الأمن القومى العربى وإعادة ترتيب الشرق الاوسط
تحليل فتحى محمود – كل الشواهد تؤكد على ان الصراع على إقليم الشرق الأوسط يتصاعد سواء من جانب القوى الدولية مثل الولايات المتحدة الصين روسيا، أو من جانب القوى الإقليمية وخاصة إيران وتركيا وإسرائيل، مما يشير إلى أننا امام مرحلة جديدة للمنطقة، تتضمن ترتيبات محددة وتحالفات مختلفة وأولويات قد تشكل مفاجأة للبعض، والسؤال الذى يطرح نفسه: ما موقع العرب من هذه الترتيبات وهم فى قلبها، هل سيشاركون فيها كدول منفردة أم بشكل جماعى، وما هو موقع جامعة الدول العربية من هذه الترتيبات، وما هو تأثيرها على الأمن القومى العربى، بل وما هو مفهوم الأمن القومى العربى الآن؟!
الإجابة على هذه التساؤلات تبدأ من محاولة التعرف على مفهوم الأمن القومى العربى الآن، فعلى مدى سنوات طويلة ارتبط هذا المفهوم فى أذهان الجميع بالصراع العربي- الإسرائيلى وقضية فلسطين، فماذا سيكون الأمر عندما يجمع العرب وإسرائيل منظومة أمنية واحدة؟
الحقيقة أن مصطلح الأمن القومى العربى منذ بداية استخدامه فى الأدبيات السياسية مصطلح غامض، ولم يتضمنه ميثاق جامعة الدول العربية عند تأسيسها، وتحدثت المادة السادسة من الميثاق فقط عن حق أى دولة من الدول الأعضاء فى طلب عقد جلسة عاجلة لمجلس الجامعة إذا تعرضت للاعتداء أو تخشى وقوع اعتداء عليها، ويقرر المجلس التدابير اللازمة لدفع هذا الاعتداء.
ورغم استخدام معظم القادة العرب بعد ذلك مصطلح الأمن القومى العربى وشيوعه لعقود طويلة مرتبطا بالصراع العربى الإسرائيلي، إلا أن المرة الأولى والوحيدة التى حاولت فيها الدول العربية الوصول إلى مفهوم محدد لهذا المصطلح كانت فى مارس عام 1990 عندما قرر مجلس الجامعة تكليف الأمانة العامة بإعداد دراسة عن موضوع الأمن القومى العربى، وعرضها على الدول الأعضاء لدراستها من قبل مجلس الجامعة فى دورته العادية المقبلة، وتقدمت الأمانة العامة للجامعة بورقة عمل للقمة العربية التى عقدت فى بغداد فى 28 مايو 1990 تحت عنوان (الأمن القومى العربى .. عرض للتهديدات والتحديات) حددت مفهوم الأمن القومى العربى بأنه (قدرة الأمة العربية على الدفاع عن أمنها وحقوقها وصيانة استقلالها وسيادتها على أراضيها، وتنمية القدرات والإمكانيات العربية فى مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية، مستندة إلى القدرة العسكرية والدبلوماسية، آخذة فى الاعتبار الاحتياجات الأمنية الوطنية لكل دولة، والإمكانات المتاحة، والمتغيرات الداخلية والإقليمية والدولية، والتى تؤثر على الأمن القومى العربي).
ودخلت المنطقة العربية بعدها فى دوامة الغزو العراقى للكويت وما ترتب عليه من تداعيات وانقسامات وتدخلات أجنبية مباشرة، مما دعا الجامعة العربية إلى إعادة مناقشة موضوع الأمن القومى العربى فى دورة سبتمبر 1992، وكلفت الأمانة العامة بإعداد دراسة شاملة عنه خلال فترة لا تتجاوز ستة أشهر تعرض بعدها على مجلس الجامعة، لكن هذه الدراسة لم تعرض على مجلس الجامعة حتى الآن.
ومنذ 1992 وحتى اليوم شهدت منطقة الشرق الأوسط وفى قلبها الدول العربية تطورات متسارعة غيرت من أوضاع كثيرة ومفاهيم أكثر، فلم يعد الصراع العربى الإسرائيلى هو محور الأمن القومى العربى، وهناك مواقف متباينة للدول العربية من سبل التعامل مع هذا الموضوع وغيره من التحديات الحالية التى تواجه المنطقة، فالمغرب على سبيل المثال يعتبر إسرائيل حليفا استراتيجيا، بينما جارته الجزائر تعتبر إسرائيل عدوا أساسيا، وبينما تعتبر معظم دول الخليج إيران عدوا يتهددها، تسيطر طهران بشكل أو بآخر على مقاليد القرار فى دول عربية أخرى، ووصلت التدخلات الإقليمية والدولية فى شئون بعض الدول العربية إلى حد السيطرة الكاملة فى ظل عجز جامعة الدول العربية عن حماية الأمن القومى القطرى لأعضائها.
الواقع يقول اننا امام 22 دولة عربية لكل منها مصالحها وتوجهاتها وتحالفاتها وأهدافها الخاصة، التى قد تتناقض مع بعضها البعض، وحتى فكرة تشكيل قوة عربية مشتركة لصيانة الأمن القومى العربى التى طرحت عام 2015 فشلت بسبب الخلافات العربية العربية، رغم أن المادة الثانية من البروتوكول تنص على أن المشاركة اختيارية، وأن هدفها مواجهة التهديدات والتحديات بما فى ذلك تهديدات التنظيمات الإرهابية، والتى تمس أمن وسلامة واستقرار أى من الدول الأطراف وتشكل تهديدا مباشرا للأمن القومى العربي.
إن القمة العربية التى تمثل رأس هرم العمل العربى المشترك ستعقد خلال شهر مايو المقبل في السعودية، وقد عقدت العام الماضى في الجزائر بعد طول غياب حيث لم تنعقد قبلها منذ مارس 2019، وتأجلت اجتماعاتها خلال عامى 2020 و2021 ،والسبب المعلن كان أزمة كورونا، بينما يعلم الكثيرون أن أسبابا سياسية وخلافات بينية حالت دون انعقاد القمة عام 2021 ولو عبر الفيديو كونفرانس، ورغم الزخم الذى صاحب انعقاد قمة الجزائر العام الماضى، إلا أن مخرجاتها العملية لم تحقق أي هدف مما جاء في البيان الختامي (اعلان الجزائر) حتى الآن، فهذا البيان جاء تقليديا في معظم بنوده على غرار البنود الثابتة في جميع بيانات القمم العربية، مثل التأكيد على مركزية القضية الفلسطينية والدعم المطلق لحقوق الشعب الفلسطيني غير القابلة للتصرف، بما فيها حقه في الحرية وتقرير المصير وتجسيد دولة فلسطين المستقلة كاملة السيادة على خطوط 4 حزيران 1967، وعاصمتها القدس الشرقية، وحق العودة والتعويض للاجئين الفلسطينيين وفقا لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 194 لعام 1948، والتمسك بمبادرة السلام العربية لعام 2002 بكافة عناصرها وأولوياتها ،والالتزام بالسلام العادل والشامل كخيار استراتيجي لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي لكافة الأراضي العربية، بما فيها الجولان السوري ومزارع شبعا وتلال كفر شوبا اللبنانية، وحل الصراع العربي-الإسرائيلي على أساس مبدأ الأرض مقابل السلام والقانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية ذات الصلة.
ولكننا نلاحظ أن جهود الجزائر على هامش القمة في سبيل توحيد الصف الفلسطيني والتي افضت إلى توقيع الفصائل الفلسطينية على (إعلان الجزائر) في أكتوبر الماضى، لم تصل إلى أى نتيجة فكل الخطوات التي تم الاتفاق عليها في هذا الإعلان من جانب الفلسطينيين لم يتم تنفيذها حتى الآن، كما أن ماجاء في البيان الختامي للقمة من العمل على تعزيز العمل العربي المشترك لحماية الأمن القومي العربي بمفهومه الشامل وبكل أبعاده السياسية والاقتصادية والغذائية والطاقوية والمائية والبيئية، والمساهمة في حل وإنهاء الأزمات التي تمر بها بعض الدول العربية، لم يتحقق أيضا على أرض الواقع.
ورغم أن البيان الختامي تضمن رفض التدخلات الخارجية بجميع أشكالها في الشؤون الداخلية للدول العربية والتمسك بمبدأ الحلول العربية للمشاكل العربية عبر تقوية دور جامعة الدول العربية في الوقاية من الأزمات وحلها بالطرق السلمية، والعمل على تعزيز العلاقات العربية العربية، إلأ أن هذه التدخلات مازالت مستمرة خاصة من جانب تركيا وايران في سوريا والعراق واليمن وغيرها.
فهل تعدد الإرادات العربية السياسية المختلفة وتباين المصالح والتوجهات والأهداف الآن يجعلنا بحاجة إلى صياغة مفهوم جديد للأمن القومى العربى، أو البدء بإعادة ترتيب البيت العربى ليكون قادرا على مواجهة المتغيرات الجديدة فى الشرق الأوسط بشكل جماعى، وهل يمكن تجاوز تباين المصالح بين الدول العربية المختلفة، والوصول إلى حد أدنى من التعاون يحافظ على المصالح المشتركة الباقية إذا كان هناك خلاف بين المحللين السياسيين على الدور الذى يمكن أن تلعبه الحرب الروسية الأوكرانية فى الإسراع بصياغة نظام عالمى جديد، بديلا للنظام الحالى الذى نتج عن الحرب العالمية الثانية، فإن تلك الحرب التى مازالت مستعرة أدت بالفعل إلى الإسراع بالبحث عن نظام إقليمى جديد فى الشرق الأوسط، أو بمعنى أدق إعادة تنظيم هذه المنطقة التى تمثل أهمية جيواستراتيجية كبرى فى العالم، وتعانى أزمات تاريخية وصراعات قديمة جديدة وتدخلات من كل القوى الكبرى ومحاولات هيمنة إقليمية ودولية.
وإذا كانت نتائج الحرب العالمية الثانية هى التى شكلت النظام العالمى الحالى، فإن نتائج الحرب العالمية الأولى شكلت وجه الشرق الأوسط الحالى بعد اكتماله بتأسيس دولة إسرائيل، عندما توافقت بريطانيا وفرنسا فى مايو 1916 وبدعم من روسيا القيصرية على تقاسم مناطق نفوذ رجل أوروبا المريض المعروف باسم الدولة العثمانية من خلال اتفاقية سرية اشتهرت لاحقا باسم (سايكس ـ بيكو) نسبة إلى الدبلوماسيين اللذين مثلا لندن وباريس فى التوقيع عليها، وسرعان ماتم تعديل حدود مناطق النفوذ المقسمة فى المنطقة عبر اتفاقية (سان ريمو) فى أبريل 1920، بعد سقوط روسيا القيصرية باندلاع الثورة البلشفية، وتأكيد عصبة الأمم أوضاع الانتداب الفرنسى والبريطانى على الدول العربية المقسمة بينهما، وبدء نشاط الحركة الصهيونية للعمل على إقامة وطن قومى لليهود فى فلسطين. بينما يؤكد الدكتور عبدالوهاب المسيرى فى موسوعته (اليهود واليهودية والصهيونية)، أن الهدف من سايكس- بيكو كان بالأساس توطين اليهود فى فلسطين، إذ ارتبط الآباء المؤسسون للحركة الصهيونية، وعلى رأسهم ليونيل والتر روتشيلد، بالمصالح الرأسمالية الإمبريالية البريطانية والفرنسية، التى كانت تريد توسيع رقعة نفوذها فى الشرق، وكانت تفكر بحماس شديد فى التركة التى سيتركها رجل أوروبا المريض (الدولة العثمانية). والحقيقة أن الصراع العربى الإسرائيلى وتفرعاته اصبح عبر عقود طويلة المحرك الرئيسى للأحداث فى منطقة الشرق الأوسط، والمحدد لتوجهات وسياسات دول المنطقة، حربا وسلما،
حتى اقتنع العرب بصعوبة استعادة الأراضى العربية المحتلة بالقوة العسكرية فى ظل تبنى القوى العظمى وعلى رأسها الولايات المتحدة لدولة إسرائيل، فجاءت مبادرة السلام العربية فى قمة بيروت العربية عام 2002 لتطرح حلا عمليا بانسحاب إسرائيل إلى حدود ماقبل 5 يونيو 1967 والسماح بإقامة دولة فلسطينية محتلة، مقابل السلام الشامل بين الدول العربية وإسرائيل ومعاملتها كدولة جارة وليست عدوا. لكن فشل العرب فى تسويق مبادرتهم وحشد قواهم الشاملة خلفها، أدى إلى رفض إسرائيل لها حتى أصبحت تلك المبادرة جزءا من الماضى، ومع ظهور تناقضات عديدة بين الدول العربية وبعضها البعض وصل إلى حد الاحتراب بأشكاله المختلفة، وسعى بعض الدول العربية إلى إسقاط أنظمة دول عربية أخرى بشكل مباشر أو غير مباشر، واستغلال قوى إقليمية لحالة الضعف والانقسام العربى بالسعى لفرض هيمنتها على المنطقة وخلق مواقع نفوذ لها داخل دول عربية، تبدلت أولويات الأمن القومى العربى وتداخلت المصالح فى الشرق الأوسط لتصنع واقعا جديدا وتحالفات مختلفة.
لم تكن الحرب الروسية الأوكرانية سوى أداة ضغط جديدة لإعادة ترتيب منطقة الشرق الأوسط سبقتها محاولات عديدة، فقد سبق أن أطلقت إدارة الرئيس الأمريكى جورج دبليو بوش مصطلح الشرق الأوسط الكبير، على منطقة واسعة تضم كامل الدول العربية إضافة إلى تركيا، وإسرائيل، وإيران، وباكستان وأفغانستان فى إطار مشروع شامل يسعى إلى تشجيع الإصلاح السياسى والاقتصادى والاجتماعى، حسب تعبيرها، فى المنطقة، وأعلنت عن نص المشروع فى مارس 2004 .
وطورت وزيرة الخارجية الامريكية كونداليزا رايس (صاحبة نظرية الفوضى الخلاقة) الفكرة بشكل أكثر تحديدا عبر مشروع الشرق الأوسط الجديد الذى طرحته عام 2006، الذى استهدف تغيير شكل المنطقة وتوجهاتها بأساليب متعددة منها الحروب العسكرية أو التحالفات الاقتصادية أو إسقاط بعض الأنظمة وصولا إلى ما سمى الربيع العربى، لكن معظم هذه الأهداف لم تتحقق، رغم استمرار السعى إليها عبر تفجير أزمات متعددة فى المنطقة سواء فى ليبيا بعد تدخل الناتو بشكل مباشر لإسقاط نظام القذافى أو بدعم المعارضة المسلحة فى سوريا، وانتهزت قوى إقليمية عديدة مثل إيران وتركيا الفرصة لمحاولة فرض هيمنتها على بعض دول المنطقة سواء بالاحتلال المباشر لمناطق عربية أو التدخل عبر أذرع محلية. وفى كل الأحوال فإن القمة المرتقبة ليست الحل السحرى للم الشمل العربى، ولكنها قد تكون خطوة مهمة على الطريق، فالعمل العربى المشترك من خلال مؤسسات الجامعة العربية يشهد تراجعا كبيرا فى السنوات الأخيرة فى ظل أزمات كبيرة تضرب المنطقة العربية فى اليمن وسوريا وليبيا والعراق مع تراجع الاهتمام بالقضية الفلسطينية، وتزايد حجم التدخلات الإقليمية والدولية فى الشئون الداخلية للدول العربية وصل إلى حد الاعتداء المباشر على أراض عربية والسيطرة على مقدرات البعض، ومشروعات الهيمنة التى بدأت تظهر بشكل واضح وتهدد مستقبل الدولة الوطنية فى بعض البلدان العربية.
ولعل كل تلك الأزمات وتباين المصالح بين الدول العربية وعدم وجود مفهوم محدد للأمن القومى العربى، وغياب أهداف عربية متفق عليها وفق خطة عمل محددة، وتغليب الرؤى الخاصة على الأهداف العامة، كانت الدافع وراء ظهور تكتلات عربية تعمل معا بمعزل عن الجامعة العربية لتحقيق المصالح المشتركة والتى قد تتضارب مع مصالح دول عربية أخرى، وانكفاء بعض الدول على نفسها وابتعادها عن كثير من الأنشطة العربية تحسبا من الدخول فى صراعات جديدة، وكل ذلك يتطلب جهدا مكثفا لتطوير الجامعة العربية وإعادة فاعليتها لتكون بوتقة العمل العربى المشترك، مع استيعاب كافة المكونات العرقية والأثنية الموجودة في المنطقة مثل الكرد والأمازيغ وغيرهما في إطار نظم ديمقراطية تساوى في الحقوق والواجبات بين الجميع، وتحترم هوية كل مكون.