وفاة الرئيس الإيراني.. النظام أمام أوضاع داخلية صعبة
تحليل: الباحثة شروق صابر
يطرح حادث مقتل الرئيس الإيراني “إبراهيم رئيسي” المفاجئ تساؤلات حول ما يشكله هذا الحادث من تداعيات على النظام، خاصة وأنه جاء في وقت يشهد فيه الداخل الإيراني أوضاعًا متوترة، فمنذ صعود موجة الاحتجاجات الأخيرة عام 2022 ما زال النظام يعاني من تداعيات هذا الحادث، وتزداد الأصوات الرافضة لسياساته المتشددة وتطالب بإحداث التغيير به. كما أن الحادث جاءت وسط تغيرات كبرى تشهدها إيران في علاقاتها مع محيطها الإقليمي والدولي، بما فيها مستقبل الاتفاق النووي، والتغيرات المحتملة في مستوى التصعيد بينها وبين الغرب بعد الضربات المتبادلة بينها وبين إسرائيل، وما ستعكسه نتائج الانتخابات الأمريكية المقبلة والتي من المرجح أن تأتي بترامب على رأس السلطة، ما يعني استمرار سياسة الضغوط القصوى التي كان قد فرضها على إيران سابقًا. هذا بجانب استمرار موقف إيران الداعم للقضية الفلسطينية والميليشيات التابعة لها في المنطقة، ووقوفها بجانب روسيا في حربها مع أوكرانيا.
أولًا: بديل الرئيس وطبيعة النظام السياسي
أعلنت الجمهورية الإيرانية يوم الاثنين 20 مايو2024، رسميًا وفاة الرئيس إبراهيم رئيسي ووزير الخارجية حسين أمير عبداللهيان ومرافقيهم، في حادث تحطم مروحية كانت تقلهما مع مسؤولين آخرين في منطقة قرب الحدود مع أذربيجان، ووفقًا لذلك كلف المرشد الأعلى “علي خامنئي” يوم 20 مايو، النائب الأول للرئيس “محمد مخبر” بأعمال الرئاسة.
ووفقًا للدستور الإيراني ينبغي على النظام إجراء الانتخابات الرئاسیة فی غضون 50 یومًا، وهو الأمر الذي يشكل تحديًا كبيرًا أمام النظام حيث لم يمر شهور كثيرة على اجراء الانتخابات النيابية، والتي كانت قد كشفت عن تراجع نسبة مشاركة الشعب في العملية الانتخابية.
فقد استكمل الإيرانيون صباح يوم 10 مايو الجاري، الجولة الثانية من الانتخابات التشريعية لإكمال نصاب البرلمان في المناطق، بعد أن نال المرشحون أقل من 20 في المائة في الدورة الأولى التي انتهت كما المتوقع لصالح المحافظين. وجرت الانتخابات وسط منافسة 90 مرشحًا في الجولة الثانية لانتخاب 45 نائبًا في 15 محافظة و22 دائرة انتخابية. وشملت الـ 22 دائرة انتخابية: تبريز، وشبستان، ومايانه، وبارس آباد، وسميرام، ولنجان، وكرج، وطهران، ورامين، وبيرجاند، ومشهد، وعبادان، ورامهرمز، وخوداباندي، وزنجان، وشيراز، ومرودشت، وخرم آباد، وقائمشهر، وملاير، وكرمانشاه، وكونبادكافوس.
إلا أن الانتخابات شهدت إقبالًا ضعيفًا، حيث بلغت نسبة المشاركة في العاصمة طهران 8% فقط. وكانت الجولة الأولى للانتخابات قد سجلت 41 في المائة، في امتناع قياسي من الشعب على مدى 45 عامًا عن التصويت. وتمنح النتيجة، وكذلك نتيجة التصويت السابق في مارس، المتشددين 233 مقعدًا من أصل 290 مقعدًا في البرلمان الإيراني، حيث أظهرت نتائج الجولتين تكريس سيطرة المحافظين المتشددين على مقاعد البرلمان. أما السياسيون الإصلاحيون، فقد منعوا من خوض الانتخابات، كما تم حظر من يدعون إلى إصلاحات جذرية أو إلى التخلي عن النظام الراهن في إيران.
وبذلك كان التيار المحافظ في إيران قد عزز إمساكه بالسلطة التشريعية مع تحقيقه الفوز في انتخابات مجلس الشورى، ومجلس خبراء القيادة الذي يتولى اختيار المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية. وباتت السلطات الثلاث في البلاد، التنفيذية والتشريعية والقضائية، بيد التيار المحافظ المتشدد منذ فوز الرئيس الراحل إبراهيم رئيسي في الانتخابات الرئاسية لعام 2021. فما تداعيات حادث وفاة الرئيس على سياسة النظام الداخلية والخارجية خلال الفترة المقبلة؟ وهل ستؤثر وفاته حقًا على السياسات التي ستتبعها إيران في عدة ملفات أم لا؟.
بالإطلاع على الدستور الإيراني نجد أن المادة 57 تنص على أن: “السلطات الحاكمة في جمهورية إيران الإسلامية هي السلطة التشريعية، والسلطة التنفيذية والسلطة القضائية وهي تمارس صلاحيات بإشراف ولي الأمر المطلق إمام الأمة، وذلك وفقًا للمواد اللاحقة في هذا الدستور، وتعمل هذه السلطات مستقلة عن بعضها البعض”.
ويمكن القول أن هناك أربعة كيانات يقوم عليها هيكل النظام السياسي في إيران. هذه الكيانات هي: (المرشد الأعلى- السلطة التشريعية- السلطة التنفيذية- السلطة القضائية). ووفق طبيعة النظام السياسي الإيراني، وما تضمنه الدستور في الفقرة السابقة، فإن نطاق عمل، وصلاحيات، المرشد يستوعب جميع السلطات الثلاث الأخرى مما يعني أن سلطته تعلو فوق السلطات الثلاث، وهي في الوقت نفسه تحتوي هذه السلطات. فمؤسسة الولي الفقيه تسيطر على السلطة القضائية عبر التعيين، وهي تتضمن عمليًا منصب المرشد الأعلى، ومجلس الخبراء، ومجلس تشخيص مصلحة النظام، ومجلس صيانة الدستور. كما تسيطر المؤسسة على أجهزة أخرى ثقافية وأمنية ودينية، ويتبع للمرشد الأعلى مباشرة هيئات وأجهزة أمنية وعسكرية مثل الجيش والحرس الثوري والاستخبارات، والمجلس الأعلى للأمن القومي، الذي تكون قراراته نافذة إلا بعد مصادقة المرشد عليها.
ورغم تراجع أهمية البرلمان في السياسة الإيرانية في العديد من مواقف، فإن هذا المنصب يحظى بأهمية داخل الدوائر الإيرانية، فبإمكان رئيس البرلمان أن يساهم في تعزيز الأجندات الرئاسية التي يضعها رئيس الدولة أو عرقلتها. فعلى سبيل المثال، لعب علي لاريجاني دورًا في دعم الاتفاق النووي الذي أبرمه الرئيس السابق حسن روحاني عام 2015، في حين تحدى خلفه، محمد باقر قاليباف، روحاني من خلال الترويج لمشروع قانون يفرض على الحكومة اتخاذ خطوات مهمة في المجال النووي إذا لم يتم رفع العقوبات الدولية، وألقى روحاني باللوم على هذا التشريع في عرقلة محاولاته لإعادة إحياء الاتفاق النووي.
فبالرغم من أن الرئيس هو ثاني أعلى مسئول في إيران، إلا أن سلطته قد تم تقليصها من نواح كثيرة من خلال الدستور، الذي يُخضع السلطة التنفيذية بأكملها للمرشد الأعلى والمؤسسات التابعة له، وبالرغم من أن البرلمان، وفقا للدستور الإيراني، يعد المؤسسة المسؤولة الوحيدة للتشريع، لكن نلاحظ أن هذا البرلمان يعمل في الغالب على وضع سياسات تضعف من مكانة البرلمان نفسه وتسلب صلاحياته. فالمرشد الإيراني، وعبر “هندسة الانتخابات” والتغيير الدائم في تشكيلة البرلمان، يفتح المجال لتدخله في السياسات التي سيتخذها البرلمان، وقد تأتي هذه التدخلات من خلال فرمانات رسمية أو من خلال أوامر شفهية وسرية من جانب المرشد أو مجلس صيانة الدستور أو مجلس تشخيص مصلحة النظام أو غيرها من المؤسسات التابعة للمرشد.
من ناحية أخرى، تقف إيران عند مفترق طرق حاسم، حيث يعاني المرشد الأعلى علي خامنئي البالغ من العمر 85 عامًا، من المرض، وقد ظهرت في السنوات الأخيرة تقارير موثوقة تتحدث عن تدهور حالته الصحية. لذا قام النظام بالسيطرة على انتخابات “مجلس خبراء القيادة” الهيئة المعنية بتسمية خليفة المرشد الحالي، حيث قام “مجلس صيانة الدستور”، برفض طلب الرئيس السابق حسن روحاني المحسوب على التيار الإصلاحي خوض الانتخابات.
ثانيًا: الأوضاع الداخلية ومستقبل النظام بعد رئيسي
كشفت نسبة الإقبال الضعيفة على الانتخابات النيابية الأخيرة، مدى تراجع الثقة لدى فئة كبيرة من الشعب تجاه تأثير العملية الانتخابية، وتجاه السلطة وسياساتها، خاصة مع استمرار الصلاحيات الواسعة لمجلس صيانة الدستور، وهو ما استشعره كثير من المسؤولين بمن فيهم المرشد علي خامنئي، وقاموا بحث المواطنين على المشاركة في العملية الانتخابية، ووصف الجولة الثانية بأنها لا تقل أهمية عن الجولة السابقة. فعزوف عدد كبير من المواطنين عن المشاركة في الانتخابات خلق حالة من القلق لدى القيادة في إيران فلطالما اتخذت السلطات الإيرانية نسبة المشاركة مقياسًا لشرعيتها، خاصة وأن ذلك يأتي في أعقاب احتجاجات شعبية واسعة لا تزال إيران تعاني ارتداداتها حتى اليوم. فقد كانت تلك الانتخابات أول مقياس رسمي للرأي العام بعد أن تحولت احتجاجات مناهضة للحكومة في 2022 و2023 إلى سلسلة من أكبر الاضطرابات السياسية منذ ثورة 1979.
كما شكلت الصعوبات الاقتصادية وتدهور مستويات المعيشة وانتشار الكسب غير المشروع تحديًا آخر أمام ثقة الشعب في النظام برمته، فأعدادًا كبيرة من الإيرانيين فقدوا الثقة في قدرة الحكام الحاليين على حل الأزمة الاقتصادية الناجمة عن مزيج من العقوبات الأميركية وسوء الإدارة والفساد.
لذا سيواجه النظام الإيراني خلال الأيام المقبلة تحديات كبيرة حول اختيار الشخصيات البديلة لرئيسي، وإمكانية قيام الانتخابات الرئاسية في وقتها المحدد وحشد الشعب للإدلاء بصوته بها، في ظل تخوفات الشعب من أن الشخصية الجديدة ستقوم كذلك بفرض القيود الثقافية والاجتماعية وتقييد الأمور المتعلقة بالحريات الشخصية.
وقد تلقي العملية الانتخابية إقبالًا ضعيفًا من قبل الشعب، فإذا كان من وجهة نظر عدد كبير من الشعب داخل إيران إن نواب البرلمان بلا تأثير في المشهد السياسي، وإن نتيجة الانتخابات البرلمانية في لا تسهم في التلاعب بعملية التشريع فحسب، وإنما تضاعف من “أزمة القانون” في البلد، وبعد أن يفقد القانون فحواه يتحول إلى أداة تتناقض مع القانون والهروب من تنفيذه. وهو الأمر الذي دفعهم للعزوف عن الانتخابات. فإن تلك النسبة من الشعب ترى أيضًا أن منصب الرئيس يعد منصب صوري ليس إلا وإن المرشد الأعلى هو الذي يتحكم في زمام الأمور ما يدفعهم أيضًا إلى عدم الاهتمام بالانتخابات الرئاسية المقبلة.
في النهاية، يمكن القول إنه بالرغم من سيطرة التيار المتشدد على مفاصل الحكم داخل إيران، للدرجة التي يصفه بها الشعب بأنه لم يعد يبالي بقاطعة الجمهور للانتخابات، وأن ما يهمه البقاء في السلطة لأطول فترة ممكنة. إلا أن تلك السيطرة قد تؤتي بنتائج مخالفة لتلك الأمنيات بعد وفاة رئيسي، حيث أصبح التيار أمام تحد كبير، إذ ستكون خياراته محدودة لتحسين صورته أمام الفئة الغاضبة من الشعب، وإلا فإن عجزه عن ذلك قد ينعكس سلبًا على المشاركة الشعبية في الانتخابات المقبلة.