سيادة هذه الدولة وتعطيل القانون وانتهاك الحدود الوطنية، مما يهدد السلامة الإقليمية وتحالفات المنطقة وعلاقات القوى الدولية المنخرطة في هذه الصراعات بشكل أو بآخر.
بناءً على ما سبق، يسعى هذا التحليل إلى دراسة اتساع دور الشركات الخاصة المتخصصة بالخدمات العسكرية والأمنية، وتهديدها لسيادة بعض الدول، ومحاولة التوصل إلى تداعيات هذا الدور المتنامي المحفوف بالمخاطر، في ظل التطورات الجارية حول العالم وما قد تؤدي إليه من نتائج.
قدرات خاصة
تشير العديد من التقارير إلى تواجد أعضاء شركات الأمن الخاصة المرتزقة في مناطق الأزمات باستمرار، إما لدعم القوات النظامية في القتال، أو لتأمين مصالح وموارد معينة أو أشخاص ومؤسسات بعينهم، وتتميز حركة هذه الشركات بمرونة أكبر، ولديها القدرة على الإمداد بالعديد من الخدمات الأمنية والعسكرية، من خلال تنفيذ عمليات محددة، وغالبًا تُدار هذه الشركات من قبل كبار القادة العسكريين والأمنيين المتقاعدين، كما أن أغلب العاملين بها كانوا ينتمون سابقًا إلى القوات الخاصة، الأمر الذي يمكنها من نشر لواء مسلح بشكل كامل وبدعم لوجستي عالي في أي مكان في العالم وفي فترة زمنية بسيطة، وقد استعانت بعض الدول بهذه الشركات في تقديم بعض خدمات الجيش أو الشرطة، وفي بعض الدول الضعيفة تقوم بأداء مهام الجيش أو الشرطة كاملة، بالإضافة إلى تدريب الجيوش النظامية، وتقديم الدعم اللوجستي للجنود في مناطق القتال، وجمع المعلومات الاستخبارية، نظرًا لتمتع هذه الشركات ببعض المزايا التي من أهمها مرونة تحركاتها، فلا تجد أمام عملها تعقيدات إدارية وسياسية في اتخاذ القرار، وتنفذ عمليات نشر أو سحب أفرادها بسرعة كبيرة، بالإضافة إلى عدم حاجتها إلى التدريبات لتكونها غالبًا من ضباط سابقين يتمتعون بخبرات سابقة في الأجهزة الأمنية وقد تلقوا التدريبات من الشركات التي توظفهم، فهي تقوم بتجنيد أفرادها من المتقاعدين بأجهزة شرطية وعسكرية، ولديهم مهارات خاصة، كما يميز هذه الشركات في تحركاتها اعتمادها على قوات من البلدان المجاورة للدولة التي تنشر القوات بها، أو من الدولة ذاتها، مما يزيد من مرونة تحركاتها وفاعلية عمل هذه الشركات، ناهيك عن قدرتها على اختصار الوقت.
وتساهم هذه الشركات في تحقيق المصالح السياسية والاقتصادية لبعض الدول، فعلى صعيد المصالح الاقتصادية تقدم بعض الشركات الأمنية الخاصة في سوريا بعض الخدمات للحكومة السورية في سد الفراغ الأمني الهائل الناتج عن الحرب، وتقدم خدمات اقتصادية في المقام الأول فتساهم بإدخال العملة الصعبة للسوق، وتشكل هذه الشركات أحد أبواب الحكومة السورية في الالتفاف على العقوبات الأمريكية والغربية، ومن الجانب السياسي، تعتبر الشركات الأمنية الخاصة أحد أدوات تحقيق المكاسب السياسية في الداخل والخارج، حيث توظفها بعض الدول لتحقيق مصالحها دون الانخراط في صراعات أو التعرض للخطر، مما يزيد من الطلب عليها لحسم الكثير من النزاعات، وقد كان أكثر من نصف القوات الأمريكية المنتشرة في العراق وأفغانستان من هؤلاء المرتزقة المتعاقدين، ومن أهم نماذج الشركات الأمنية والعسكرية الخاصة:
(x) مجموعة فاغنر: شركة عسكرية شبه حكومية روسية المنشأ، تعتمد عليها “موسكو” في تنفيذ مهام عسكرية عديدة في الدول التي لا ترغب في إرسال قواتها المسلحة النظامية إليها، ظهرت لأول مرة في شرق أوكرانيا لدعم الانفصاليين، أثناء ضم روسيا لشبه جزيرة القرم في عام 2014، ومن ثم توسع انتشارها باستخدامها في الصراع السوري وفي فنزويلا وفي العديد من الدول بالقارة السمراء.
(X) شركة بلاك ووتر: شركة عسكرية خاصة أمريكية المنشأ، تأسست في عام 1997، وقد قدمت العديد من الخدمات العسكرية والأمنية للعديد من الدول وبالأخص الولايات المتحدة داخل أو خارج أمريكا، خاصًة في ظل الاحتلال الأمريكي للعراق 2003، وقد غيرت اسمها إلى “إكس إي سيرفيسز xe services” بعد ما لحق بها من فضائح على آثر ممارساتها في “بغداد”، وفي عام 2011 أصبح اسمها “أكاديمي Academi” بعدما تغير مرة أخرى على آثر استحواذ مجموعة شركات منافسة عليها قبل ضمها لمجموعة كونستليس القابضة، وتعتبر “أكاديمي” من أهمم الشركات الأمنية والعسكرية الخاصة التي تنشط على مستوى العالم وتجني أرباحًا تقدر بمليارات الدولارات.
(X) شركة “تي اس يو لخدمات الحماية TSU protection services”: تأسست هذه الشركة في جنوب إفريقيا عام 1999، وتعتبر من أهم الشركات الأمنية الخاصة هناك، لاهتمامها بتخصص الحماية التنفيذية والخدمات عالية المخاطر، وتقديم خدمات الحراسة الشخصية والدعم والأمن البحري، وتقدم هذه الخدمات في جنوب إفريقيا وفي الدول الإفريقية.
تداعيات مقلقة
على الرغم من الاختلافات الجوهرية بين الشركات الأمنية والعسكرية الخاصة والميليشيات المسلحة، وتميز الأولى عن الأخيرة وقلة أضرارها مقارنة بتهديد التماسك المجتمعي الذي قد تؤدي إليه الجماعات المسلحة المهددة لوحدة الدولة وسيادتها، تتعدد الآثار الناجمة عن انتشار هذه الشركات وتوسع مهامها مع انخراطها في صراعات عديدة حول العالم، ورطتها في تهديد أمن وسلامة بعض الدول التي تعم بها الصراعات، ويمكن تقسيم الآثار التي أحدثها تواجد واستمرار هذه الشركات في القيام بأداء ممارسات عدوانية متعددة لتحقيق مصالح الدول التي تطلب خدماتها على النحو التالي:
(1) تهميش دور الجيش الوطني: إن تزايد الاعتماد على مثل هذه الشركات في تنفيذ معظم المهام لتحقيق مصالح الدولة، قد يؤدي بصورة وأخرى إلى تهميش دور الجيش النظامي، خاصًة في حال الدول الضعيفة، لاسيما اعتماد الحكومة السورية على شركات الأمن الروسية في تحقيق بعض مصالحها أدى لتهميش دور الجيش السوري في تأمين هذه المصالح، كما أن ذلك يؤدي إلى إمكانية ابتزاز مصالح الدولة طمعًا في الاستيلاء على مواردها.
(2) تنفيذ ممارسات منفرة للسكان المحليين: قد تتبع قوات المرتزقة التابعة لهذه الشركات بعض التكتيكات الغير قانونية لحماية عملائها، كاللجوء لاستخدام القوة والعنف، بما يؤثر سلبًا على المجتمعات التي تنتشر بها، في ظل غياب الرقابة اللازمة والمساءلة السياسية عن عملياتها.
(3) ضعف أطر العقاب التي يتم من خلالها محاسبة أفراد المرتزقة ضمن الشركات الأمنية على جرائمهم: على سبيل المثال عندما قام أحد أفراد شركة “بلاك واتر” الأمريكية بقتل أحد أفراد الحرس الجمهوري في العراق، اكتفت الشركة بمعاقبته بالفصل عن العمل بها، وبنفس السياق اكتفت شركة “داينكورب” بطرد أعضائها المتورطين في أعمال تجارة الرقيق والدعارة من الشركة فقط، دون اتخاذ أي خطوات لمعاقبتهم على جرائمهم بصورة عادلة.
(4) تأثيرات على قوات الأمن والجيش بالدول المنتمين إليها: حيث تؤدي مشاركة الخبرة العسكرية مع أفراد خارج القوات المسلحة، بانتقال بعض ضباط الجيوش النظامية المتقاعدين للعمل في هذه الشركات الخاصة، إلى تهديد حقيقي، خاصًة بانضمام بعض الخبرات الحيوية مثل الأعضاء الذين كانوا ينتمون إلى القوات الخاصة وأجهزة الاستخبارات والشرطة العسكرية، خاصًة في حال انتقال الكوادر الرئيسية في الجيوش النظامية للعمل بهذه الشركات وإنهاء عملهم بالقوات المسلحة، رغبًة في تحقيق أرباح مالية أكبر نظرًا لارتفاع رواتب المرتزقة أعضاء هذه الشركات مقارنة براتب رقيب في الجيش.
(5) تحول الرأي العام إزاء واجب الخدمة الوطنية: فقد يتغير النظر إلى العمل في الجيش لينظر إليه على أنه مجرد مهنة تقارن بمهنة أخرى كالعمل في الشركات العسكرية والأمنية، والمقارنة بين الراتب المتوقع من هذه الشركات وراتب العمل في الجيش، وفقد النظرة إلى الجيش على أنه خدمة وطنية تعبر عن ولاء المواطن وانتمائه إلى البلاد، من خلال أداء واجب الخدمة الوطنية بتأمين البلاد وحماية أراضيها وحدودها من أي تهديد أو عدوان.
وختامًا، يمكن القول أن هناك حالة تصاعد مستمرة بشكل ملحوظ في استخدام الشركات الخاصة المتخصصة بالخدمات العسكرية والأمنية، وقد باتت هذه الشركات أحد أهم أدوات القوى الكبرى في تحقيق مصالحها وسياسياتها الخارجية، خاصًة ذات الأبعاد العسكرية والأمنية في التعاون والعداء، وتعمل باعتبارها دولة الداخل الدولة، لانتشارها في نطاقات خارج سيطرة الدولة، لتجنب الرقابة والتمكن من القيام بأي انتهاكات دون المساءلة، واستطاعت القوى الكبرى بالأخص استغلال هذه الشركات بتوظيفها واستثمارها كأحد أهم الموارد التي تحقق من خلالها أهداف سياساتها الخارجية ونشر النفوذ.