دراسات

التنوع العرقي وأزمة الاندماج الوطني في إيران

تحليل د. طه علي أحمد .. تُمَثِّلُ إيران نموذجاً لدولةٍ تتربَّع فوق “قمةِ بركانٍ عرقيٍ” مُلتَهب، ولعل في مُقَاربةِ الواقعِ العِرقي المُتَنَوع والمُعَقَّد في المجتمع الإيراني مع “البُركَان” كظاهرةٍ طبيعيةٍ أقرب إلى الواقع. فرُغم قيام الدولةِ الإيرانيةِ على الأساسِ القومي الفارسي، إلا أن ما يُقَدَّر بنحو 49% من المجتمع الإيراني، تَرْجع أصُولُهم إلى قومياتٍ وأعراقٍ غير الفارسية، حيث تَشَكَّل المجتمعُ الإيراني من العديد من المكونات القوميةِ والعرقيةِ المتنوعة. فالآريون وصلوا إيران في منتصفِ الألفيةِ الثانيةِ قَبْل الميلاد، والعرب وصلوا في أواخر القرن السادس الميلادي، بينما وصل الأتراك في بدايةِ القرنِ التاسعِ الميلادي، وقد تعايش الجميع على مدار القرون.

أولا. واقع التنوع العرقي في إيران
مع تأسِيسِ الدولةِ الإيرانيةِ كغيرِها من دولِ الشرقِ الأوسطِ على أُسُسٍ واعتباراتٍ استعماريةٍ لم تراعي الطبيعةَ العرقيةَ لشعوبِ المنطقةِ التي انْشَطَرَت على جوانب الحدود الاستعمارية، وهو ما يفسر الفُسَيْفسَاء الذي يُشَكِّل التكوين القومي والعرقي لإيران. فهناك الأذريون الذين يسكنون منطقة أذربيجان، ويتكلمون لغةً مشتقةً من اللغةِ التركيةِ، ويتمتع الآذريون بثقلٍ اجتماعيٍ كبيرٍ، نظراً لأنهم يُشَكِّلُون نسبةً كبيرةً من سكان إيران (تتراوح بين 18-24%). وهناك الكرد، ثالث أكبر مكون عرقي بالبلاد، حيث تتراوح نسبتهم بين 7 – 9%، ويتركز وجودُهم في شمال غرب إيران حيث جبال “زاجروس” التي تمتد على الحدود مع تركيا والعراق، وأهم المدن التي يتركز فيها وجودهم هي (مهاباد، سقز، سنندج، كرمانشاه). أما العرب فيسكنون الأجزاء الجنوبية الغربية والسواحل المواجهةَ لسواحل الخليج العربي، في منطقة تبلغ مساحتها 159,600 كيلو متر مربع، وتُقَدَّرُ نِسْبَتُهم بنحو 4% من إجمال السكان. وهناك “البلوش” الذين يعيشون بالمناطق المحاذية للحدود الإيرانية الباكستانية الأفغانية، (تقدر مساحتها بـ 70 ألف ميل مربع)، وتقدر نسبتهم بما بين 2- 3% من إجمالي السكان، وهناك أيضا التركمان (نسبتهم 1.6-2%)، والبختيار (نحو 2%)، واللور (نسبتهم 2-4%) والأرمن (نحو 0.6%). رُغم ذلك، يَنْبُع وصفُ الحالةِ الإيرانية بـ “البركان المكتوم” من السياسات التي اتبعتها أنظمةُ الحكمِ المُتَعاقبة في إيران وتعاملها مع واقع هذا التكون العرقي المتنوع، والذي يمكن الإشارة إلى أهم خصائصه فيما يلي:

1) الارتباط بخريطةٍ قوميةٍ تتجَاوز حدود الدولة الإيرانية
نتيجةً للتقسيمِ الاستعماري لمنطقةِ الشرق الأوسط، والذي لم يراعي التماسك القومي بين الجماعات العرقية في هذه المنطقة، أضحت الدولة الإيرانية كغيرِها من دولِ المنطقةِ على واقعٍ عرقي مُتَعَدِّد، ولعل أشدَّ ما يزيد هذا التَعَدُّدِ تعقيداً أن ترتبط غالبية مكوناته بخرائطٍ قوميةٍ تتجاوز حدود الدولة الإيرانية. فالأذريون، وهم أكبر الجماعات العرقية في إيران، ورغم أنهم يتوحدون مع المذهب الرسمي للدولة (الشيعي الاثنى عشري) ولهم نفوذٌ واسعٌ في الحوزات الدينية والجيش والحرس الثوري، ويوجدون في كافةِ الوظائف العامة المهمة، رغم ذلك، إلا أن لديهم إحساسٌ قوميٌ قويٌ، ورغبةً في الانفصال عن إيران والاتحاد مع “أذربيجان الأم” وذلك في إطار ما يُعرَف بـ “أذربيجان الكبرى”. وكانت جمهورية أذربيجان قد نشرت في عام 2002 خريطة أذربيجان الكبرى والتي ضَمَّت جمهورية أذربيجان والمحافظات الأذرية في إيران ومناطق أخرى شمالي إيران (جنوب بحر قزوين)، وقد احتجت طهران على ذلك رسمياً في حينها عن طريق سفيرها في باكو عاصمة أذربيجان. كما تأسَّسَت في عام 1995 “حركة الصحوة الوطنية لأذربيجان الجنوبية” بغرض ما تسميه “التحرر من الشوفينية الفارسية”، والاستقلال عن سيطرة الحكومة المركزية في طهران، لذلك تواجه الحركة معارضة قوية من السلطات الإيرانية وملاحقة لمسؤوليها.

أما الكرد، فيرتبطون بإطارٍ أكبر من كردِ الشرق الأوسط تحت لواء “كردستان الكبرى” والتي تنقسم بين كلٍ من سوريا (كردستان الغربية) والعراق (كردستان الجنوبية) وإيران (شرق كردستان) وتركيا (شمال كردستان). كما تتداخل عشائر الكرد الإيرانيين مع عشائر الكرد العراقيين (مثل عشيرة البشدرين وعشائر الجاف، وبجاسة، وبلباس، وغيرها). وفي 2004، قامت “جبهة كرد المتحدة” في إيران بمظاهرات تأييد لحصول كرد العراق على حقوقهم. كذلك يرتبط البلوش بتجمعٍ قبليٍ يمتد بين الحدود الإيرانية والباكستانية والأفغانية. بجانب ذلك، يرتبط “حزب الحياة الحرة” الكردستاني في إيران بالإطار الفكري لـ “منظومة المجتمع الكردستاني، التي تقوم على أساس أفكار عبد الله أوجلان المعنية بسبل الحل الديمقراطي لإدارة أزمات التنوع العرقي وأزمة الاندماج الوطني في دول المنطقة.

كما يرتبط البلوش أيضاً بإطار يتجاوز الحدود الإيرانية، ففي فترة السبعينات نشأت حركةٌ تطالب بـ “بلوشستان الكبرى” مما دفع الدول الثلاث للتعاون في إخماد ثورة اندلعت في باكستان عام 1972. أما العرب، فنتيجة للأهمية الاستراتيجية للمناطق التي يتركزون فيها (عربستان)، فإنهم يسعون لتشكيل جِسْرٍ يربط إيران بالعالم العربي، ونتيجة لأهميته الاقتصادية والجغرافية، فقد تحول هذا الإقليم إلى ورقة ضغطٍ على الحكومة في طهران بما انعكس على قيام الأخيرة بالكثير من الممارسات القمعية ضد العرب الإيرانيين.

2) تاريخ ثورية ومطالب انفصالية
نتيجةً للممارساتِ القمعيةِ التي دَأَبَت عليها السُلطات الحاكمةُ في إيران، لم يُمَثِّلَ خيارُ الوحدةِ والانضواءِ في إطارِ الدولةِ الإيرانيةِ الأُم الخيارَ الأمْثَل بالنسبةِ لغالبيةِ المكوناتِ العرقيةِ في إيران. وقد اِنْعَكَسَ ذلك على الكثيرِ من الثوراتِ والانتفاضات التي قام بها أبناءُ هذه العِرقيات. ففي عام 1945 قام الأذريون بتشكيل ما عُرِفَ بـ “حكومةِ أذربيجان” بزعامة جعفر بيشوري. وفي الفترة 1925 قام كرد إيران بثورةٍ مسلحةٍ بقيادة أحد شيوخِ العشائر يُدْعَى اسماعيل أغاسيمكو، وطالب باستقلال كردستان إلا أن السلطات المركزية تَمَكَّنَت من قمعه. وفي 1945 أيضاً، تأسَّسَ أقدم حزب كردي في إيران، وهو الحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني على يد “قاضي محمد” في مدينة مهاباد، حيث طالب بالديمقراطية والفيدرالية في إيران. وفي عام 1946 أعلن قاضي محمد عن قيام جمهورية كوردستان في مهاباد على أساسِ الحُكْمِ الذاتي ضِمْن الدولةِ الإيرانية، واعتبار اللُّغة الكردية لغةَ التعليم ولغةً رسميةً في البلاد، والاستفادة من الرسوم والضرائب التي تجمعها السُّلْطَةُ المركزيةُ من كردستان إيران، لكن القوات الإيرانية تمَكَّنت من القضاء عليها بعد 11 شهر، وتم إعدام قاضي محمد وزملاءه في مارس 1947. وقد تعدَّدَت موجات التظاهر بالمدن الكُردية (في أعوام 1999، 2005، 2010، 2018، 2022).

كما شهد إقليمُ عربستان العديد من الثورات والانتفاضات بدايةً من الانتفاضة التي تزعمها الشيخ عبد الله بن الشيخ خزعل في 22 يوليو 1925، وثورة الحويزة (1928)، وانتفاضة حيدر بن طلال (1930)، وثورة بني طرف (1936)، وثورة عشيرة كعب الدبيس (1940)، وانتفاضة جاسب بن الشيخ خزعل (1943)، ومعركة الشيخ عبد الله بن الشيخ خَزْعَل (1944)، وثورة بني طرف (1945)، وثورة الشيخ مذخور الكعبي (1946)، وثورة عشير النصار (1946)، وانتفاضة الشيخ يونس العاصي (1949)، ثم تَشَكَّلت جبهةُ تحرير عربستان في 1956، حيث تَبَنَّت العمل المسلح وطالبت برفع الظلم عنهم من قبل نظام الشاه وتحرير أقاليمهم من سيطرة السلطة المركزية. لكن أشهر هذه الانتفاضات التي وقعت في 15 أبريل 2005 حيث شاركت فيها كافة القوى العربية في الإقليم، وقد طالبت جميعها بالحكم الذاتي لـ “عربستان”.

3) الارتباط بأحزاب سياسية وتنظيمات مسلحة
نتيجةً للتاريخ الطويل من العلاقات المُضْطربةِ بين النُظم الحاكمة في إيران والمكونات العرقية التي كانت تطالب بحقوقها، أو بالحفاظ على هوياتها الثقافية، لجأت هذه المكونات إلى تأسيس أحزابٍ سياسيةٍ تتبنى مطالب وقضاياها هوياتية أو تنظيمات مسلحة لمواجهة السلطات المركزية. ففي عام 2002 تأسَّسَت جماعة “جند الله” على يد شخصٍ يدعى عبد المالك ريجي، ضد السلطات المركزية، وكان من بينها محاولة اغتيال الرئيس الإيراني في عام 2005، كما وقعت اشتباكات مسلحة بين الحرس الثوري والجماعة في عام 2006، وبعد إعدام زعيم حركة جند الله شنقاً، في 20 يونيو 2010، قام رفقاؤه بتأسيس حركة “جيش العدل المسلحة”، وقد رفع مؤسسوها راية “الدفاع عن أهل السنة” و”إضعاف الآلة العسكرية الإيرانية في بلوشستان” و”إرجاع حقوق البلوش المسلوبة من ملالي طهران”. وقد قامت الحركة بالعديد من العمليات المسلحة فاختطفو 5 جنود حرس حدود إيرانيين 9 فبراير 2013، وأسقطوا طائرة هيلكوبتر تابعة لحرس الحدود في 26 نوفمبر 2013، وقتلوا 20 جندي في 25 أكتوبر 2013 وغيرها من العمليات. كما تأسَّسَت حركة “جيش النصر البلوشي” في عام 2014، وقام بمواجهات عسكرية ضد السلطات الحكومية. كما أسَّسِ البلوش أحزاباً سياسية مثل “حزب الشعب البلوشي”، و”الحركة الوطنية لبلوشستان إيران”، و”الجبهة المتحدة لبلوشستان”.

أما على الجانب الكردي، فقد تأسَّسَت تنظيمات سياسية من الحزب الديمقراطي الكردستاني، وكذلك منظمة كادحي الشعب الكردي ذات التوجهات اليسارية والقومية بقيادة عبد الله مهتدي، وحزب الحياة الحرة (بيجاك) (وهو حزب كردي يحمل أفكار عبد الله أوجلان، وينشط في المناطق الشمالية من كردستان إيران، وينفذ عمليات عسكرية ضد القوات الأمنية في كردستان إيران الذي شهد قتالاً دامياً بين الحكومة الإيرانية والكرد. وهناك أيضا جبهة كرد المتحدة (جبهة متحد كرد) في كردستان إيران التي تناضل من أجل حقوق الكرد بإيران وقد تأسَّسَت في عهد الرئيس الأسبق أحمدي نِجَاد.

ثانيا. الدولة الإيرانية وإدارة التنوع العرقي
قامت السياسةُ التي انتهجتها الدولةُ الإيرانيةُ، سواءً منذُ عَهْدِ الدولةِ الصفويةِ (1501 – 1736) أو حقبةِ الدولةِ البهلويةِ (1925 – 1979)، على صَهرِ القوميات الإيرانية في بوتقةِ القوميةِ الفارسية؛ ففي إطار مساعيه لتوحيد إيران والسيطرة عليها، حاول الشاه “رضا بهلوي” (1919- 1980) ان يختزل عدداً كبيراً من السكان بتنوعاتهم العديدة في نطاقٍ ثقافيٍ ضيقٍ من خلال المؤسسةِ العسكريةِ والجهازِ البيروقراطي ومؤسسة النظام الملكي، وذلك من خلال منهجٍ فوقيٍ (سلطوي) لبناء القومية بما يتعارض مع التصورات التحتية للهوية. ولم يتغير ذلك، مع الثورةِ الإيرانيةِ في 1979، والتي أطاحت بنظامِ حُكْمِ الشاه، فقد حافظ النظامُ الثوري، على تكريسِ وضعيةِ التَشَيُّعِ كركنٍ رئيسٍ لهويةِ الدولة، مما أسْفَرَ عن وقوع الكثير من المصادمات العنيفةِ بين السلطات الإيرانية والأقليات المختلفة التي طالبت بإعادة النظر في الهوية ِالإيرانية. غير أن الشكلَ العامَ لواقعِ التنوع العرقي وإدارته في إيران قد تَمَيَّزَ بوجود فجوةٍ بين النصوص الدستورية وممارسات الدولة المُنَاقضة لهذه النصوص، فضلا عن وجود مدركاتٍ عنصريةٍ تجاه مكونات هذا التنوع من جانب النخب الفارسية، وهو ما يمكن الإشارة إليه فيما يلي:

1) فجوةٌ بين التشريعات والممارسات
تمَيَّزَت إدارةُ التنوعِ العرقي في إيران بوجودِ فجوةٍ واضحةٍ بين النصوص التشريعيةِ والممارسات تجاه المكوناتِ العرقيةِ ورغبَتِها في الحفاظِ على هوياتها الثقافية في إطارِ دولةٍ مركزية. فَرُغم أن المادةَ (15) تَنُصُّ على “أن اللغةَ والكتابةَ الرسميةَ والمشتركةَ هي اللغةُ الفارسيةُ لشعبِ إيران، فيجب أن تكون الوثائق والمراسلات والنصوص الرسمية والكتب الدراسية بهذه اللغة والكتابة، ولكن يَجِب استعمالُ اللغات الأخرى المحلية والقومية في مجالِ الصحافةِ والإعلام وتدريس أدابها في المدارس إلى جنب اللغة الفارسية”، كما تَنُصُّ المادةُ (16) على “إن اللغةَ العربيةَ بما أنها لغة القرآن الكريم والعلوم الإسلامية، وإن الأدب الفارسي مُمْتَزِجَ بها بشكلٍ كامل، لذا يجب أن تُدَرَّس هذه اللُّغَة بعد المرحلةِ الابتدائيةِ حتى نهايةَ المرحلةِ الثانويةِ في جميع الصفوف والاختصاصات الدراسية”، وكما تَنُصُّ المادةُ (19) “يتَمَتَّع جميعُ أفراد الشعبِ الإيراني من أيةِ قوميةٍ أو قبيلةٍ كانوا بالمساواةِ في الحقوق، ولا يُعتَبر اللَّون أو العُنصر أو اللغة أو ما شابه ذلك سَبَباً للتفاضل”.

رُغْمَ ذلك، إلا أن واقع الممارسة يكشف عن خلاف ما نَصَّت عليه المواد الدستورية السابقة، سواءً بعد الثورةِ الإيرانيةِ في عام 1979، أو قبلها، فَكَمَا حَظَرَ الشاه رضا بهلوي الكتابةَ باللغةِ غير الفارسية في دواوين الحكومة ومدارسها، قامتُ السلطات الإيرانية بعد الثورة، وبخلاف النصوص الدستورية السابقة بمواصلة نفس النهجِ الإقصائي، حيث رفضت الأحزاب الكُردية في الدستور الإيراني، رُغم فرض القومية الفارسية دستوريا، كما يَمْنَع النظامُ الإيراني مشاركةَ الكرد في الحياةِ السياسيةِ بشكلٍ مُسْتَقل، حتى وإن لم تطالب بإقامة نظام فيدرالي مثل حزب الكوملة والحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني، كما يُمنَع الكرد من تسجيل مواليدهم بأسماءٍ كردية. بجانب ذلك، يُحظر استخدام اللغات غير الفارسية، بما فيها الكُردية، والأذرية والعربية وغيرها. ففي اكتوبر 2022، وعلى خلفية احتجاجات الكرد ضد السلطات الحكومية وقمع الأخيرة لهم في مدينة سنندج، أرسلت الأمم المتحدة بعثةً لِتَقَصِّي الحقائق حول استخدام قوات الأمن للقوة المفرطة ضد المتظاهرين، وقد خلص تقرير البعثة الأممية إلى وجود العديد من الانتهاكات التي مارستها القوات الحكومية بما يتجاوز القوانين الدولية لحقوق الإنسان. والحال نفسه بالنسبةِ للبلوش الذين يواجهون قدراً من القَمْعِ بِحَقِ ممارسة طقوسِهِم وتقاليدهم الثقافية، وذلك رغم كُثْرَتِهم العددية (نحو 30% من السكان)، ووجود الكثير من موظفي الدولة من بينهم، حيث ترفض السلطات الإيرانية تعليم اللُّغَةِ البلوشية في المدارس. وفي إقليم الأحواز تتعدد انتهاكات السلطات الإيرانية بحق العرب والتي أبرزها مصادرة الأراضي، واستقدام الكثير من عناصر الميليشيات الموالية لإيران في العراق لقمع انتفاضات العرب المتكررة في المنطقة ذات الأهمية الاقتصادية الأكبر في إيران (وإما بحكم الموقع الاستراتيجي، أو وجود البترول والغاز الطبيعي، والموارد الطبيعية). كما تُشِير العديدُ من المصادر أن الحكومةَ الإيرانيةَ تَنْتَهِجُ سياسةَ تغيير البنيةِ الديمغرافية (العربية) في الإقليم بهدف تقليص نسبة العرب من 70% إلى 30%. وردا على ذلك، انتفض عرب الأحواز، في 15 أبريل 2005، ضد ما عُرِفَ بـ “وثيقة أبطحي”، معاون الرئيس الأسبق محمد خاتمي، التي كانت تهدف لإحداث تغيير في النسيج السكاني للعرب في الأحواز.

2) مُدْرِكاتٍ عنصريةٍ لدى النُخَبِ الحاكمة
تنطلق مُدركات النخبةُ الفارسية في إيران من نظريةِ “التَعَصُّبِ القومي والثقافي الفارسي”، أو ما يُعرَف بـ “نظرية العرق الآري”، والتي تقوم على اعتبار أن الأراضي الإيرانية من إبداعات الآريين دون سواهم، بالإضافة إلى التأكيد على وحدة الدم والعرق. وعلى هذا الأساس، قابلت النُخَب الإيرانية أية مطالب بالحقوق الثقافية بالقمع واسع النطاق، سواء ضد عرب الأحواز، أو التركمان والأذريين في مناطق تركزهم، أو الكرد في غرب إيران، وقد تعزَّزَت تلك الرؤى بفتوى أصدرها الخميني بإجازة ذلك القمع باعتباره “جهادا” من جانب الدولة الإيرانية. فالكرد على سبيل المثال، وفقاً لفتوى الخميني، يعتبرون “كفاراً”.

وقد ترتب على ذلك تصدي القوات الإيرانية المُسَلَّحة لأيةِ مطالبٍ ثقافيةٍ للكرد، وقمع كافةِ الانتفاضات التي قاموا بها خلال الفترة (1979-1988)، كما نَفَّذَت عناصر الاستخبارات الإيرانية عددً من عمليات الاغتيال بحقِّ قادة كرد، مثل عبد الرحمن قاسملو، زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني في السويد في يوليو 1989، ثم اغتيال خلفه محمد صادق شرف كندي في برلين عام 1991. وفي سبتمبر 2018، شن الحرس الثوري الإيراني هجوماً صاروخيا عبر الحدود على الحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني في مدينة كويه، وفي 10 أكتوبر 2022، أطلقت قوات الأمن النار على منازل في مدينة سنندج الكردية، وفي 28 سبتمبر 2022 قام الحرس الثوري بقصف صاروخي واستخدم طائرات مسيرة لأهداف عسكرية في المنطقة الكردية شمال العراق، مما أسفر عن 14 قتيلا وإصابة 58 مصاباً. وفي الأحواز، وصف الرئيس الإيراني الأسبق هاشمي رفسنجاني، في مايو 1985، قبائل الأحواز بأنها مجاميع من (الغَجَر)، وقد استُخْدِمَت مِثْل هذه العِبَارات من مسؤولين إيرانيين بحق الأذريين والبلوش والكرد وغيرهم. ورُغم قيام الرئيس حسن روحاني بتعيين مساعدٍ له لشؤون “القوميات والأقليات”، هو وزير الاستخبارات السابق على يونسي، إلا أن يونسي نفسه لا يعترف بالتنوع القومي، بل تُنْسَب له مواقف مناهضة لأبناء القوميات غير الفارسية، كما ينسب له تصريحا صحافيا في 21 أبريل 2018 انه يعارض تشكيل أحزاب في الأقاليم غير الفارسية معتبراً أن ذلك “ليس في مصلحة النظام”.

الخلاصة
في ضوءِ ما سَبَقْ، تَتَجَذَّرُ أزمةُ الاندماجِ الوطني في عُمْقِ بُنيةِ الدولةِ الإيرانية؛ فمع تَعَدُّدِ الأعراق المُكَونة للمجتمع الإيراني، تراوَحَ خطابُ الهوية تاريخياً بين النَّمَطِ الديني والقومية، مِمَّا أدَّى إلى توتُّرٍ في فَهْم الإيرانيين لذاتهم، كما نشأ خطابٌ هوياتي مُتَعَدِّد المستويات، ما بين الخِطَاب السُلْطَوي القائم على “تَفْرِيس” المجتمع، والخطابات الفَرْعية المُدَافعة عن الخصوصيات الثقافية للمكونات العرقية (الأذريين والكرد والعرب والبلوش وغيرهم)، وقد انعكست هذه الازدواجية على الصِدَامات المُتَكَرِّرة بين السُلْطة والتنوعات العرقية بما أثَّرَ على استقرار الدولة الإيرانية على الدوام.

أخيراً، فبالنظر إلى خصائص واقع التنوع العرقي في إيران كالارتباط بخرائطٍ ومُخَطَّطاتٍ قوميةٍ عابرةٍ للحدود الإيرانية، والتاريخِ الثوري والمطالبِ الانفصالية، فضلا عن تَمَتُّعِ مناطق تَرَكُّزِ المكونات العِرقيةِ بأهميةٍ اقتصاديةٍ (أكثر من 80% من النفط الإيراني في عربستان) أو الأهمية الجغرافية مثل وقوعها على مناطقٍ حدوديةٍ، وفي ضوءِ الخبرةِ التاريخيةِ السلبيةِ لإدارةِ التنوع التي قامت على هَيْمَنَةِ المُكون الفارسي، والتي اتَّسَمَت بوجود فجوةٍ بين التشريعات والممارسات فضلا عن المدركات العنصرية لدى النُخَب الفارسية، وبالطبع لا يمكن تجاهل العامل الخارجي (الرأسمالية العالمية)، إن امتزاج كل ما سبق مع الخِبرات السَّلْبية لإدارة التنوع، يَجْعَل الدولةَ الإيرانية على “قِمَّةِ بُرْكَانٍ عِرْقِي” قابلٍ للاِشْتِعَال ما لم تُدْرِك السُلطةُ الحاكمةُ خطورةُ ذلك، وهو ما لا يُتوقع حدوثة في ظِلِّ المُعْطَياتِ السَابِقة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى