دراسات

حرب المصالح: تطور صراعات غاز شرق المتوسط

تحليل محمد سالم ..

تزايدت الأهمية الإستراتيجية لمنطقة شرق المتوسط، بعد الإعلان عن اكتشافات لكميات هائلة من الغاز الطبيعي بها، وقد أصبح التنافس سمة رئيسية على حقول الغاز، خاصًة مع توالي اكتشافات الغاز بالمنطقة في ظل عدم ترسيم الحدود البحرية تدخل حدود بعض الدول مع بعضها البعض، ومع ارتفاع قيمة الغاز بين مصادر الطاقة وزيادة الاعتماد عليه، وتوجه الاتحاد الأوروبي إلى وجهات أخرى غير “موسكو” لاستيراده، بعد العقوبات التي تم فرضها عليها مؤخرًا على أثر الحرب الروسية – الأوكرانية.

وفي السنوات الأخيرة تصاعدت حدة الصراع بين دول المنطقة، التي انقسمت إلى أطراف متنافسة، أهمها مصر والدول الأعضاء بمنتدى غاز شرق المتوسط، ومن جهة أخرى تركيا التي اتخذت أهدافًا وتصورات مستقبلية لتصدير الغاز إلى دول الاتحاد الأوروبي، واتخذت مسارات تعاونية مع إسرائيل وحكومة الوفاق الليبية لتحقيق أهدافها.

بناءً على ما سبق، يسعى هذا التحليل إلى دراسة مدى ثقل هذه الاكتشافات الهائلة من الطاقة بشرق المتوسط، واتجاه تفاعلات الأطراف المتنازعة بالصراع على الغاز بالمنطقة، إضافًة إلى بحث مسارات هذا التنافس أو التحالفات فيما بينهم، لمحاولة تصور مستقبل صراعات الغاز بالمنطقة.

ثروات ضخمة:
تزايد الاهتمام بمنطقة شرق المتوسط وباتت من المناطق الإستراتيجية في العالم، نتيجة تعدد الاكتشافات لكميات هائلة من الغاز الطبيعي، وهو من أهم مصادر الطاقة لكونه مصدرًا نظيفًا للطاقة، وكان أول ظهور لتلك الاحتياطات الضخمة بالكشف عن حقل “غزة مارين” في أواخر التسعينات، واكتشاف “تل أبيب” لحقل “تمار” عام 2009، ثم اكتشافها حقل “ليفاثان”، ومن ثم اكتشاف قبرص حقل “أفروديت” القبرصي في عام 2011، والاكتشاف الأكبر الذي اكتشفته مصر “حقل ظهر” عام 2015، الذي يعد أكبر اكتشافات الغاز في العالم خلال السنوات الأخيرة.

وقد قدرت هيئة المسح الجيولوجي الأمريكية “US Geological Survey” في تقرير أعدته عام 2010، أن منطقة شرق المتوسط تحتوي على نحو 122 تريليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي، وقد أدت كل هذه المدخلات إلى رفع مستوى التنافس الإقليمي والصراع على الموارد الطبيعية المكتشفة، وبالتالي تهديد الاستقرار في منطقة شرق المتوسط، حيث ترتب على اكتشاف الاحتياطات الكثيفة من الغاز الطبيعي بالمنطقة تأجيج الصراعات والخلافات بين دول المنطقة، خاصًة في ظل تعقد التفاهمات ومعايير استغلال هذه الموارد المكتشفة وترسيم الحدود البحرية.

بالتالي، يجب العمل على إنعاش التعاون بين الدول المجاورة بالمنطقة، من أجل تحقيق الاستخدام الأمثل للموارد والثروات المكتشفة، فقد أدت النزاعات والصراعات على الغاز بشرق المتوسط إلى ضعف الاستغلال وهدر معظم تلك الاكتشافات الضخمة، الأمر الذي يؤكد ضرورة الاتجاه إلى التفاوض وسبل الدبلوماسية الرشيدة، بين الدول المتنازعة حدوديًا في شرق المتوسط، فهذه الموارد المكتشفة تمثل فرصًا هامة للمنطقة إذا تم العمل على تطويرها بحكمة، وقد يحقق الاكتفاء الذاتي بمجال الطاقة.

تطور الصراعات:
لم تتخذ دول المنطقة من هذه الاكتشافات فرصة للنهوض بالاقتصاد وفق خطوات تعاونية، بل إن الطابع الأمني ظل مسيطرًا على التفاعلات فيما بينهم، لسعي كل طرف من الأطراف الفاعلة إلى السيطرة على أكبر قدر من الموارد والثروات المكتشفة، خاصًة إسرائيل التي تميل إلى سياسات الهيمنة بشكل مستمر، وتمثل العائق الرئيسي أمام إمكانية التوصل إلى تعاون متبادل بين دول المنطقة، مما قد يطور من جدوى الاحتياطات الهائلة من الغاز الطبيعي، ويساعد على استغلال تلك الموارد بالشكل الأمثل.

على هذا الأساس تعددت الصراعات على الغاز في شرق المتوسط، على سبيل المثال:
(1) الصراع القائم بين إسرائيل ولبنان: على الرغم من توقيع اتفاق ترسيم الحدود بعد محادثات امتدت لفترات طويلة بين “بيروت” و “تل أبيب”، لازالت سياسات الأمر الواقع هي ما تسعى الأخيرة إلى فرضها بالمنطقة، فقبل توقيع الاتفاق اعتزمت ضخ الغاز من حقل “كاريش” – محل الخلاف بينها وبين الجانب اللبناني – وقد هدد زعيم حزب الله “حسن نصر الله” مرارًا باستهداف منصة الغاز، إذا باشرت إسرائيل ضخ الغاز منه، الأمر الذي أنذر بسيناريو المواجهة العسكرية بين البلدين، ولم ينتهي التوتر بين الطرفين حتى اليوم، وقد أكد “نصر الله” أن شروع “تل أبيب” في التنقيب عن الغاز بالبحر الأحمر يعد بمثابة الخط الأحمر، ولكن لا يبدو أن الجانب الإسرائيلي يرى في هذا الملف ما يستحق بالفعل إشعال فتيل الحرب مع لبنان، ومواجهة تداعيات ذلك الأمر ومخاطر ما بات حزب الله يمتلكه من قدرات عسكرية، لكنه يدين باستمرار التصعيد المستمر واللهجة التحذيرية لـ “حسن نصر الله”.

(2) صراع تركيا واليونان: مثل عام 2020 بؤرة زمنية للتوتر في شرق المتوسط، فقد اشتد الخلاف حينها بين “أنقرة” و “أثينا” حول ترسيم الحدود الإقليمية ببحر “إيجة”، وشكل ذلك خطورة لم يصل لها التصعيد من قبل بين الطرفين، وقد وصل الأمر إلى تهديد الاتحاد الأوروبي بفرض عقوبات على تركيا بسبب سياساتها المتعنتة تجاه اليونان، ودعمت فرنسا بالأخص الجانب اليوناني، بينما اتخذت ألمانيا موقفًا مشابهًا للموقف الأمريكي كحلقة وصل بين الأطراف المتصارعة، من أجل إنهاء ذلك الخلاف المحتدم على الثروات الطبيعية، ويمكن القول أن شعور “أنقرة” بالابتعاد المستمر عن الناتو والاتحاد الأوروبي، كان سببًا رئيسيًا في رغبتها بالتعاون مع روسيا، رغم الخلافات القائمة معها في الملفين السوري والليبي، لاسيما فيما تم حينها من اعتماد على السلاح الروسي وشراء تركيا أنظمة صواريخ “S 400”.

الإطار الدولي ومستقبل الأزمة:
تعد مواقف القوى الكبرى وتفاعلاتها اتجاه مؤثر في تفاعلات الإقليم، وبالأخص عندما يتعلق الأمر بمصالح إستراتيجية لها، أو لأطراف وأهداف مرتبطة بها، وكان لها دورًا هامًا في شرق المتوسط بعد اكتشافات احتياطات الغاز به، ويمكن توضيح ذلك فيما يلي:

(1) الموقفين الأمريكي والغربي: عملت الولايات المتحدة بشكل مستمر على توفير بيئة مستقرة ومواءمة لسياساتها ولحلفائها بشرق المتوسط في ظل بيئة تعمها الاضطرابات وسياسات الأمر الواقع، كما هو الأمر في دعمها لحليفتها “تل أبيب”، من خلال تعزيز الشراكة مع الحلفاء بمجال الطاقة والأمن، أما الاتحاد الأوروبي فقد سعى لتعزيز أمن الطاقة، ويتجه بعد الحرب الروسية – الأوكرانية بالأخص للاعتماد على بدائل لموسكو كمصدر أساسي للغاز الطبيعي، ويمكن القول إن مشروع خط أنابيب شرق المتوسط “إيست ميد”، الذي تم الاتفاق عليه مع اليونان وإسرائيل، يعد خطوة أساسية لتحقيق ذلك، ويقدر طوله بحوالي 2000 كيلو متر، ومن المتوقع أن يتم عبره نقل ما بين 9 إلى 11 مليار متر مكعب من الغاز سنويًا من احتياطات حوض شرق المتوسط من الغاز إلى أوروبا.

(2) الموقف الروسي: عملت “موسكو” أيضًا على تعزيز وجودها بشرق المتوسط، لما قد يهدد مصالحها بالمنطقة مستقبلًا، فعلى الرغم من احتلالها مكانة كبيرة في مجال إنتاج وتصدير الغاز، وعدم أهمية احتياطات شرق المتوسط لها، حافظت على إبقاء نفوذها بالمنطقة بل وتعزيز العلاقات مع الدول المعنية بذلك الغاز.
إجمالًا، يبدو أن الصراع سمة أساسية تحكم تفاعلات القوى المؤثرة بشرق المتوسط، سواء من أطراف الإقليم أو الدول الكبرى، حيث سعت الأطراف المتصارعة باستمرار للهيمنة على الثروات المكتشفة، لاسيما الموقفين التركي واليوناني المتنازعين، إلا أن المسار الطبيعي والمطلوب، يحتم بضرورة العمل على إيجاد المصالح المشتركة والبحث عن الحلول المتفقة مع الأطر القانونية المتفق عليها لترسيم الحدود البحرية، كالمسار الذي سلكته مصر في ترسيم حدودها البحرية مع السعودية عام 2016، ثم اليونان في أغسطس 2020، ومع ليبيا في نهاية العام المنقضي 2022.

بالتالي، يبقى الوضع مثير للترقب باستمرار، ويرسم سيناريوهات عديدة لمستقبل الصراع على الغاز بشرق المتوسط، ومن بين هذه السيناريوهات:
(1) السيناريو الأول: ارتفاع إيقاع الصراعات على الثروات المكتشفة بالمنطقة، وتصعيد النزاع بين الأطرف المتفاعلة، التي تسعى لتحقيق أكبر قدر من المصالح، وإن كان على حساب الأطراف الأخرى، خاصًة في ظل أهمية ذلك المورد عالميًا، والاتجاه نحو التصعيد من قبل، لكن هذا السيناريو وإن كان يبقى ورادًا، فإنه غير ضروري في ظل إدراك كافة الأطراف لما يعنيه الصراع من تعطيل الاستفادة الأمثل من هذه الموارد، بل ووقوع خسائر كبيرة لكل الأطراف المتصارعة.

(2) السيناريو الثاني: الاتجاه بشكل كامل للتفاوض والعمل على ترسيم الحدود البحرية بين كافة الأطراف المتنازعة، لتقاسم المكاسب الاقتصادية وتحقيق المصالح المشتركة بين دول الإقليم، على نفس المسار الذي اتخذته الشراكة المصرية – القبرصية – اليونانية، لكن ما يقف عائقًا أمام هذا التصور، هو سياسات بعض الأطراف التي تعتمد على ما يمكن وصفه بـ “سياسات الأمر الواقع” والتي تسعى لها تركيا وإسرائيل، رغم سعي “أنقرة” مؤخرًا بشكل مستمر لإعادة التقارب مع الأطراف الفاعلة بالمنطقة وعلى رأسها مصر، لكن يجب العمل في ذلك بشكل خاص على إجراء مفاوضات مباشرة بين الجانبين التركي واليوناني.

وفي النهاية، يمكن القول أن غاز شرق المتوسط قد يكون نعمة حقيقية لا نقمة، في حال تم إرساء روح التعاون والعمل الجماعي بين دول المنطقة، فقد يتحقق الاستقرار بها حينئذ، وتتجه لمرحلة ازدهار ورخاء اقتصادي ملموس، إذا نجحت الأطراف المعنية في بناء الثقة المتبادلة فيما بينها، وتمكنت من العمل معًا من أجل تعظيم الإنتاج والاستفادة الأمثل من الاحتياطات المكتشفة من الغاز الطبيعي بالمنطقة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى