الأزمة السورية بين قِمَّتَي جدَّة وهيروشيما
تحليل: د. طه علي أحمد .. اجتمع قادةُ مجموعةِ “دول السبع” G7 في مدينةِ هيروشيما اليابانية، في الفترة 19-21 مايو الجاري، برئاسة اليابان، حيث تمت مناقشةُ مجموعةٍ واسعةٍ من قضايا السياسة والاقتصاد والأمنِ وتغير المناخ والطاقة والنوع الاجتماعي Gender وغيرها. وكما هو مُتَوَقَّع، صَدَرَ البيانُ الختامي للقمةِ مُتَضَمِّناً إدانةً وتشديداً للعقوبات على روسيا بما يضمن فَرْضَ المزيد من القيود على أيةِ صادرات إلى روسيا بما يهدف لإضعاف موقف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في الحرب الجارية على أراضي أوكرانيا منذ فبراير 2022 بأوكرانيا. كما اتسم البيان بلهجةٍ أكثرَ صرامةً تجاه الصين وتحذيرها مما يراه القادةُ المشاركون تهديداً للأمن الاقتصادي. وقد تَضَمَّن البيان العناصر الرئيسة التي تتفق عليها دول “مجموعة السبع” فيما يتعلق بالتعامل مع بكين وفقا لتصريحاتٍ تلفزيونيةٍ لمُستَشارِ الأمنِ القومي الأمريكي جيك سوليفان.
من الطبيعي أن يتطرق البيان إلى القضايا والأزمات المُشتَعلة حول العالم، والمطالبة بإيجاد مخرجٍ سلميٍ وشاملٍ، وفقاً لتوافق رؤى ومصالح المشاركين في القمة، كالحربِ الأوكرانيةِ، والصراع المسلح الجاري في السودان، وقضايا المناخ والأمن الاقتصادي العالمي، وغيرها من التحديات الإقليمية في آسيا الوسطى وكوريا الشمالية، وإيران وأفريقيا. وبطبيعةِ الحال لم تَغِبْ القضيةُ السوريةُ في البيان. فقد جاء بالبندِ رقم 59 منه أن الدول السبع الكبار لا يزالوا ملتزمين بشدةٍ بعمليةٍ سياسية ٍ شاملةٍ تُيَسِّرها الأمم المتحدة ومُتَّسِقةً مع قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254 في سوريا، مع التأكيد على ألا ينبغي النظر في التطبيع والمساعدة في عملية إعادة بسوريا إلا مع وجود تقدمٍ حقيقيٍ ودائمٍ نحو الحل السياسي.
تزامن قمتين وتعارض عربي غربي
تزامن انعقاد قمةِ الدول السبع في اليابان مع انعقاد القمة الـ 32 لجامعة الدول العربية في السعودية، وهو ما يُسَلِّط الضوء على مخرجات القمتين بشأن الأزمة السورية؛ ففي حين أعاد بيانُ قمةِ السبع على تأكيدِ الموقفِ الغربي تجاه النظام السوري، يأتي رفع تجميد مقعد سوريا بالجامعة العربية ليعكس التحولات الإقليمية في الشرق الأوسط بشكلٍ عام، وليس العالم العربي فقط، تجاه النظام السوري. فجهود الرباعية (روسيا وإيران وتركيا وسوريا) تمضي نحو وضع خارطة طريق لتطبيع العلاقات بين دمشق وأنقرة، كما أنه وباستثناء التحفظ القطري والمغربي، انطوت كلمات غالبيةِ القادة العرب المشاركين في القمة على الترحيب بالرئيس السوري بشار الأسد، وتدشين مرحلةٍ جديدةٍ من التعامل العربي مع الأزمة السورية، إذ لا تعني عودة سوريا للجامعة استئناف العلاقات بينها وبين جميع الدول العربية، كما صرَّح الأمين العام للجامعة، أحمد أبو الغيط قبل يوم من انعقاد القمة. غير أن ذلك ينطوي على تعارضٍ مع الموقف الغربي المعارض بشدةٍ للتطبيع مع النظام السوري، فخلال زيارةٍ أجرتها وزيرةُ الخارجية الألمانية للسعودية قبل أيام (15-17 مايو)، حذَّرت المسؤولة الألمانية مما وصفته بـ “التطبيع غير المشروط” للعلاقات مع بشار، مشيرة أن العملية السياسية لحل الملف السوري لا تزال “بعيدة الأفق”. وهو ما يؤكده الاتحاد الأوروبي من خلال ما يُعرَف بـ “اللاءات الثلاثة” (لا للتطبيع، لا لإعادة الإعمار، لا لرفع العقوبات، طالما لم يشارك النظام بفاعلية في الحل السياسي). كما يتسق ذلك مع الموقف الأمريكي الذي يُعَبِّرُ عنه ما يعرف بـ “قانون قيصر” لمعاقبة النظام السوري، والذي صوَّتَ نواب مجلس النواب الأمريكي، في 28 فبراير الماضي، بأغلبية ساحقة (414 مقابل 2) على قرار يؤكد عليه بعد أيامٍ من الزلزال الذي تعرَّضت له سوريا في 6 فبراير.
ربما ينطوي ذلك على تعارض بين المواقف العربية والغربية في ظل المقاربة العربية الجديدة للأزمة السورية والتي لا تقتصر على المبادرات السياسية، (مثل المبادرة الأردنية التي أعلن عنها وزير الخارجية الأردني في 21 مارس الماضي، أو دعوة رئيس الوزراء اللبناني لخارطة طريق لحل أزمة اللاجئين السوريين)، إلا أنه ثمَّة مقاربة اقتصادية تسعى بعض الدول العربية لتبنيها، وكان نائب رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشعب السوري، عمار الأسد، قد ألمح إلى وجود اتفاقيات مُوَقَّعة على المستوى الثنائي بين سوريا ودولٍ عربيةٍ سوف يتم تفعيلها، وهو ما عبَّرت عنه صحيفة “وول ستريت جورنال” الأمريكية حينما نَقَلَت عن مسؤولين عرب وأوروبيين، في 15 مارس الماضي، بأن الدول العربية بقيادة الأردن اقترحت تقديم مليارات الدولارات للمساعدة في إعادة إعمار سوريا، التي قَدَّر البنك الدول تكاليفها في مارس الماضي عند 7.9 مليار دولار على مدار 3 سنوات، وتعهدها بالضغط على الولايات المتحدة والقوى الأوروبية، أو المطالبة برفع العقوبات عن الحكومة السورية في دمشق. وربما يكون ذلك من خلال ضخ استثمارات في المناطق التي لا تعاني مشكلات أمنية (مثل شمال وشرق سوريا، أو في حدود الساحل السوري والمنطقة الجنوبية). لكن في المقابل يتعين على الرئيس السوري أن يتعهد بحماية اللاجئين عند عودتهم، والمشاركة في مواجهة تهريب المخدرات ومنع إيران من التوسع في المنطقة، وفقاً للصحيفة الأمريكية. غير أن ذلك لا ينفي أن ملف إعادة إعمار سوريا به تعقيدات ضخمة نتيجة العقوبات، والتي يصر عليها الغرب، مع أطراف عربية مثل دولة قطر التي غادر أميرُها، الشيخ تميم بن حمد آل ثان، القمة قبل بدء كلمة بشار الأسد.
مقاربة الـ “خطوة مقابل خطوة”
ربما تَتَّسِق المقاربة العربية مع مقاربةِ “خطوة مقابل خطوة” التي يتحدث عنها المبعوث الأممي “غير بيدرسون”، والتي تجلَّت مَعالِمُها في مشاركة بشار الأسد بالقمة العربية مقابل اتخاذ خطوات من شأنها كسر جمود الأزمة السورية. لكن النظام السوري يبدو مُطالَباً من جانبه باتخاذ خطوات جادة بشأن عددٍ من الملفات المهمة مثل المعتقلين والمخطوفين، وضرورة توفير بيئة آمنة في حال عودة اللاجئين، وحقوق ملكية المنازل والأراضي والتوثيق المدني والخدمة العسكرية الالزامية. لكن، وبطبيعة الحال، قد تصطدم هذه المقاربة مع الولايات المتحدة والدول الغربية التي ترفض أي محاولة لما تعتبره “تعويم لنظام الأسد”، كما يرى بيدرسون.
تغير الواقع وحتمية تغيير قواعد اللعبة
منذ بدايةِ الأزمة السورية وحتى اليوم، جَرَت في أنهار السياسة الإقليمية والدولية أمواجٌ متلاطمة أسْفَرَت عن واقعٍ شديد التغير عما سبق، الأمر الذي بات يفرض على الجميع، إقليمياً ودولياً ضرورة تغيير المقاربات التقليدية لحل الأزمات بما يتوافق مع الواقع الراهن. فهناك العديد من المؤشرات الإقليمية والدولية التي يمكن أن توفر مناخاً لتغيير الكثير من القناعات والمواقف التقلدية سواء على مستوى الداخل السوري أو الإقليمي بالشرق الأوسط، أو حتى على المستوى العالمي. فبالنسبة للداخل السوري، لم تَعُد البلاد كما كانت عليه قبل 12 عاما، فهناك كيانٌ تأسَّس في شمال وشرق سوريا تحت إدارةٍ ذاتيةٍ لديها شبكة واسعة من العلاقات الدولية وإدارة اقتصادية وقدرات أمنية كبيرة، ورؤية اجتماعية، ويطالب بالحَلِّ الفيدرالي، وهناك نحو 5.6 مليون لاجئ سوري حول العالم، بالإضافة إلى 6.2 مليون نازح داخلي، فضلاً عن الأزمة الاقتصادية التي يعيشها السوريون في الداخل. وعلى المستوى الإقليمي، لا يخفى على أحد ما للتقارب السعودي الإيراني من تداعيات إقليمية تجلَّت في اليمن ولبنان وسوريا وغيرها، بالإضافة المتجذِّر في سوريا. أما على المستوى الدولي، فيقف العالم على أعتاب أزمةٍ خانقةٍ تُنْذِر بتغير بنية النظام العالمي، ليست الحرب الروسية الأوكرانية بأولها ولا آخرها.
وبالتالي، فمنذ انتقال الأزمة السورية من الإطار العربي عند بدايتها، حينما فشلت محاولة إرسال قوة عربية لحفظ السلام في سوريا في يناير 2012، إلى الإطار الدولي، وصدور قرار مجلس الأمن 2254، وحتى عودة سوريا إلى مقعدها بالجامعة العربية، فقد بات من المؤكد استحالة فاعلية الحل العسكري، وأن السُبُلِ السياسية والحوار بين الجميع – بلا استثناء – هي الأنسب لتجاوز الأزمة السورية. فالنظام السوري يبدو في حاجةٍ أشد من أي وقت مضى لخوض حوارٍ واسع وجاد يشمل كافة مكونات المجتمع والدولة السورية بما في ذلك الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا حفاظاً على استمرار انضواءها تحت الراية الوطنية لسوريا.
أما بالنسبة للبيئة الإقليمية والدولية، فقد أصبح لدول المنطقة هامشٌ أكبر للمناورةِ مع القوى الكبرى، وبخاصة مع بروز فاعلين دوليين يزاحمون الدول الغربية بالشرق الأوسط مثل روسيا والصين (تجلى ذلك في القمة الصينية العربية بالسعودية في ديسمبر 2022، فضلا عن الدور الروسي المتنامي بالمنطق)، وقبل ذلك الرفض السعودي لدعاوي واشنطن لرفع أسعار النفط والتزام الرياض بإطار “أوبك بلس” OPEC +، وتقاربها مع إيران على خلاف الرغبة الأمريكية، ورفض مصر طلب واشنطن بحظر الطيران الروسي، المتجه إلى سوريا، وأخيراً التوافق العربي على إعادة سوريا لجامعة الدول العربية. إن كل ذلك يعني إمكانية القيام بدور عربي أكثر فاعلية في الأزمة السورية وإعادتها للإطار الإقليمي، لا الأممي.
غاية القول، فإن تغيير الواقع، يدفع نحو تغيير قواعد اللعبة، رغم التشدد الغربي الذي أكده أخيراً بيان قمة مجموعة السبع في مدينة هيروشيما اليابانية.
*باحث في شؤون الشرق الأوسط وسياسات الهوية