مستقبل فاجنر بعد مصرع قائدها
تحليل د. نبيل رشوان ..
مما لا شك فيه أن مصرع بريجوجين رئيس مجموعة “فاجنر” العسكرية سيلقى بظلاله على الحياة السياسية فى روسيا لفترة طويلة قادمة سواء بمحاولة تفسيره أو بالسعى لإيجاد يسد ثغرة ودور كانت تقوم به “فاجنر” سواء فى أوكرانيا أو سوريا أو فى بعض الدول الأفريقية، وربما ليس من قبيل الصدفة أن يأتى مصرع السيد بريجوجين ليلة عيد الاستقلال فى أوكرانيا وفى نفس الوقت الذى أقام فيه الرئيس بوتين احتفالاً مهيباً بذكرى تحرير كورسك وبيلجورود، بل أن طائرة بريجوجين كانت تسقط بينما كان الرئيس بوتين فى طريقه لموسكو بعد الاحتفال، والوقوف دقيقة حداد لكن لا أحد يدرى ما إذا كان هذا على الضحايا من الجنود السوفيت فى الحرب العالمية الثانية أم على الصديق برجوجين، ربما من الصدفة أن يكون مصرع السيد بريجوجين جزء من هذا الاحتفال المهيب.
بعد تمرد رئيس فاجنر فى 24 يونيو الماضى، ووصف الرئيس بوتين له بالخيانة وأنه وجه طعنة فى الظهر للجيش الروسى، وفق الخبراء والعارفين للرئيس بوتين لم يكن الأمر ليمر بالنسبة للرئيس الروسى مرور الكرام لدرجة أن الرئيس بايدن ومستشاره للأمن القومى حذروا السيد بريجوجين من مغبه اغتياله بالسم وطالبوه بتعيين من يذوق له الطعام قبل تناوله، لكن بعد توسط رئيس بيلاروسيا لوكاشينكو وعفو الرئيس بوتين عن السيد بريجوجين ورجاله وذهابهم للتمركز فى بيلاروسيا، وبدا الأمر وكأن الأمور تسير فى اتجاه المصالحة، خاصة بعد اجتماع الرئيس بوتين بقيادات “فاجنر” فى الكرملين وإعلان رئيس فاجنر أنه قام بالتمرد بسبب حالته النفسية التى كان يمر بها، وهو ما اعتبره البعض اعتذار ضمنى للرئيس بوتين وأن الخلاف انتهى.
بعد ذلك اطمأن رئيس فاجنر وكان يتنقل بحرية فى ربوع البلاد، وحتى قبيل مصرعه كان قادماً من مالى فى القارة الأفريقية حيث توجد بعض عناصر “فاجنر” وأنه عاد إلى موسكو عن طريق التزود بالوقود فى سوريا، وأثناء مصرعه كان فى طريقه إلى مسقط رأسه من موسكو إلى فى سان بطرسبورج، ومن مالى أدلى بحديث مسجل على شريط فيديو قال فيه “إنه سيسعى لاستعادة مجد الإمبراطورية الروسية وأنه سيحارب القاعدة وتنظيم الدولة فى أفريقيا وهو بذلك ربما كان يطمئن زبائنه فى أفريقيا لأن العمليات الإرهابية فى دول الساحل تأتى من هذين التنظيمين، ويطمئن القيادة الروسية أنه مازال على الطريق لتحقيق الهدف الذى أنشئت من أجله فاجنر، ولكسب ود القيادة الروسية التى تتجه بقوة لأفريقيا بغية الحصول على النفوذ ونصيبها من كعكة الثروات الأفريقية، حيث سبقت الصين الجميع فى أخذ النصيب الأكبر منها.
السؤال الآن فى صالح من سيصب مصرع بريجوجين، هل هو فى صالح أوكرانيا، نعم لأوكرانيا مصلحة فى اختفاء بريجوجين لأنه تعتبره من مجرمى الحرب، ولكنها فى نفس الوقت تحدثت عنه باعتباره أحد الذين كشفوا عن الأسباب الحقيقية للعملية العسكرية الروسية فى حالة غضب حيث قال إن العملية تمت لصالح الاليجاركية الروسية والقيادات العسكرية وأن الهدف منها كان إسقاط النظام فى كييف وتعيين رئيس موال لروسيا، كما أنه بخلافه مع وزير الدفاع الروسى ورئيس أركانه أحدث انشقاق فى القيادة الروسية راح ضحيتها بطل حرب سوريا سيرجى سورافيكين، سعى بريجوجين للتقرب من الرئيس بوتين لدرجة أنه ألمح إلى كونه من الممكن أن يتفاهم مع الجانب الأوكرانى فى باخموت المكان الذى كانت تقاتل فيه قوات “فاجنر”، غير أن الرئيس بوتين لم يستغن عن وزير الدفاع ورئيس الأركان كما كان بريجوجين يرغب، مما أصابه بخيبة أمل وأقدم على التمرد فى 24 يونيو. ومن بين المستفيدين من اختفاء رئيس فاجنر وزير الدفاع الروسى سيرجى شويجو رئيس الأركان فاليرى جيراسيموف لأن السيد بريجوجين كان يلتقط الضباط الذين يخرجون من الخدمة وعن طريق الإغراء برواتب عالية كان يجندهم فى “فاجنر”، بالإضافة إلى أن عدد كبير من ضباط الرتب العالية فى الجيش الروسى وأثناء وجودهم فى الخدمة كانوا يعملون أو موالون “لفاجنر” بوصفهم “أعضاء شرفيين فى فاجنر” وهو ما كان يهدد بإحداث انقسام داخل القيادة العسكرية الروسية، وكان يثير حقد وحنق وزير الدفاع شويجو على بريجوجين.
فيما يتعلق بمصلحة الرئيس بوتين فى اختفاء بريجوجين، فهو بلا شك صاحب مصلحة، حيث سبب له أكبر إحراج سياسى تعرض له الرئيس الروسى منذ توليه السلطة وهز صورته كقائد حازم ومسيطر على الأوضاع بدرجة كبيرة ومسألة أن الرئيس بوتين لن يغفر له هذا التصرف تحت أى ظرف وأن مسألة عقاب بريجوجين وقت لم يشكك فيها أحد، فقد تسبب له فى الإحراج أمام مواطنيه وأمام العالم، كما أن الرئيس الروسى ربما أراد توجيه رسالة شديدة اللهجة للنخب الروسية التى قد تفكر فى المستقبل الخروج عن الخط المرسوم وأن تعتقد أن لها حظوة عند الرئيس فتتصرف بطريقة فيها نوع من الخروج عن النص، فهاهو الشخص الذى كان يلقب “بطباخ الرئيس” لم يفلت من العقاب، وحتى رفيقه دميترى أوتكين الحاصل على لقب بطل روسيا والضابط السابق فى القوات لقى مصرعه معه.
ما مصير فاجنر إذاً بعد هذه الأحداث الدراماتيكية، هل انتهت، البعض يقول نعم، لكن فى الواقع فاجنر هى شركة كأى شركة بعد وفاة صاحبها قد تستمر فى العمل أو لا تستمر وذلك حسب من سيديرها بعد صاحبها ومؤسسها وإن كان هنا يوجد دور للدولة فهى كما قال الرئيس بوتين ممولة من ميزانية وزارة الدفاع الروسية، بالإضافة إلى أوال بريجوجين التى يحصل عليها من مكاسب تعاقدات تمنحها له الحكومة الروسية، وأنه أسس فاجنر بالاتفاق مع المخابرات الحربية الروسية، وكانت الخطة عند التأسيس كالآتى سنعطيك عقود توريد أغذية للمدارس والجيش ومن هذه المكاسب ستقوم بتمويل الشركة والقوات الخاصة بها، هذا بالطبع بخلاف أن السلاح والذخيرة والتدريب ستقوم به عناصر من المخابرات الحربية الروسية سواء المتقاعدة أو العاملة وربما هى التى تحدد المهام التى ستقوم بها فاجنر حتى الآن فى أفريقيا، هذا كان الهدف من تأسيس فاجنر، فهل ستستمر بقيادة أخرى جائز، أم أن الرئيس بوتين ربما تعلم الدرس وأن إنشاء تنظيمات مسلحة خارج الإطار الرسمى وهو الجيش الروسى والأجهزة السيادية التابعة للدولة التى تحت سيطرتها أمر خطير، حيث كان من الممكن أن تنزلق البلاد لحرب أهلية أثناء تمرد “فاجنر” فى يونيو الماضى، هذا ما ستجيب عنه الأيام القادمة.
هناك احتمال دمج فاجنر فى الجيش الروسى، كما كان يريد وزير الدفاع ورئيس أركانه والرئيس بوتين نفسه، أو أن تبقى شركة تابعة للدولة على غرار مع حدث مع شركة نفط الملياردير خودوركوفسكى الذى سجن لعشر سنوات وخرج بعد أن تمت تصفية شركة النفط الخاصة به “يوكوس” وضمها لشركة “روس نفط الحكومية” لكن فى اعتقادى أنه بسبب دور فاجنر فى أفريقيا ستستمر فهى بلا شك جعلت لروسيا نفوذ خاصة فى منطقة الساحل الأفريقية حيث هزمت فرنسا وطردت شر طردة، والمهم الآن هو الاستمرار فى القارة الأفريقية، لكن فاجنر قد تكون عنصر مثير للمتاعب للتنين الصينى المهيمن فى القارة من خلال مساهماته مشروعات البنية التحتية الأفريقية، خاصة عندما تحدث بريجوجين عن حربه على التنظيمات الإرهابية (القاعدة وتنظيم الدولة) ومحاولات إدخال العنصر الدينى فى العملية الاقتصادية الهدف الرئيسى لدخول فاجنر لأفريقيا، وقد تنقلب الأمور إلى حرب بين القاعدة وفاجنر أو الأخيرة وبوكو حرام هنا بلا شك سيكون الخاسر الأكبر هى شعوب أفريقيا، ولا يجب أن ينسى مخططو السياسة الروسية أن عدوهم فى الغرب هو أفضل من يلعب بورقة الدين ولهم تجربة معه فى أفغانستان. وهنا ربما يكون التخلص من بريجوجين كان حتى لا يحدث صدام مع الصين الحليف الأهم لروسيا فى أفريقيا.
وهناك احتمال أخير وهو، البعض يقول إن الرئيس بوتين فكك فاجنر بالفعل عندما رفضت المجموعة الإندماج فى الجيش مثل قوات “أحمد” الشيشانية، وأن عملية التخلص من بريجوجين هى مسك الختام بالإطاحة برأس المجموعة، وتقول أنباء أن الكثير من قوات فاجنر قد استقالوا من عملهم كمرتزقة فى “فاجنر” بسبب انخفاض الأجور بعد الانتقال لبيلاروسيا، والبعض هرب إلى أفريقيا. على أى حال يجب فى البداية التأكد من مصرع بريجوجين، ومن ثم الحديث بدرجة أكثر تفصيلاً عن مصير فاجنر بل عن النفوذ الروسى فى أفريقيا ككل.