الاخبار الرئيسيةمتابعات

من سايكس بيكو إلى حرب غزة .. كل ما تبقى خيار الوهم أو الدم !!

تحليل: أسامة الدليل

هل صحيح ان ما رسمه الغرباء من خرائط في عالمنا العربي لا يملك تغييره سوى.. الغرباء؟ وهل يحتاج العالم العربي في القرن الحادي و العشرين حقا .. إلى إعادة ترسيم للحدود الوطنية التي استقرت في أعقاب الحرب العالمية الاولى .. على نحو ما ذهب إليه بعض الاستراتيجيين في الغرب مطلع هذا القرن؟ و لماذا يتفق الجميع في عالمنا العربي على (كراهية اتفاقية سايكس بيكو) و الاستبسال في ذات الوقت في (الدفاع عما أفضت إليه) من حدود شكلت السيادة الوطنية لبلدان عربية محورية و لا تزال؟.

والأهم .. لماذا لازالت تشكل هذه الاتفاقية الاستعمارية حتى اليوم و بعد مرور 108 سنوات على توقيعها “سرا” .. محورا للصراع “العلني” بين فسطاطين .. القوميين و الاسلامويين و كلاهما يملك الكراهية ذاتها لسايكس بيكو .. فيما يملك كل منهما مشروعا لتحدي سايكس بيكو لم يعد قابلا للتحقق في القرن الجديد (الوحدةالعربية أو الخلافة الاسلامية ) .. كلا المشروعين إما متجاوز للحدود الوطنية و إما منكر لها حد التحريم ..و بدهي انه لا يمكن أن يتحقق أي منهما من دون سفك أنهار من الدماء ؟.

و من المثير ان كثيرا من الكتاب و الباحثين في عالمنا العربي يشير باصبع الاتهام إلى خرائط سايكس بيكو بوصفها الاساس لدول عربية مصطنعة.. رغم ان مطابقة خريطة هذه الاتفاقية بواقع الدول المشار إليها ( و بالذات العراق و سوريا و لبنان) يكشف بجلاء للعين المجردة انه لم ينفذ منها الا النذر اليسير .. فهذه الاتفاقية التي تم ابتكارها في 3 يناير 1916 و تم اعتمادها في الفترة من 9 الى 16 مايو من العام نفسه، تعرضت في ابريل 1920 الى بعض التعديلات فيما عرف باسم مؤتمر سان ريمو و لم تستقر هذه الخرائط الا في عام 1923 فيما يعرف بمعاهدة لوزان ..  الامر الذي يدفع بالكثيرين الى القول بموت خرائط سايكس بيكو .. و الاهم انه ورغم كل شيء وفي كل عام يتجدد السؤال بشأن .. ما الذي تبقى من سايكس بيكو ؟؟؟

تبدوالاجابة على هذا السؤال و كانها إشكالية .. و السبب هو الفخ الذي وقع فيه و لا يزال العديد من المحللين و بالذات في جغرافيا العالم العربي

و الحق أن العديد من الباحثين و الكتاب العرب من كلا الفسطاطين ( القومي و الاسلاموي ) من الذين تناولوا اتفاقية سايكس بيكو كانوا إما أسرى كراهية الاتفاقية ،و إما ضحايا لكتابات الغرب بشأن ملابسات توقيعها تاريخيا وكونها كانت ضرورة لشغل الفراغ الذي كانت تمثله سلطة الرجل المريض في ذلك الوقت ( الدولة العثمانية) في شرق العالم العربي و أرمينيا ، و إما .. ضحايا لتحيزات تتعلق بتناقض منطلقات الاسس الفكرية التي يؤسس عليها كل فريق منهجه في البحث.

لكن المؤكد أن الجميع كان أسيرا للسردية (التاريخية) بشأن هذه الاتفاقية و ان الجميع – و هو المهم هنا – تجاهل تماما الاسس (الجغرافية السياسية) التي انطلقت منها سايكس بيكو و استندت إليها .. هي و ما تلاها من مخططات غربية حديثة في القرن الجديد استهدفت إعادة رسم خرائط المنطقة من خارجها .. و كلها محاولات تستند إلى فكر جيوسياسي ينظر إلى خدمة مصالح القوى الغربية و الحيلولة دون وقوع المنطقة في (نطاقات نفوذ) قوى منافسة لها في الشرق .. تحديدا الصين و الاتحاد الروسي .. بصرف النظر عن مصالح شعوب المنطقة او الاتجاه الذي تتخذه إرادات هذه الشعوب لرسم مستقبلها في القرن الجديد

و بهذا المنطق لا سايكس بيكو من حيث كونها (فعل جيوسياسي) قد انتهت .. و لا هي ماتت (كفكرة) تتعلق بخلق نطاقات نفوذ للغرب في جغرافيا المناطق التي تتسم بالفراغ الاستراتيجي ، و الاهم .. جغرافيا المناطق التي يتنازع سكانها بشأن ( الهوية الوطنية) .. و بالتالي تتعدد وجوه أساس انتماء السكان للجغرافيا في البلد الواحد.. و بهذا المنطق ايضا تكون سايكس بيكو قد وضعت اساسا لمصير المنطقة .. بحيث ان تغيير أو حتى مجرد تعديل هذا المصير .. يتطلب ما ليس أقل من وقوع واقعة تمتد على كامل جغرافيا العالم العربي !!

و إلى ذلك .. يظل الاكثر اهمية لدينا اليوم .. ان هذه الذكرى تأتي هذا العام في ظل صراع خطير ينذر بوقوع واقعة في شمال و شرق العالم العربي يكون من شأنها احلال معادلات إقليمية جديدة في المنطقة ، حيث تحرص القوى الغربية على الا تتسع رقعة الصراع في الحرب الاسرائيلية على قطاع غزة ، و هي الحرب التي اندلعت منذ أكثر من 7 شهور في اعقاب 7 اكتوبر 2003 .. أي بعد أقل من شهر على إظهار رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين ناتنياهو لخارطة إسرائيل الكبرى التي أطلق عليها ( الشرق الاوسط الجديد) علنا أمام الجمعية العامة للامم المتحدة و هي خارطة تناقض تماما خريطة إتفاقية سايكس بيكو .. و هي تلغي حتى وجود الاردن.. و من المثير انه بعد اندلاع الحرب بايام معدودة .. تعهد ناتنياهو علنا بتغيير شكل المنطقة .. في إشارة واضحة لالغاء اي إعتبار لاتفاق سايكس بيكو الذي رسم مصير شرق العالم العربي.

العجيب بالفعل : ان اسرائيل وجدت في عالم ما بعد سايكس بيكو .. أي انها نشأت على أساس خريطتها و تعديلاتها .. وفي الارض الوحيدة التي اصر الطرفان الموقعان عليها في الاصل على ان تكون منطقة تخضع للتدويل ( !!) .. أي ان إسرائيل هي المستفيد الاكبر في المنطقة من هذه الاتفاقية التي سمحت لها بما لم تسمح به للاكراد مثلا .. حتى اليوم ..!!

لم يكن ناتنياهو هو أول من فطن إلى عدم ملائمة سايكس بيكو لمصالح القوى الغربية في القرن الجديد و يالذات في هذه المنطقة من العالم .. سبقه في ذلك رالف بيترز .. المحلل العسكري و العميد السابق بالاستخبارات العسكرية الامريكية و هو يبلغ اليوم من العمر 71 عاما .. الذي نشر في عام 2006 ما يعرف باسم ( حدود الدم .. مقترح لاعادة رسم شرق اوسط جديد) .. و كان اساسا لاهتمام عسكري و استراتيجي واسع .. اذ انه انطلق من قراءة خريطة سايكس بيكو و ما آلت إليه من حدود في العالم العربي وفق مصالح القوى العظمى الاستعمارية القديمة .. و منطلقا من الاحادية القطبية للولايات المتحدة الامريكية برهن على ان هذه الخريطة و ما انتهت إليه لا تخدم مصالح أمريكا في القرن الحادي و العشرين .. و لقد زعم انه اكتشف ما يعرفه القاصي و الداني بشأن أزمة الهويات المتعددة في العالم العربي .. فرسم خارطة جديدة أبرز ملامحها انها أوجدت وطنا قوميا للاكراد ( كردستان الكبرى) يمتد من شمال بغداد الى ارمينيا و يضم إليها شمال شرق سوريا و يقسم العراق إلى 3 دول على اساس اثني و طائفي و يخلق ما يسمى بالاردن الكبرى على حساب شمال السعودية و يمنح اليمن امتدادا يضم اقليم حضرموت و يقتطع من غرب السعودية ايضا دولة (اسلامية مقدسة) اواسط جبال الحجاز بمنفذ بحري يتوسط شرق البحر الاحمر و يخلق الى الجنوب الشرقي من ايران دولة بلوشستان !!

هي سايكس بيكو أخرى و ان كانت هذه المرة تنطلق من أسس عقائدية و إثنية و هي غير قابلة للتطبيق من دون ( فوضى خلاقة) .. يقتتل فيها الكل و يرسم فيها الدم لا سواه مصير الحدود .. و حدود المصير للقرن الجديد !!

و في 2014 كانت داعش تمتلك سايكس بيكو بديلة .. ما يسمى الدولة الاسلامية في العراق و الشام ارادت ان تعود لجغرافيا الاملاك الاصلية للدولة العثمانية .. صاحبة الخلافة الاسلامية حتى 1925 .. و لاسباب تتعلق بتمويل هذه الجماعة متعددة الاعراق و الجنسيات أصلا و التي لا يربط  بين صفوفها قدر كراهية سليكس بيكو و كراهية الاكراد .. اختارت أن تتمركز حول أبار النفط و الغاز لرسم خريطة نفوذ جديدة على اساس الهيمنة على الموارد .. لقد فشل هذا المشروع بجدارة و لكنه انتقل لمناطق اخرى امتدت لشرق و وسط أفريقيا حيث الموارد النفطية و المعادن النادرة في محاولة لرسم خرائط نفوذ ( تحاكي) سايكس بيكو باكثر مما تناقضها !!

حرب غزة كشفت عن ملامح اولية لسايكس بيكو جديدة من يومها الاول .. عندما ارسلت الولايات المتحدة الامريكية حاملتي طائرات للبحر الابيض المتوسط بزعم ردع الاطراف الاقليمية عن التدخل و بالتالي توسيع نطاق الحرب .. لكن – و رغم ان هذه السطور تتم صياغتها وسط اتساع حقيقي لنطاق الحرب امتد من العراق الى اليمن إلى جنوب لبنان و الجولان السوري – الا ان ترتيبات إسرائيل لما بعد هذه الحرب تقف بالفعل عند سايكس بيكو جديدة .. إما خلق دولة فلسطينية جديدة في الجغرافيا تحاصر اسرائيل من الغرب و الجنوب بشقيها ( الضفة و القطاع) و هذا عنده هو الوهم .. و إما خيار الجنرال جيورا إيلاند مستشار الامن القومي الاسرائيلي الاسبق.. و الذي اعاد هندسة المحيط الجغرافي لاسرائيل بضم الضفة الغربية الى الاردن و تهجير سكان غزة إلى سيناء و هو الخيار الظاهر و الضاغط حتى اليوم على الاقليم باسره ما ينذر بحرب جديدة في المنطقة قد تفضي لانخراط اطراف من خارج الاقليم تحول دون الوصول لخرائط جديدة .. و إما من خلال خارطة نتنياهو لاسرائيل الكبرى التي تبتلع الاردن و أجزاء من غرب العراق و سوريا باستثناء حلب و الضفة الشرقية لنهر النيل في مصر بما في ذلك شبه جزيرة سيناء .. و هذا هو خيار الدم لا سواه !!

لقد كان في يد ناتنياهو قبل حرب غزة (سايكس بيكو) أخرى على أساس جيواقتصادي .. كان يرتكن إلى مشروع الممر التجاري من موانيء الهند إلى ميناء حيفا .. و كان هذا الممر سايكس بيكو امريكية على اساس من الجغرافيا الاقتصادية يحقق اهدافا جيوسياسية تنافسية تتعلق بقطع الصلة بين شبه الجزيرة بالكامل و طريق الحرير الصيني .. لكن لم يكن يعيق هذه الخريطة و لا يزال يعيقها .. الا الوصول إلى التطبيع مع المملكة العربية السعودية .. التي اشترطت تعديل خريطة اسرائيل السياسية بإقامة دولة فلسطينية على حدود 4 يونيو 1967 .. ما أفشل هذه ال ( سايكس بيكو) الاقتصادية الجديدة !!

لم تكن سايكس بيكو محض اتفاق بشأن خريطة .. فهي في الاساس مرتكز لفكر جيوسياسي يبحث طيلة الوقت عن ( نطاقات النفوذ) أينما وجد الفراغ الاستراتيجي في العالم و ليس في منطقتنا العربية فحسب .. و لان الامر لم يعد حصريا على بريطانيا و فرنسا .. سيظل هذا الفكر سائدا حتى مع القوى الجديدة الصاعدة .. و لعله ليس سرا ان كتاب الاسس الجبوسياسية للمفكر الروسي الكساندر دوجين .. يحمل خرائط أخطر وقعا من سايكس بيكو .. تعتمد على إعادة رسم حدود تركزات الكتل الجيوثقافية في العالم و اهمها .. العالم العربي !!

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى