مقالات

حين تنتهي السياسة كفعل انتقامي تُمسي أقوى من الزلازل

تحليل فراس يونس – مرَّ شهر على وقوع الزلزال المدمر الذي ضرب مناطق ومدن جنوب تركيا وشمال غرب سوريا ووصلت هزاته الإرتدادية مصر وقاع البحر الأبيض المتوسط، ولا تزال تتعاقب زلازل بمقياس ريختر درجات أدنى من درجة الزلزال الذي ضرب في السادس من شباط.

توحدت مشاعر البشر في كل مكان على كوكبنا الأرضي، وهم يشاهدون آثار الزلزال المدمرالتي تسبب فيها وضرب مناطق شاسعة في كل من جنوب شرق تركيا وشمال غرب سوريا وأدى إلى وفاة عشرات الآلاف من البشر تحت ركام المباني والبيوت المدمرة، وتسبب في إصابة وتشريد ملايين آخرين في كلا البلدين، راحوا يهيمون على وجوههم بحثا عن مأوى أو علاج أو غذاء.

توحدت مشاعر الناس وهم لا يفكرون إلا في شيء واحد ألا وهو الأمل في إنقاذ أو إسعاف كل إنسان مهدد بالموت أو بالتشرد والضياع، أيا كانت جنسيته، أو دينه، أو طائفته أو أصله العرقي.

قد لايكون الزلزال الذي ضرب سوريا وتركيا في 6 فبراير 2023 والذي لا تزال أنقاض الركام الذي خلفه هو الأكثر دمارا وفتكا في تاريخ البشرية فقد سبقته زلازل أخرى أكثر عنفا وتسببت في أضرار أوسع نطاقا، غير أن ما يميز الزلزال الأخير عن غيره مما سبقه من زلازل أنه ضرب منطقة منكوبة أصلا تضربها الحروب والصراعات الدموية منذ أكثر من عشر سنوات ويقطنها في الأغلب الأعم لاجئون أو نازحون ما ضاعف من هول المأساة الانسانية التي ألمت بهم وتسبب في عرقلة وصول قوافل الإغاثة ألى المناطق الأكثر تضررا واحتياجاً.

بدءا من السادس من شهر شباط المنصرم يكابد السوريون في مناطق الزلزال كوابيس لا حصر لها، فوق مكابدتهم أهوال حروب الآخرين على بلدهم، كما حربهم الداخلية المستعرة منذ إثنا عشر عام ونيف.

ليسَ توصيفا للكارثة المستجدة، بل إضاءة على ما كشفته من أهوال في طريقة إدارة الأزمات والكوارث، من قبل سلطات الأمر الواقع و”حكوماتها” ودعوة ملحة لاستنهاض هِمَم من هم جديرون بتجاوز هذا السياق الكارثي الذي ترتب على الزلزال، وما سبقه من زلازل بشرية أطاحت بالبشر والحجر ماديا ومعنويا.
زلزال كاشف… على ردود الأفعال:

لم تستطع الطبيعة حتى في أقسى ثوراتها الجيولوجية، تخفيض منسوب السياسي لصالح “الإنساني” بغرض إدارة الكوارث الطبيعية. يمكن القول بكل يقين إن كارثة زلزال السادس من شباط 2023 الذي ضرب عشر ولايات تركية جنوبية، وأربع محافظات سورية شمال وغرب البلاد (إدلب وحلب وحماة واللاذقية) وأوقع ضحايا تزداد أعدادهم يوما بعد يوم ويتجاوز الخمسين ألفاً، هذه الكارثة لم تنجح بتغيير الصورة السيئة للقوى المتصارعة على الأرض وسلطات الأمر الواقع لدى مختلف السوريين، داخل البلاد وخارجها.

بعد أسبوع على الكارثة وجد تنظيم داعش الاجرامي الفرصة سانحة للانقضاض على مدنيين شرق مدينة حمص وتكبيد البلدة بحوالي 60 قتيل. ثمة أنباء ومزاعم عن كون هؤلاء عسكريون بلباس مدني. مهما يكن من أمر فالمذبحة مدانة، وغير مسوغة في كل الأحوال، لكن الإجرام الغوغائي والاستعراضي الذي يتميز به هذا التنظيم لا يخفي نفسه، ويبقى سمة من سماته العضوية.

في اليوم السابع للكارثة قصف طيران “إسرائيل” مواقع في العاصمة دمشق، استمرارا لمسلسل اعتداءاته على الجغرافية السورية بذريعة استهداف مواقع إيرانية، فيما نقلت أنباء عن حدوث اشتباكات عسكرية بين أطراف محلية في مناطق محافظة إدلب في اليوم الثامن.

وفيما كان البطء في الاستجابة الانسانية (العربية والدولية) السمة الأبرز والتي بلغت أوجها بعد خمسة عشر يوم من الزلزال بما لا يتجاوز عددا من طائرات المساعدات والقوافل من بلدان عربية مجاورة، ومساعدات مالية وإغاثية أممية (في حدود 84 مليون دولار) برعاية الأمم المتحدة وتصرفها، خابت الرهانات العريضة التي عوّلت عليها سلطات دمشق والمعارضة بغاية تحريك الجمود السياسي الذي راوحت فيه أغلب منصات التفاوض السياسي، لا تغيير يذكر في وضعية النظام السوري رغم كل ما يتمظهر على الإعلام، في محاولات التعويم اليائسة التي يطمح لها وقد منحته الكارثة فرصة ذهبية لاستثمارها ليس في التعويم وحسب بل في إعادة إنتاج نفسه بقبول دولي وعربي كـ “نظام تقاطع مصالح ريعي” من جديد بعد فشل كل البدائل المتاحة أمام المجتمع الدولي والعربي فرضها، والتي لا يمانع هذا المجتمع المتفسخ على أي حال معاودة قبوله مع بعض التعديلات والرتوش الشكلية. كما أخفقت المعارضات من ناحيتها، خاصة المسيطرة على مناطق محافظة إدلب، وغرب حلب، في الدخول في قلب حدث الكارثة كلاعب رئيسي، بسبب تبعيتها للراعي التركي المنهمك في إدارة الكارثة على مناطقه ومدنه، والتي أبعدت رعايته عن المتناول في العمق السوري، وتكاد تحسم أمرها مسارات سياسية قلقة أمام النظام التركي للاندفاع أكثر نحو دمشق بهدف التخلص من عبء إغاثة ورعاية مناطق إدلب وغرب سوريا، والنازحين السوريين في الأراضي التركية.

استجابات ليس على مستوى الحدث- الكارثة:
تعاطى النظام السوري منذ الساعات اﻷولى لكارثة الزلزال بمنطق استسلامي أي أنه لايمكن فعل شيء إزاءها، فهي “قضاء وقدر” وعلينا تقبلها على هذا الأساس. في الأيام اللاحقة تجاهل إعلام النظام ومعه حكومته الفاقدة لأي فاعلية حقيقية إلقاء اللوم على أي مؤسسة حكومية لتأخرها في الاستجابة الفورية للحدث، وتفادى أيضا أي حديث عن ترهل عمل مؤسساته وضعف استجابتها لنداءات الاستغاثة المتكاثرة من السوريين في كل أنحاء سوريا خاصة ما ارتبط بوقائع انهيارات الابنية خلال الايام الثلاثة التالية لحدث الزلزال.

مضمرات غير معلنة بالإستغناء عن الواجب لغاية في نفس يعقوب:
ثمة توجه غير معلن للتخلي عن القيام بواجبات الدولة المعهودة إمعانا في إظهار الضعف والعجز الواقع فعلا لاستثماره في عملية تعويم السلطة والقفز فوق كل القرارات الدولية والعقوبات الأمريكية المتعلقة بقانون قيصر علما أن هذه العقوبات لا تتعلق بالإعانات والإغاثة في أي حال من الأحوال، وكأن القانون يعيق ويمنع الجرافات الوصول الى مواقع انهيارات الأبنية التي كان محتملا وجود أفراد ناجين تحتها.

نحو مزيد من التصدع في البلاد:
لم يغادر العقل الإلغائي مساحة عقل النظام السوري وظل ناظما في كل تحركاته وردود أفعاله التي بدا الكثير منها انتقاميا وثأريا بعيدا عن منطق الدولة الحديثة، وما تمليه عليها مسؤولياتها وواجباتها تجاه مواطنيها في حدود سيادتها، إذ تجاهلت ذكر محافظة إدلب وكأنها خارج المساحة الجغرافية السورية في العديد من البيانات الوزارية والحكومية، لم تتم الاشارة إلى إدلب إلا بعد موافقة النظام على الطلب الدولي بفتح المعابر مع المنطقة الخارجة عن سيطرة الدولة السورية (إدلب وغرب حلب).

وفي مناطق سيطرة المعارضة المسلحة الموالية لتركيا لم تكن “حكوماتها” على قدر ولو طفيف من المسؤولية لا على الأرض ولا على مستوى الإعلام تجاه كارثة انسانية حقيقية. ولولا مؤسسات المجتمع المدني ومنظمات الإغاثة المحلية لكان الوضع أسوأ بكثير.

أما الأداء السياسي والإعلامي للأطراف السورية المتنازعة، فقد دُفع باتجاه زيادة الشرخ في البلاد من خلال استخدام الكارثة لتحقيق مكاسب آنية على حساب الأطراف الأخرى. وعلى الرغم من حجم الكارثة الكبير الذي كان يفرض كسر التخندق السياسي والعسكري، فإن التعاطي الحكومي والتعاطي المقابل له من جماعات المعارضة لم ينجح في تغيير معادلة التوازن الإجباري على الأرض فقد تم افتتاح طريق للمساعدات من دمشق إلى مناطق إدلب بضغط إمارتي وروسي، كما أن حالات متعددة من العنصرية تجاه المتضررين في مختلف المناطق ظهرت بوضوح في خطاب الطرفين، ولو أن الغالب كان وجود تعاطف كبير بين الناس تجاه بعضهم البعض. إعلان المحافظات الأربع مناطق منكوبة جاء بعد أربعة ايام على كارثة الزلزال، وربما جاء نتيجة ضغوط خارجية، وهذا التأخير لوحده كان سببا في فرملة الاندفاع العربي والدولي تجاه دمشق ليأتي عدم إعلان الحداد العام على ضحايا الزلزال سببا ثانيا، على الرغم أن العدد الإجمالي للضحايا السوريين بلغ قرابة عشرة آلاف إنسان أو أكثر في كامل سوريا والعدد غير دقيق ومتغير.

غير أن أبرز التخندقات السياسية التي حصلت في سوريا خلال الأيام الأولى والتي رسخت الإنقسام في المجتمع السوري رفض كل من النظام والمعارضة في شمال غرب البلاد قبول قوافل مساعدات جهزتها الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا. كما أن بعضا من هذه القوافل تم تغيير صفتها إلى مساعدات العشائر حتى تعبر مناطق السيطرة إلى مناطق دمشق في حين نجحت الضغوط التركية في منعها من الدخول إلى مناطق إدلب.

بقعة مضيئة في هذا السواد المعتم:
على الجانب الآخر من المأساة السورية تحرك المجتمع السوري بمبادرات فردية ومدنية لتجاوز حالة غياب الدولة في عمليات الإنقاذ والإسعاف والإغاثة ظهرت على مساحات المدن والقرى المنكوب مبادرات (أفراد وجمعيات مجتمع أهلي ومدني) تحركت من خلال علاقاتها مع المجتمع في عمليات الإغاثة حيث اضطر كثير من الناس البحث والعمل في الأنقاض بأيديهم بسبب قلة المعدات والتركسات وغياب الوقود اللازم لتشغيلها.

عندما تختزل السياسة عندنا باعتبارها فعل سلطة:
لا تمارس السياسة في بلداننا إلا بصفتها فعل سلطة، بل ما يحمله هذا الفعل من قمع وإخضاع، وسلب حريات وأملاك معنوية أو مادية، فضلا عن شيطنة الآخر وإقصائه، وليست فعلا يمتُّ إلى الخير العميم، وخدمة الشؤون العامة بروح مسؤولة وغيرية وغير تسلطية. هذا ما يجب أن يتكشف على وجه الخصوص في الكوارث والأزمات.

ولأن الأمر ليس كذلك تنوء المساعدات الإغاثية، وإيصال المعونات الضرورية بثقل السياسة الأولى وإملاءاتها وإكراهاتها، وإذا كان الزلزال قد أفرغ طاقته وتردداه التكتونية فإن “تكتون” الأنظمة والقوى التسلطية أقوى وأفظع من ترددات الزلازل وأكثر أذى. ها نحن اليوم أمام جغرافية سوريا مقطعة الأوصال، وتبرزحواجزها المرئية وغير المرئية أمام كل ذي عين، لتخضع المساعدات الاسعافية والاغاثية لكل فلترة وتدقيق واستنساب ومعرفة مآل وغاية وليختفي معها كل ما هو ” إنساني” في منطقة أنهكتها صدوع الحرب والصراعات الدموية.

زلزال سورية هو كارثة بكل معنى الكلمة، والاستجابة الهزيلة من سلطات “الأمر الواقع” تشير إلى أنها تكثيف لمجريات الحرب بكل ما حملته من انشقاق وتصدعات في بنية المجتمع السوري وتكريس لها، وهو ما يجعل القضية السورية مجددا على أبواب الشد والجذب الإقليمي والدولي، بدل أن يكون الزلزال فرصة مؤلمة للبناء عليها في توجه سياسي مغاير.

معالجة آثار الكارثة تتعدى صفة المهمة الطارئة أو الاستجابة لحدث الزلزال نفسه، في أفق معالجة الكارثة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، والخسائرفي حدها الأدنى كما تشير أغلب التقديرات بمليارات الدولارات، وهو يحتاج إلى عشرات السنوات لتجاوزها وسط وضع اقتصادي كارثي هو الآخر.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى