مقالات

هل يلغى الذكاء الاصطناعى العمالة البشرية

تحليل مايكل سترين .. كان التقدم الكبير المفاجئ الذي طرأ على الذكاء الاصطناعي مؤخرا مُـبهِـرا للعالَـم أجمع. ولكن الآن، يستجيب بعض الأشخاص البارزين وذوي المكانة المتميزة بمطالب مضللة لسحب مكابح الطوارئ.

تلقت رسالة مفتوحة تدعو «كل مختبرات الذكاء الاصطناعي إلى التوقف فورا لمدة ستة أشهر على الأقل عن تدريب أنظمة الذكاء الاصطناعي» آلاف التوقيعات، بما في ذلك توقيعات رموز التكنولوجيا من أمثال إيلون ماسك وستيف وزنياك، وعدد كبير من رؤساء الشركات التنفيذيين، وكبار الباحثين. مؤخرا سألت شبكة CBS News جيفري هينتون، وهو أحد رواد أساليب «التعلم العميق» التي استندت إليها التطورات الأخيرة، عن احتمال تسبب الذكاء الاصطناعي في «محو البشرية». كما هي الحال دوما، يخشى كثيرون من المعلقين أن يتسبب الذكاء الاصطناعي في إلغاء الحاجة إلى العاملين من البشر. وقد وجد استطلاع أجرته شركة Ipsos في عام 2022 أن نحو ثلث الأمريكيين فقط يعتقدون أن المنتجات والخدمات القائمة على الذكاء الاصطناعي تقدم من الفوائد أكثر مما تقدمه من العيوب والنقائص. يؤكد أولئك الذين يطالبون بوقف مؤقت أن «الذكاء الاصطناعي التوليدي» يختلف عن أي شيء عرفناه من قبل.

الواقع أن روبوت الذكاء الاصطناعي المفتوح ChatGPT متقدم إلى الحد الذي يجعله قادرا على التحدث بشكل مقنع مع البشر، وإعداد مسودات للمقالات بشكل أفضل من كثير من الطلاب الجامعيين، وكتابة وتصحيح أكواد الكمبيوتر. مؤخرا، وجدت صحيفة فاينانشال تايمز أن الروبوت ( ChatGPT إلى جانب Bard، وهو روبوت الدردشة التجريبي الذي أنتجته شركة جوجل) يمكنه أن يروي نـكتة بشكل مقبول على الأقل، ويختار بين الأسهم الواعدة، ويتخيل محادثة بين شي جين بينج وفلاديمير بوتين. من المفهوم أن تثير تكنولوجيا جديدة تتمتع بمثل هذه القوى الهائلة المخاوف. لكن قسما كبيرا من هذه المحنة يأتي في غير محله.

يميل منتقدو الذكاء الاصطناعي في الوقت الحالي إلى التقليل من شأن وتيرة التغير التكنولوجي الذي تعيشه الاقتصادات المتقدمة بالفعل. في سبعينات القرن العشرين، كان تشغيل العمالة في الولايات المتحدة مقسما بالتساوي تقريبا بين المهن المختلفة، حيث كانت الوظائف التي تتطلب مهارات منخفضة، ومهارات متوسطة، ومهارات عالية تمثل على التوالي 31%، و38%، و30% من إجمالي ساعات العمل الفعلية. بعد مرور نصف قرن من الزمن، سجل تشغيل العمال من ذوي المهارات المتوسطة هبوطا مذهلا بلغ 15 نقطة مئوية. كان هذا التغير راجعا إلى حد كبير إلى التقدم التكنولوجي الذي سمح للروبوتات والبرمجيات بأداء مهام كان يتولاها في السابق عمال التصنيع والموظفون الكتابيون. وكان تفريغ الطبقة المتوسطة واحدا من أكثر التطورات الاقتصادية أهمية في الذاكرة الحية. فقد تسبب في تحويل وجه الحياة في «حزام الصدأ» وفي المكاتب بمختلف أنحاء البلاد، مع تأثيرات عميقة خلفها على المجتمع الأمريكي والسياسة الأمريكية. الواقع أن حتى أحدث التكنولوجيات ليست جديدة كما تبدو. كانت روبوتات الدردشة وبرامج المساعدة الافتراضية شائعة قبل أن يستحوذ روبوت الدردشة ChatGPT على العناوين الرئيسية. برغم أن وظائف مثل مُـساعِـد خدمة العملاء عبر الإنترنت في البنوك وإكمال الكلمات تلقائيا في هاتفك من غير الممكن أن تجتاز اختبار تورينج، فإنها تستخدم معالجة اللغة الطبيعية لمحاولة التحدث معك، تماما كما يفعل روبوت الدردشة ChatGPT. الواقع أن أطفالي يحاولون التحدث إلى المساعد الذكي الافتراضي أليكسا من إنتاج شركة أمازون بذات الطريقة التي يتحدثون بها مع البشر.

أولئك الذين يساورهم القلق إزاء الذكاء الاصطناعي إلى الحد الذي يجعلهم يدعون إلى الضغط على المكابح يبالغون في الأرجح في تقدير السرعة التي قد يغير بها الاقتصاد. بقدر ما قد يكون روبوت الدردشة ChatGPT مبهرا، فإنه كثيرا ما يُـخطئ. عندما أدخلت طلب البحث «رجاء، أخبرني عن بعض المقالات التي كتبها مايكل سترين عن الاقتصاد»، جاءني الرد حاملا خمسة مقالات. بدا الأمر معقولا، لكني لم أكتب أيا منها. في المستشفيات، وشركات المحاماة، والصحف، ومراكز الـفِـكر، والجامعات، والهيئات الحكومية، وعديد من المؤسسات الأخرى، لن تكون مثل هذه الأخطاء مقبولة أبدا.

سوف تكون سرعة التحول أيضا محدودة بسبب الحواجز داخل الشركات. يُـخبرني المحامون بأنهم لا يريدون أن تستخدم شركاتهم هذه التكنولوجيات لأنهم من غير الممكن أن يخاطروا بنشر معلومات سرية على الإنترنت. وسوف يصدق ذات الأمر، على سبيل المثال، على المستشفيات وبيانات المرضى. فسوف يُـنشئ مقدمو الذكاء الاصطناعي حلولا للمؤسسات. ولكن إذا لم يكن من الممكن تدريب أحد حلول الذكاء الاصطناعي على استخدام بيانات من شركات أخرى في الصناعة ذاتها، فهل يكون قويا ومفيدا كما يقترح المتفائلون؟

وفي الأغلب الأعم، يستغرق الأمر وقتا أطول مما يتصور الناس لكي تجد الشركات طرقا لتوظيف التكنولوجيات الجديدة في استخدام مُـنـتِـج. تدعو الرسالة المفتوحة إلى توقف مؤقت لمدة ستة أشهر للسماح لصناع السياسات والهيئات التنظيمية باللحاق بالركب. لكن الهيئات التنظيمية تمارس دوما لعبة الملاحقة، وإذا كانت أكبر المخاوف بشأن الذكاء الاصطناعي مبررة حقا، فإن التوقف المؤقت لمدة ستة أشهر لن يكون مفيدا بدرجة ملموسة. علاوة على ذلك، إذا كانت هذه المخاوف مُـضَـخَّـمة حقا، فقد يتسبب التوقف المؤقت في إحداث ضرر دائم من خلال تقويض قدرة الولايات المتحدة التنافسية أو ترك المجال لقوى أقل احتراما للمسؤولية. تزعم الرسالة أنه «في حال تعذر استنان التوقف المؤقت تشريعيا بسرعة، فيجب أن تتدخل الحكومات لفرض التعليق».

ولكن هل من الممكن إجبار الصين على الامتثال لمثل هذا الأمر؟ بطبيعة الحال، قد ترغب الحكومات في بعض الأوقات في وقف تطور التكنولوجيا. لكن هذا لا ينطبق على وقتنا الحاضر. يجب أن تركز الضوابط التنظيمية على كيفية استخدام الذكاء الاصطناعي، وليس ما إذا كان من الممكن أن يستمر في التطور. بمجرد أن تتقدم التكنولوجيا، يصبح من الأوضح كيف ينبغي لنا تنظيمها. ولكن هل من المحتمل حقا أن يتسبب الذكاء الاصطناعي في «محو البشرية»؟ الاحتمال ضئيل في اعتقادي. لكن الذكاء الاصطناعي التوليدي لن يكون أول تكنولوجيا تنطوي على مثل هذا الخطر.

إذا كان دُعاة الهلاك محقين في أي شيء، فهو أن الذكاء الاصطناعي لديه القدرة على التأثير على قطاعات ضخمة من الاقتصاد ــ مثل الكهرباء والمحرك البخاري من قبلها. لن أتفاجأ إذا أصبح الذكاء الاصطناعي على ذات القدر من أهمية الهاتف الذكي أو متصفح الويب، مع كل ما يترتب على ذلك من تأثير على العمال، والمستهلكين، ونماذج العمل القائمة. لا تتمثل الاستجابة الصحيحة للارتباك الاقتصادي في إيقاف عقارب الساعة. بل ينبغي لصناع السياسات أن يركزوا على إيجاد الطرق لزيادة المشاركة في الحياة الاقتصادية. هل يكون من الممكن توظيف إعانات الدعم بشكل أفضل لجعل العمل أكثر جاذبية من الناحية المالية بين الأشخاص الذين لا يحملون شهادات جامعية؟ هل تستطيع الكليات المجتمعية وبرامج التدريب بناء المهارات التي تسمح للعاملين باستخدام الذكاء الاصطناعي لزيادة إنتاجيتهم؟ ما هي السياسات والمؤسسات التي تحول دون تعظيم المشاركة الاقتصادية؟ ينبغي لنا أن نتذكر أن التدمير الـخَـلّاق لا يدمر فحسب. فهو يخلق أيضا، وغالبا بطرق قوية وغير متوقعة. سوف تخيم غيوم عاصفة على مستقبلنا مع الذكاء الاصطناعي. ولكن في مجمل الأمر، سيكون ذلك المستقبل مُـشـرِقا.
☆ مايكل سترين مدير دراسات السياسة الاقتصادية في معهد أمريكان إنتربرايز
خدمة بروجيكت سنديكيت

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى