تهديد مستمر: تأثير انتشار الميليشيات الموالية لإيران وتركيا في سوريا
تحليل: الباحث محمد صابر
على الرغم من مدى أهمية الدور الذي لعبته الميليشيات المسلحة الموالية لإيران والحكومة السورية في سوريا للحفاظ على بقاء النظام، فإن ممارسات هذه الجماعات واستمرار وجودها يشكلان العديد من التحديات أمام عودة الدولة للقيام بتنفيذ وظائفها الأساسية، كما يقوض ذلك أي فرصة لتحقيق التماسك المجتمعي، مما يهدد بتآكل سيادة الدولة وتعطيل القانون وانتهاك الحدود الوطنية، كما هو آثر ممارسات الميليشيات غير التابعة للنظام على حد سواء، كلًا منهم يهدد من جهة وأخرى جهود الاستقرار والحل السياسي للأزمة السورية، كما يؤثر على السلامة الإقليمية وتحالفات المنطقة وعلاقات القوى الفاعلة بالملف السوري.
وبعد ما حققته الحكومة السورية في استعادتها لمناطق كبيرة من الأراضي السورية تحت سيطرة الدولة، مازال وجود هذه الميليشيات الموالية لطهران وأنقرة يهدد باستمرار انهيارالدولة والعزلة وتفكك الاقتصاد الوطني، كما تؤثر على مرونة تنفيذ وظائف الدولة الأساسية، حيث تبقى أحد أهم سمات الدولة المعاصرة احتكارها للقوة المسلحة، فتكون هي الجهة الوحيدة التي تملك قوات مسلحة، وأجهزة أمنية، وتدير المحاكم والسجون، وتفرض العقوبات على المقيمين في إقليمها، وبالتالي تنتقص هذه الميليشيات باستمرار من سيادة الدولة السورية على إقليمها، وتمنع تحقيق وحدة أراضيها، مما يهدد بتقسيم البلاد وعدم استعادة السيطرة عليها.
بناءً على ما سبق، يسعى هذا التحليل إلى دراسة تأثير الميليشيات المسلحة بشكل عام – تابعة للنظام السوري أو مناهضة له– ونتائج تهديد وحدة البلاد وسيادتها، ومحاولة رصد التطورات وتصور مستقبل هذه الجماعات المسلحة في سوريا، والعمل على طرح بعض السيناريوهات المتوقعة، في ظل التطورات الجارية وما قد تؤدي إليه من نتائج.
تباين المساعي
إن ما وصل إليه الوضع في سوريا اليوم من حالة تفريغ الدولة السورية، والتحولات الديموغرافية الناتجة عن صعود هويات دون الوطنية متعددة، أدى لتحول الأزمة السورية إلى مجموعة من الأزمات والصراعات المصغرة، خاصًة في ظل اعتماد الرئيس السوري “بشار الأسد” على حلفاء خارجيين ووكلائهم في بقائه على رأس السلطة، ومع انخراط أطراف الصراع في أكثر من اتجاه، مما نتج عنه فقد مساعي السيادة المطلقة والخضوع للنفوذ الأجنبي على مدار السنوات الماضية وغيرها من عقود مقبلة، حيث يمارس كل طرف من اللاعبين الخارجيين دوراً في أقلمة الصراع السوري.
ففي الواقع يمكن القول أن معظم هذه الجماعات المسلحة تستند في وجودها إلى الدعم الخارجي، حيث تمد القوى الخارجية هذه الميليشيات بالمال والسلاح أو التدريب العسكري، وغيرها من سبل الإمداد والتمويل، وبالتالي لا يمكن التعاطي معها وفقًا لنفس الآليات، بل يتطلب الأمر دراسة أهداف ومصادر قوة وضعف كل منها على حدة، نظرًا لاختلاف مساعيها وأسباب تكونها ومصادر الدعم الخاصة بها، ويمكن توضيح ذلك على النحو التالي:
(*) الميليشيات المدعومة من إيران: لعبت هذه الميليشيات دور رئيسي في الصراع السوري بهدف الحفاظ على إبقاء نظام الحكم كما هو، واستمرار فرض القانون والأمن خلال السنوات السابقة وتدمير جيوب المعارضة خاصًة في الجنوب السوري، مثل “قوات الدفاع الوطني” وبعض الجماعات المسلحة العراقية الموالية لإيران، لكن يبقى وجود هذه الميليشيات أحد عوامل تقويض التماسك المجتمعي، وتعطيل القانون والنظام.
(*) قوات المعارضة المدعومة من تركيا: ساهمت قوات المعارضة السورية في استيلاء القوات المسلحة التركية على مجموعة من المناطق في الشمال السوري، خلال أربع عمليات عسكرية معروفة بـ (درع الفرات 2016 – غصن الزيتون 2018 – نبع السلام 2019- درع الربيع 2020)، والتي استهدفت تركيا خلالها مواقع سيطرة “قوات سوريا الديمقراطية” في الشمال السوري، ومازال التهديد التركي مستمرًا بعد ذلك بتنفيذ عملية عسكرية جديدة في تل رفعت، ومنبج بمحافظة حلب، كما قامت على مدار الأعوام السابقة وحتى اليوم باستهداف هذه المناطق باستمرار عبر الطائرات المسيرة والقصف بمساعدة ميليشيات المعارضة المدعومة منها، وتسيطر الأخيرة على معظم محافظة إدلب، وتمدهم تركيا بالمال والسلاح والتدريب والدعم اللوجستي، ويتراوح عددهم بين 70 و90 ألف مقاتل، لكنها تنقسم إلى وحدات منفصلة داخليًا وكل منها له قائد منفصل، يتنافسون فيما بينهم على النفوذ والمصالح الخاصة، وتشكل معًا ثاني أكبر تحالف لجماعات معارضة مسلحة بعد “هيئة تحرير الشام”، مما زاد من حدة التفكيك بين صفوف الشعب السوري.
(*) هيئة تحرير الشام: كانت تعرف باسم “جبهة النصرة” سابقًا وهي احد أفرع تنظيم الدولة الإسلامية في 2011، وانفصلت عنها معلنة تنظيم القاعدة بقيادة “أيمن الظواهري” في 2013، وفي 2016 أعلن قائدها “أبو محمد الجولاني” انفصال الجبهة عن القاعدة أيضًا، معلنًا اسمها الجديد “هيئة تحرير الشام”، وتبنت الجهاد المحلي داخل الأراضي السورية دون غيرها، كما ذهبت آنذاك إلى القضاء على معظم الحركات الإسلامية المسلحة المنافسة لها، وإضعاف الجماعات الأخرى، حيث قامت الهيئة بالمساعدة في تصفية ما تبقى من تنظيم الدولة، وإضعاف حركة “حراس الدين” التابعة لتنظيم القاعدة، وهي تسيطر على معظم إدلب ومعبر باب الهوى مع تركيا، وهو أهم المعابر الإستراتيجية لإدخال المساعدات والبضائع لإدلب، وساهمت براغماتية الهيئة وقائدها “الجولاني” في كسب علاقات مع القوى الخارجية المنخرطة في الصراع السوري، مما ساهم في إنشاء ذراع سياسي لها والدخول في اتصالات وتفاوض مباشر وتنسيق مستمر مع تركيا.
تداعيات مقلقة
تتعدد الآثار الناجمة عن انتشار الجماعات المسلحة في سوريا وانخراطها في صراعات عديدة تهدد بعودة الأزمة السورية إلى نقطة الصفر، وتراجع مؤشرات الحل السياسي بشكل مستمر، ويمكن تقسيم الآثار التي أحدثها تواجد واستمرار هذه الميليشيات على النحو التالي:
(*) تعزيز الانقسامات بين مكونات المجتمع السوري: إن العمل على إنشاء الميليشيات على أسس مذهبية مثل الجماعات الموالية لإيران وحزب الله، أو جماعات مسلحة ذات انتماءات مختلفة لأطراف دولية خارجية مثل الجيش الوطني السوري، وتطلعاتهم إلى تقسيم البلاد والسيطرة على أكبر قدر ممكن من النفوذ، يؤثر سلبًا في عملية إعادة بناء الهوية الوطنية الموحدة، ويشكل عائقًا قويًا لها، مما ينتج عنه إعاقة بناء مجتمع سوري متماسك.
(*) تهديد وحدة الأراضي السورية: على الرغم من الموقف المعلن لدى أغلب هذه الجماعات المسلحة تجاه مسألة وحدة أراضي البلاد، وتأييد الدولة القومية حفاظاً على الوحدة، فإنه على وجه الخصوص الميليشيات المعارضة للنظام تُعَرِّض الأراضي للخطر، في ظل دعمها لتركيا بعمليات الانتشار والتوغل في الأراضي السورية بالشمال، واستمرار تنفيذها قصف متعدد للبنية التحتية في مناطق سيطرة “قسد”، مستهدفة العديد من المدنيين، مما أدى لبروز مخاطر عودة “داعش” من جديد، الذي بات ينفذ العديد من العمليات الإرهابية الموجهة ضد مناطكق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية بدرجة أكبر يليها مناطق سيطرة الحكومة السورية.
(*) تآكل سيادة الدولة: تمنع الميليشيات المسلحة التي تعمل خارج سيطرة الدولة قدرة الحكومة على فرض السيطرة واحتكار استخدام القوة وفرض القانون، كما تعيق الجماعات الموالية للنظام ذاتها سيادة الدولة في المناطق التي تسيطر عليها، حيث تتلقى هذه الميليشيات التوجيهات والأوامر العسكرية من إيران وليس من الحكومة السورية، بما يمنح طهران القدرة على شن هجمات من خلال الأراضي السورية دون موافقة الدولة، ويشكل ذلك تهديدا حقيقيا ومستمر لأمن الدولة وسلامة السكان.
(*) انتهاك الحدود الوطنية للبلاد: إن النفوذ الذي تتمتع به الميليشيات العراقية المسلحة و “حزب الله” اللبناني في سوريا، يؤدي إلى مرونة تحركاتهم دون رقابة محكمة على الأراضي السورية، بالإضافة لدعم الميليشيات المحلية وخصوصًا الموالية لإيران لهذه الجماعات في استغلال حدود البلاد لتنفيذ عمليات التهريب الغير مشروع، لاسيما تهريب السلاح والمخدرات وغيرهم من المواد المشروعة كالوقود وبعض المواد والسلع، وهو ما يؤدي بالتالي بجانب التهديدات الأمنية إلى نقص في المواد وارتفاع الأسعار.
سيناريوهات مختلفة
في ضوء التطورات المطروحة، وبعد تزايد حالة التصعيد في الأراضي السورية بين كافة الأطراف، على آثر التطورات الجارية منذ الهجوم على الكلية الحربية في سوريا، وتزايد القصف التركي لمناطق سيطرة الأكراد، ومع الآثار الناتجة عن “طوفان الأقصى”، والقصف الإسرائيلي على دمشق واستهداف الميليشيات الموالية لإيران ومواقعها في سوريا، وبالتالي العودة بالأزمة السورية إلى ما قبل 2019، مما نتج عن ذلك من تهديد بعودة تنظيم “داعش” وتزايد عملياته في سوريا والعراق مؤخرًا، فإنه يمكن وضع بعض التصورات والسيناريوهات المتوقعة بشأن مستقبل الميليشيات المسلحة في سوريا على النحو التالي:
(*) استمرار صراع الميليشيات وتبعيتها لقوى خارجية: يفرض هذا السيناريو استمرار الأسلوب الذي تتبعه الميليشيات المسلحة في سوريا، وعدم التوصل لاتفاق بشأن إنهاء الوضع القائم من فساد وتشتيت للمجتمع السوري ومكوناته، وتهديد حياة المدنيين بإقحامهم في صراعات متعددة الأطراف بالمناطق التي يعيشون بها، ويبقى هذا السيناريو هو الأكثر ترجيحاً في ظل تداعيات “طوفان الأقصى” والتوتر على الساحة السورية وصعود حالات الحرب بالوكالة التي تستغلها “طهران” في ضرب المصالح الأمريكية في سوريا والعراق، والتصعيد القائم بين تركيا والفصائل الموالية لها مع قوات سوريا الديمقراطية في ظل التأهب لعملية عسكرية تركية جديدة ضد “قسد”، ومع استمرار حالة الحكومة السورية التي تسمح باستمرار أنشطة الميليشيات الموالية لإيران، بما يؤثر سلبًا على سيادة الدولة.
(*) تشجيع أفراد الميليشيات على تعديل السلوك: توجه الحكومة السورية إلى منح العفو بخصوص جرائم عناصر الجماعات المسلحة، لتوفير حافز مادي لتغيير السلوك واحترام سيادة الدولة والرغبة في الاندماج داخل المجتمع مرة أخرى، وقد يشجع نجاح هذه الإستراتيجية رغبة أعداد كبيرة من أعضاء تلك الجماعات في بدء حياة بعيدة عن الجرائم التي قد يرتكبونها في إطار نشاطاتهم ضمن الميليشيات المنتمين إليها، مما يمهد لإعادة بناء حالة السلام، في عملية قد تكون طويلة الأمد لكنها قوية التأثير، لإحداث تغير حقيقي في سياسات وتصورات تلك التنظيمات، إلا أن هذا السيناريو يبقى غير جديرًا لتطبيق العدالة، كونه يشكل بوابة لأعضاء الميليشيات الموالية لتركيا، وملاذًا من معاقبتهم أمام كافة الجرائم التي ارتكبوها في سوريا، وبالأخص جرائم الاغتصاب والتعذيب والقتل داخل السجون التي تم إنشائها في مناطق سيطرتها، والتي يتم ممارسة أبشع الجرائم بداخلها خاصًة تجاه الكرد، وفقًا لتقارير صادرة عن الأمم المتحدة وموثقة لأغلب هذه الجرائم.
(*) دمج أعضاء الميليشيات في بنية الجيش النظامي: يذهب ذلك السيناريو إلى عمل الدولة على امتصاص عناصر هذه الميليشيات والتنظيمات شبه العسكرية في الجيش النظامي، ويثير هذا السيناريو مجموعة من المخاطر المحتملة في تماسك المؤسسة العسكرية وهيكلها التنظيمي وكفاءتها بشكل عام، كما يتطلب ذلك موارد كبيرة واستثمار مثالي، وهو أمر لا يبدو متوفرًا لدى دولة لم تخرج بعد من أزمات وصراعات مستمرة، حيث تفتقر الدول محدودة الموارد للقدرة على إدماج مثل هذه الأعداد المهولة من أعضاء الميليشيات المسلحة غير الرسمية، فيتوقف الأمر على العديد من الاعتبارات، مثل خلق القبول اللازم لتقبل الضباط دمج تلك الكيانات، ومن جهة أخرى استعداد هذه الجماعات ذاتها للانخراط في القوات المسلحة النظامية، ومدى لياقتهم لذلك من عدمه.
وختامًا، يمكن القول أن سيناريو دمج أعضاء الميليشيات في صفوف قوات الجيش النظامية يبقى ورادًا، لكنه شديد الخطورة ولن يساعد في تحقيق العدالة ومحاسبة كل منهم على جرائمه المتعددة أيضًا، كما أن ذلك قد يؤدي إلى تداعيات إقليمية ومحلية سلبية أيضًا في ظل توافر احتمال استمرار انتماء هذه الجماعات لأيديولوجياتهم المشتركة في إطار الميليشيا المنفكين عنها، أو تقديمهم الولاء للأطراف الخارجية الداعمة لهم والموالين لها حتى الآن سواء تركيا أو إيران، مما يعني أن هذا سيؤدي إلى بقاء جذور الصراع حية، دون علاج الخلل بالصورة اللازمة.