مقالات

الشرق الأوسط في الاستراتيجية الأمريكية

بقلم د. محمد حسين أبوالحسن – وثيقة استراتيجية الأمن القومي” التي أعلنتها إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن مؤخرا، تطرح سؤالا يحوم كالشبح في سماء الشرق الأوسط: هل بدأ انحسار حضور واشنطن في المنطقة؟ وهل بدأت فعلا تدير ظهرها لشركائها التقليديين فيها؟. سؤال لا يحظى بإجابات شافية، وتوابع شاخصة على حاضر الشرق الأوسط ومستقبلها. لقد فشل المشروع الأمريكي لتغيير المنطقة، منذ أحداث 11 سبتمبر 2001، قاومه خصوم واشنطن وحلفاؤها على السواء؛ على نحو ما أظهره الفرار الأمريكي من أفغانستان.


أرجع بعض الخبراء تدني أهمية الشرق الأوسط، في “الوثيقة” لأول مرة منذ انتهاء الحرب الباردة، إلى تراجع خطر الإرهاب، قياسا إلى صعود الصين بوصفه مشكلة وجودية لأمريكا التي تفتح أعينها على التطورات في المحيطين الهادي والهندي، الإقليم الذي يتصدر أولوياتها الاستراتيجية، تليه أوروبا، أمريكا اللاتينية، ثم الشرق الأوسط وأفريقيا. هذا لا يترك أي شك في أن الإدارة الأمريكية ترى المحيط الهادي/ الهندي مركز الصراع الدولي، فيه يُرسم مستقبل العالم، وهي تبصر بقية الأقاليم من منظور هذا الصراع ومدى ارتباطها به.

تتشدد واشنطن في تقييد الحضور الصيني سياسيا واقتصاديا وعسكريا وتقنيا، بالعمل على تنمية علاقاتها الإقليمية على حساب بكين. يمتد هذا النمط إلى رؤية الوثيقة للشرق الأوسط، تحدد ثلاثة أهداف رئيسة بالمنطقة: تحقيق التكامل الأمني الإقليمي، ومكافحة التهديدات الإرهابية، وضمان التدفق الحر للتجارة العالمية. لا تنكر استراتيجية الأمن القومي أن النهج الأمريكي تجاه المنطقة اعتمد في السابق على تغيير الأنظمة بالقوة، وهي سياسات لم تعد صالحة، وتدعو بدلا من ذلك إلى بناء شراكات ودعم جهود أنظمة المنطقة لتحقيق الاستقرار، لافتة إلى أن واشنطن ستواصل دورها في ضمان أمن شركائها من التهديدات الإقليمية والدولية، بالإضافة إلى منع إيران من تطوير أسلحة نووية، بالدبلوماسية أو بغيرها، مع التركيز على منع عودة تنظيم داعش.

في ضوء الوثيقة، يمكن استخلاص نتيجة مباشرة، أن الولايات المتحدة وضعت إطارا جديدا لسياستها في الشرق الأوسط استبدلت بمخططات الهيمنة، ولو مؤقتا، خطوات تعاونية براجماتية؛ لصدّ التغلغل الصيني أو الروسي بالمنطقة، تستند إلى قدرتهاعلى بناء التحالفات لتعزيز الردع، مع تهدئة التوترات لمنع انفجارها؛ بحثا عن استقرار طويل الأمد بالمنطقة. وتوضح الوثيقة أن واشنطن ستدعم حلفاءها؛ ليتمكنوا من الدفاع عن أنفسهم ضد التهديدات، وأنها لن تسمح بتعريض الملاحة عبر ممرات الشرق الأوسط للخطر، مع بناء روابط سياسية واقتصادية وأمنية فيما بين شركاء أمريكا أنفسهم، من خلال هياكل دفاع جوي وبحري متكاملة، واحترام سيادة كل دولة وخياراتها، ولم تنس الوثيقة الإشارة إلى تعزيز حقوق الإنسان. ذلك يحمل في طياته رغبة أمريكية لدفع التطبيع بين العرب، لاسيما الخليج، وإسرائيل وفق أولويتي الأمن والاقتصاد والترويج لحل الدولتين؛ حفاظا على مستقبل إسرائيل كدولة يهودية ومداعبة أحلام الفلسطينيين في دولة قابلة للحياة.

من السابق لأوانه تحديد مدى الانحسار الأمريكي في الشرق الأوسط، لا يزال الأمر محل نقاش وخلاف، في الدوائر الأمريكية ذاتها، بعضهم لا يرى تغييرا حقيقيا في عقيدة بايدن أو ترامب أو أوباما تجاه المنطقة، زيت قديم في زجاجات جديدة، قبل عقد من الزمان برزت الحاجة لتحويل موارد القوة الأمريكية إلى آسيا؛ نظرا للظروف الجيوستراتيجية المتغيرة؛ من أجل كبح القوة الصينية المتمددة، في ظل انخفاض الاعتماد الأمريكي على نفط الشرق الأوسط، بل ذهب بعضهم في اتجاه مغاير لوثيقة استراتيجية الأمن القومي؛ بالنظر إلى أهمّية المنطقة في ازدهار أمريكا وأمنها؛ اقترانا بأمن أوروبا وإسرائيل، وتأثيرها في أسعار النفط وموقعها الحيوي قرب الصين؛ كما أعادت الحرب في أوكرانيا إلى الواجهة أهمية الشرق الأوسط لاقتصاد العالم واستقراره؛ سافر بايدن إلى السعودية وعقد ثلاث قمم، من أجل تجديد العلاقة مع دول المنطقة وتعزيز الشراكة الإستراتيجية مع الحلفاء القدامى، على الدرب نفسه سار الرئيس الصيني شي جين بينج، بينما لم تهدأ اتصالات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بزعماء المنطقة، لتنسيق المواقف في أسواق النفط والغاز والحبوب.

إن الجدل حول رغبة الولايات المتحدة أو قدرتها على الاحتفاظ بإمبراطوريتها العالمية لا يبرر مخاوف بعض العرب من تراجع التزام أمريكا تجاههم؛ لا يمكن لواشنطن مغادرة المنطقة لاعتبارات نفطية وإستراتيجية وإيديولوجية وصعود اليمين المتطرف، وبرغم تآكل مصداقيتها، فإن أمريكا قد تخسر بعض المعارك بالشرق الأوسط، لكن يصعب أن تخسر الحرب، حتى الآن لا أحد يستطيع هزيمة الامبراطورية الأمريكية، لكنها مهددة بهزيمة نفسها ومن داخلها، وهي تحاول بلورة استراتيجية خروج من منطقتنا العامرة بالثروات، دون أن تفقد السيطرة عليها؛ لن تتركها فراغا تملؤه بكين وموسكو، وهذا له معنى واحد أن الشرق الأوسط مرشح بقوة أن يكون ساحة استقطاب بين الكبار، عواقبه وخيمة، ما لم تأخذ دول المنطقة الزمام بأيديها، وتعيد تشكيل قواعد اللعبة، قبل أن تقع الفأس في الرأس.

إن صراع الأقطاب بين الأمريكيين والصينيين وغيرهم، على الأرض العربية، خطر داهم، أشبه باستبداد (سلطة سامة)، تحول البشر إلى مُلحق لأهدافها، تعرقل فرادتهم الإنسانية واستقلالهم المنير، قد تعطيهم الطعام والشراب، ولا تسمح لهم بأن يكونوا ذواتهم، تجعلهم مجرد أدوات وأشياء، في مسعى للهيمنة يولد الدمار للجميع. ربما تكون (عقيدة أو مبدأ بايدن) فرصة للعرب لإعادة النظر في سياساتهم الراهنة، المشكلة الأساسية هي اعتمادهم على أطراف خارجية؛ لتأمين وجودهم ومصالحهم، وعندما يغيّر هؤلاء سياساتهم يشعر العرب بالضياع، الخبر الجيد أن (بعض العرب) وعى الأمر، وبدأ يدرك أن مستقبل المنطقة مرهون بتحرير شعوبها من الأوهام الزائفة أو العقبات المتخيلة؛ فالحل لم يكن أبدا في نقل البندقية من الكتف الأمريكية إلى الصينية أو العكس، بل في الاعتماد على الذات؛ فما أكثر أوراق القوة والمناورة بأيدي القوم لو كانوا يبصرون، قبل أن تصبح بلادهم ساحة لصراع عالمي طاحن، لا ناقة لهم فيه ولا جمل!.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى