كيف ولماذا وضعت تركيا أقدامها فى الصومال؟
تحليل عاطف صقر –
تساؤلات تثيرها سياسة تركيا تجاه الصومال، الدولة ذات الأهمية الاستراتيجية التى تطل على أحد أهم طرق التجارة العالمية عند المدخل الجنوبى للبحر الأحمر المرتبط شمالاً بالبحر المتوسط (الذى تطل عليه تركيا)، عبر قناة السويس أحد أهم ممرات التجارة الدولية.
فقد ظلت سياسة تركيا، بعد قيام الجمهورية وانهيار الخلافة العثمانية منذ نحو مائة عام، معادية أحياناً للقارة الأفريقية؛ التى كانت دولها تسعى للاستقلال عن دول غربية، تعمق تركيا علاقاتها معها. وبعد أن حققت تركيا ازدهاراً اقتصادياً فى الثمانينيات، بدأت البحث عن أسواق لسلعها فى أفريقيا . وكان التدخل الدولى لإغاثة الصومال من المجاعة، فى أوائل التسعينيات، فرصة لتركيا،التى شاركت بـ (320 عسكرياً) فى عملية الأمم المتحدة الثانية “يونوصوم-2” للإغاثة، بل وعينت الأمم المتحدة الجنرال التركى شفيق بير قائداً لهذه القوات؛ لإرضاء الصوماليين، ذى الأغلبية المسلمة.
ونظراً لأنه من المعروف أن مثل هذه القيادة تتعاون مع الدولة التى تنتمى إليها “تركيا”، فإنه من الأمور المعتادة أن تكون تركيا، قد تلقت معلومات حول الدروس المستفادة من عملية الأمم المتحدة، وأنها استفادت من تلك الدروس، كما يتبين لاحقاً. ومن أهم هذه الدروس أن يتم توطيد البيئة الآمنة لإيصال مواد الإغاثة إلى مستحقيها؛ وأن المنظمات الحكومية وغير الحكومية يمكن أن تتعاون فى إيصال المساعدات؛ وان هناك مشروعات لا تثير خلافات مثل: إعادة رصف الطرق وبناء المدارس والبنية الأساسية، وتقديم مساعدات وخدمات طبية؛ وأن إعطاء أولوية للمساعدات الإنسانية على الأنشطة العسكرية، يعطى مصداقية للطرف الذى يعلن أنه جاء إلى الصومال فى مهمة إنسانية؛ وأن إنفاق الأموال فى المساعدات، وسط ظروف مضطربة لايعنى إضاعتها، وأنه لابد من العمل رغم الفوضى، وليس بعد تحقيق الاستقرار سياسياً؛ وألا يتم فرض حل -من طرف أجنبى- للمشاكل الصومالية، وألا تتدخل القوات العسكرية لصالح طرف أو آخر يدخل فى منافسة من أجل الرئاسة الصومالية؛ حتى لا تثير انتقام خصوم-من تتدخل لصالحه- ضدها.
وبعد انتهاء مهمة الأمم المتحدة بحوالى عشر سنوات، واستمرار النمو الاقتصادى وتزايد انتاج السلع التركية والحاجة إلى أسواق لتصريفها، تبنت تركيا سياسة الانفتاح على أفريقيا عبر زيادة التواجد الدبلوماسى والتبادل التجارى .
وبعد دروس عملية الأمم المتحدة، وتزايد المصالح التجارية التركية، وبوادر وضع تركيا قدميها بدول فى الشمال الأفريقى إثر وصول حلفائها للحكم، إثر ماسمى بـ”الربيع العربى” عام 2011، جاءت زيارة رجب طيب أردوغان رئيس وزراء تركيا-حينذاك- للصومال؛ كأول قيادى غير أفريقى يزور الصومال، منذ الحرب الأهلية المندلعة قبل نحو عقدين سابقين؛ بدعوى تقديم مساعدات، والقيام بجهود تنموية والمساعدة فى إعادة بناء الصومال.
ركيزة استراتيجية
واتخذت تركيا خطوات تدريجية لتحويل الصومال إلى “ركيزة” للاستراتيجية التركية بأفريقيا؛ وبخاصة مع فشل المتوافقين معها فى حكم دول الربيع العربى.
وركزت المرحلة الأولى على المساعدات الإنسانية، والسيطرة على ميناء ومطار مقديشو، أهم منفذين لوصول الإمدادات للصومال، مع مشاركة منظمات حكومية وغير حكومية تركية فى العملية. ووصلت المساعدات بذلك عبر أيدى تركية، ودون وساطة جهات متعددة مثلما تفعل منظمات دولية؛ ومن خلال التواجد بالصومال وليس بإرسالها من كينيا المجاورة عبر وسطاء قد يسرقونها أو تصل بعد فساد أطعمتها؛ واهتمت بالبنية الأساسية، وببناء المدارس فى الداخل وإرسال البعثات الطلابية إلى تركيا؛ وبتقديم الخدمات الطبية وبناء مستشفيات، بالرغم من استمرار العمليات الإرهابية لحركة الشباب الصومالية فى العاصمة الصومالية. وخلقت تركيا بذلك صلات مع الصوماليين العاديين، ومع جانب من النخبة، مما مهد لتطوير دورها.
القاعدة العسكرية التركية
ومع فشل تجربة حلفاء تركيا فى الحكم، بعد “الربيع العربى”، استفادت تركيا من ذلك فى الصومال بأن تماهت مع الإجماع الصومالى الخاص بدعم مؤسسات الدولة الصومالية الفيدرالية، التى تضم عدة ولايات، حتى تبقى على نفوذها فى هذه الدولة ولايتم طردها مثلما تم طرد حلفائها بدول ما بعد “الربيع”. ورغم ذلك، تأثرت الصومال بالتطورات السلبية فى العلاقات التركية مع الدول الرافضة لما يسمى بـ “الربيع العربى”. فقد وسعت تركيا نشاطها ليمتد إلى النشاط العسكرى، وأنشأت قاعدة عسكرية ضخمة فى مقديشو عام 2017، أثارت جدلاً حول مهامها. فروجت تركيا إلى أنها قاعدة تدريب عسكرى تتسع لمئات العسكريين الصوماليين ،فى إطار دعمها للمؤسسة العسكرية الصومالية، بهدف أن يكون لدى الحكومة الصومالية القوة الأمنية التى تمكنها من محاربة “حركة الشباب” وتحقيق السيطرة الأمنية، خلفاً للقوة الأفريقية التى تستعد لإنهاء مهامها بالصومال، ومنها محاربة الإرهاب وحماية مؤسسات الدولة الصومالية؛ فى حين وصف مراقبون القاعدة التركية بأنها قاعدة عسكرية متكاملة الأركان، وأنها رأس حربة تركية للصومال فى أفريقيا.
مكاسب تركية
ومع سقوط الرئيس فرماجو –المحسوب على تركيا- فى انتخابات مايو 2022، ومجئ الرئيس حسن شيخ محمود –وسياسته العملية- سعت أنقرة إلى التكيف مع الواقع الصومالى الجديد، وأصبحت ثانى محطة دولية يزورها الرئيس الجديد، بناء على دعوة تركية. وأظهرت الزيارة قدرة تركيا على توسيع سياستها بالدخول إلى مجال الطاقة، من حيث الاتفاق على التعاون فى توليد تركيا للكهرباء بالصومال، والتعاون للبحث عن احتمال استخراج النفط والغاز بالصومال، وهو حلم صومالى للخروج من دائرة الفقر الحالية والانضمام للدول البترولية، ومصلحة لتركيا الباحثة عن مصدر للطاقة يكون تحت سيطرتها ويلبى نموها. وباتت تركيا تتحدث عن ارتفاع التبادل التجارى للصومال من مليونى دولار عام 2002 إلى 363مليوناً عام 2021؛ أى بمعدل زيادة 180 مرة، وهو هدف تركى قديم.
وهذا يؤكد أن تركيا استطاعت وضع قدميها بالصومال؛ تجارياً، واقتصادياً، وعسكرياً، وسياسياً؛ من خلال سياسة تتوسع تدريجياً، وتتكيف مع الواقع الصومالى والإقليمى الذى يفيد المصالح التركية.