إعادة الهيكلة: تزايد العمليات الإرهابية لتنظيم “داعش” بالشرق الأوسط
تحليل محمد سالم .. تتوالى العمليات التي يقوم بتنفيذها تنظيم الدولة الإرهابي “داعش”، والتي يسعى من خلالها لإعادة هيكلته، ونفي ما ورد منذ عام 2019 حول هزيمته بشكل نهائي، فعلى الرغم من تدميره عسكرياً في “الباغوز” آخر معاقله السورية، على أيدي قوات سوريا الديمقراطية “قسد”، لم تستقر الأوضاع بسوريا أو العراق ، مما منح التنظيم فرصة للنهوض مرة أخرى، وتجديد نشاطاته وإجراء التكتيكات المطلوبة لإعادته من جديد، في ظل ظروف ملائمة لذلك بالشرق الأوسط.
ويكثف “داعش” ظهوره بعملياته المتتالية مؤخرًا، ففي مساء الخميس 10 أغسطس الجاري نفذ التنظيم هجومًا إرهابيًا مروعًا يُعد الأعنف خلال عام 2023، باستهداف حافلة عسكرية تابعة للجيش العربي السوري على طريق دير الزور، باستخدام أسلحة خفيفة ومتوسطة، مما أدى إلى مقتل 23 جنديًا وإصابة أكثر من 10 آخرين وفقًا للمرصد السوري لحقوق الإنسان، وقد ارتفع عدد القتلى بعد يومين إلى 33 جنديًا سوريًا، كما قام داعش العام الماضى بهجوم كبير على سجن الحسكة ممادى إلى مصرع 150 من حراس السجن التابعين لقوات سوريا الديمقراطية، فعلى الرغم من الجهود الدولية التي نجحت سابقًا في القضاء على التنظيم، إلا أن التغيرات الإقليمية الأخيرة سمحت للتنظيم بإعادة نشاطه، حيث تتمركز خلاياه بالمناطق المنكوبة في سوريا، ومنطقة البادية السورية الممتدة بين محافظات حمص ووسط سوريا ودير الذور بالقرب من حدود العراق .
تأسيسًا على ما سبق، يسعى هذا التحليل إلى بحث التحولات التي سمحت بنشاط التنظيم مجددًا، على الرغم من استمرار ملاحقته من كافة القوى الدولية والإقليمية، بعد القضاء على ما كان يطلق عليه “الدولة الإسلامية” أو “دولة الخلافة” في عام 2019، بالإضافة إلى محاولة رصد الجهود المبذولة لمواجهة هذا النشاط المتجدد، وأخيرًا طرح السيناريوهات المتوقعة في إطار هذه المقدمات.
عودة جديدة :
تعد هذه المرة الثانية التي يعود فيها التنظيم إلى تنفيذ عمليات إرهابية خطيرة بسوريا والعراق، بعد فترة من الاختفاء والتخطيط، حيث يمكن القول أن العودة الأولى له كانت في عام 2020، عندما استغل “داعش” تداعيات فيروس كورونا “كوفيد 19″، وبدأ في تنفيذ عملياته الإجرامية، وفقًا لإستراتيجية “حرب العصابات”، التي اتبعها في ذلك التوقيت، لكن مع استمرار مكافحة التنظيم عبر التنسيق السوري – الروسي بالأخص حينها،
واستمرار التحالف الدولي وقوات سوريا الديمقراطية مكافحة خلايا داعش، عاد التنظيم للهدوء مرة أخرى، إلا أن هذه المرة تختلف الظروف التي يمر بها التنظيم ذاته، والتي يمر بها الإقليم وتفاعلاته، فقد باتت البيئة مناسبة لانتهاز “داعش” الفرصة، وتتطلب مواجهته عودة التنسيق بين الخصوم المتنافسة في سوريا بالأخص، فمن جهة أخرى تزايدت هجمات التنظيم بالعراق، التى اشتدت منذ بداية عام 2021، وقد باتت العمليات الإرهابية تهدد مصادر الطاقة هناك، بما يشكل خطرًا على البنية التحتية لـ “بغداد”.
ويعتمد التنظيم على أسلوب “حرب العصابات”، لكونه الإستراتيجية الأمثل عبر عمليات سريعة وضاغطة، والتي تقوم بها غالبًا “الذئاب المنفردة” المنتمية له، وقد استغل “داعش” الأزمات الأخيرة كجائحة “كورونا” والحرب الأوكرانية، وأخيرًا الزلزال المدمر الذي ضرب الأراضي السورية، في شن عملياته الإرهابية، أثناء انشغال الدولة والقوى الفاعلة في سوريا بمواجهة تداعيات هذه الأزمة.
وقد أثبت التنظيم مخاطر سيناريو عودته من جديد، خاصًة مع تراجع مكافحة الإرهاب من أجندة أهداف القوى الفاعلة بسوريا، وانهماكها بالتنافس والحفاظ على نفوذها، ويبدو أن هذه البيئة التي يمر بها الوضع السوري، قد تسمح في المستقبل القريب للتنظيم بالانتشار من جديد، لاسيما أن “داعش” أكثر الأطراف التي استطاعت التكيف مع هذه البيئة، بالتالي من المتوقع أن تستمر نشاطاته الإرهابية، سواء في سوريا، أو بالدول التي تنتشر فيها فروعه الأخرى.
ركائز النشاط المتجدد :
لا تخفى الأنباء حول عودة خلايا “داعش” لتنفيذ مخططات إرهابية عديدة، أودت بحياة الكثير من الأرواح بسوريا والعراق، وأثرت على البنية التحتية للبلدين، فقد تزايد هجوم التنظيم بشكل كبير خلال العامين الأخيرين، فقد قام بتنفيذ عمليات واسعة وذات درجة عالية من العنف، وأخطرها الهجوم المفاجئ الذي نفذته خلايا “داعش” على سجن “غويران” شمال شرقي سوريا والهجوم الأخير على حافلة الجنود السوريين بطريق “دير الزور”، ولم يكن لهذه العمليات الإرهابية أن تنشط من جديد إلا كنتيجة طبيعية للقصور الكبير في إستراتيجية مواجهتها بعد عام 2019، الأمر الذي نتج عنه توافر الكثير من العوامل التي أدت إلى هذا النشاط، والتي من أهمها :
() توافر البيئة الجغرافية المناسبة للتخفي: حيث تتسم مناطق البادية التي يتحرك بها التنظيم بتضاريس تسمح باختباء العناصر الإرهابية وتخفيها، لاسيما الجبال والوديان والكهوف الجيرية الطبيعية كثيفة العمق، إضافًة للأوضاع الجوية التي تزيل آثار تحركاتهم بسرعة، مما يسمح بمرونة لتحركات التنظيم بمثل هذه المناطق، واتخاذ هذه النطاقات الصحراوية الواسعة أوكارًا له، وأكسبه القدرة على المناورة خلال السنوات الماضية. () عدم التنسيق بين القوى الدولية المختلفة في سوريا: لقد فشلت جميع المحاولات التي قام بها الجيش السوري للقضاء على جيوب التنظيم الإرهابي “داعش”، لعدم التنسيق حتى مع الميليشيات الحليفة له، وانشغال كل جانب من الحلفاء أو حتى تركيا والولايات المتحدة بتأمين نفوذه الخاص، كما أن القوات الروسية لم تشارك في هذه الهجمات بالصورة المطلوبة، مما أدى لعدم توافر الغطاء الجوي لتلك الهجمات، في ظل إتاحة قدرة أكبر لدى التنظيم على المناورة في المناطق الصحراوية التي اتخذها ملاذًا له.
() توافر البيئة الدولية المواتية لظهور الإرهاب: فتستمر حالات المنافسة والعمليات العسكرية التي تلوح بها أو تنفذها تركيا بشمال شرق سوريا، حيث يُحتجز آلاف عناصر التنظيم بسجون قسد ، كما تنتشر المعسكرات التي تضم أسرهم، مثل مخيم “الهول”، بما يهدد الأمن العالمي ويسمح بالتحركات الإرهابية بمرونة أكبر، نتيجة انشغال هذه القوى في مواجهة بعضها البعض، كما قد ينتج عن ذلك نجاح محاولة “داعش” في تحرير عناصره من الأسرى بسجن “غويران”، الذي فشلت عملية الهجوم عليه بالعام الماضي 2022، فيبدو أن التنظيم قد تمكن من إعادة التقاط أنفاسه والوقوف مرة أخرى بشكل أكبر، مع انشغال قوات سوريا الديمقراطية بصد الهجمات التركية العدائية. () ضعف القدرة العسكرية المواجهة للتنظيم: يرجع ذلك إلى العديد من الأسباب المرتبطة بالتنافس بين القوى الدولية المسيطرة بسوريا، بالإضافة إلى سحب “موسكو” أغلب قواتها من سوريا، نظرًا للحاجة إلى حشد هذه القوات بحربها على أوكرانيا، الأمر الذي أدى لإحداث فراغًا أمنيًا بسوريا.
() قدرة التنظيم على توفير التمويل اللازم: مازال “داعش” قادرًا على الحصول على التمويل، حيث يسيطر التنظيم الإرهابي على العديد من المناطق الغنية بالنفط والغاز بإفريقيا، وتشير التقارير أيضًا إلى أن “داعش” يجني ملايين الدولارات شهريًا عن طريق فرض الإتاوات على المستثمرين بحقول النفط في شمال شرق سوريا، والمصانع بالعراق، كما أن هناك تدفقات مالية أخرى إلى المخيمات التي تضم مقاتلي “داعش” وعائلاتهم . سيناريوهات العودة: لقد أدى تنظيم الدولة الإرهابي جهدًا مكثفًا خلال الفترة الأخيرة، من أجل عملية الانبعاث من جديد، عبر تنفيذه الكثير من العمليات العنيفة، ذلك الخطر الذل يُشكل تهديدًا حقيقيًا لسوريا والعراق بشكل خاص، والشرق الأوسط والمجتمع الدولي بشكل عام، فعلى الرغم من فقد التنظيم معظم قادته الذين لقوا مصرعهم أو تم اعتقالهم بسوريا والعراق، بالإضافة إلى النكبات التي تعرض لها على أثر فقد السيطرة على الموارد والمدن السكنية، لم يفقد “داعش” إصراره تجاه هدف العودة من جديد، في هذا الإطار يمكن وضع تصورات رئيسية في مسار التنظيم بالمستقبل القريب، وفي ظل الظروف الآنية، وهي: () استمرار اعتماد إستراتيجية “حرب العصابات”: يفرض هذا السيناريو استمرار الأسلوب الذي يتبعه التنظيم منذ عام 2020، دون اتخاذ خطوات جادة نحو العودة مرة أخرى، أو تحسبًا لما ستتخذه القوى الفاعلة بسوريا لمواجهة التنظيم، لكن “داعش” يطمع في استعادة سيطرته ونفوذه بقوة أكبر مما سبق، في ظل الظروف السانحة له بذلك، فقد استغل التنظيم العديد من الأوضاع المتدهورة للتموضع من جديد وتنفيذ عمليات عديدة في سوريا بالأخص.
() العودة والانتشار من جديد “دولة الخلافة”: في هذه المرة لا يبدو أن “دا عش” 2019 وما قبله مثل ما هو عليه الآن، فتمتلك خلايا التنظيم حاليًا عقليات أشد تطرفًا، وهم جيل بُني على أسس الفكر الإرهابي، ومن المؤكد أن الخطر “الداعشي” سيزداد في حال استمرار الشرق الأوسط على حالة فقد الاستقرار التي يمر بها، وبالأخص في ظل تنافس القوى الفاعلة بسوريا، وتقاعس المجتمع الدولي بأكمله عن المساهمة الفعالة لمواجهة مخاطر التنظيم، حيث لم تتمكن الدول التي يعيش العديد من رعاياها بمخيمات “الهول” وغيرها أو حتى بالسجون الكردية، من تقديم الحلول المناسبة، أو تقبل إعادتهم إليها ومعالجة مخاطر هذه المجموعات، مما حولها إلى “قنبلة موقوتة” تنذر بالانفجار وعودة التنظيم الإرهابي من جديد. () التدهور والتراجع لتكتيك التخفي: يعتمد هذا على مدى قدرة القوى الفاعلة في سوريا للتخطيط من أجل مواجهة التنظيم الإرهابي، لاسيما نجاح التقارب السوري – التركي المزعوم، والتوصل إلى تفاهم أيضًا مع “قسد”، دون وقوع أي هجوم تركي على شمال شرقي سوريا، حيث تعتبر قوات سوريا الديمقراطية أهم عنصر في مقاومة “داعش” ومخاطره، كما يتطلب هذا السيناريو العمل على تجفيف مصادر التمويل التي يستفيد منها التنظيم، والتنسيق أيضًا مع العراق للقضاء على الخطر “الداعشي” بشكل كامل، وضمان عدم تهريب عناصر “داعش” إلى العراق عبر المعابر المعتادة، فالتنسيق الدولي هو ما سيقضي على الإرهاب من جذوره، ويسمح كذلك بحل مشاكل السجون والمخيمات التي تضم مقاتلي التنظيم وأسرهم، كما يجب العمل على إنهاء الفكر المتطرف، بنشر الفكر المعتدل، حيث يُعد هذا هو الأساس الذي بُني عليه التنظيم، ونشأ خلفه الجيل الجديد منه .
إجمالًا، يبدو أنه رغم هزيمة “داعش” ميدانيًا، مازالت خلاياه تمتلك الموارد اللازمة لمواصلة أنشطتها الإرهابية، عن طريق المباغتة وحرب العصابات، دون قدرة حقيقية على احتلال المدن، وقد يعود ذلك إلى تقلص أ عداد المقاتلين عما كان عليه عام 2014، لكن من جهة أخرى مازال الخطر “الداعشي” يخيم في سوريا والعراق، ولا يقابله تنسيقًا دوليًا يستطيع إنهاءه، كما يستغل التنظيم حالات الصراع بين القوى الفاعلة بسوريا مما يمده بالفرص، لاسيما العمليات العسكرية التركية في سوريا والعراق أيضًا، بالإضافة إلى استمرار مخاطر المخيمات والسجون، كما يستغل الكوارث الطبيعية كالزلزال الأخير، وانشغال الحكومات به، من أجل تعزيز عملياته الإجرامية، في ظل عدم إبداء المجتمع الدولي رغبة حقيقية في إعادة المحتجزين من مقاتلي “داعش” أو حتى أسرهم الذين يعيشون في المخيمات إلى دولهم على الأقل.
ويمكن القول أن التنظيم لم ينتهي حتى اليوم، وقد بدأ في التعافي، مما ينذر بضرورة العمل الجماعي من أجل إلحاق “داعش” بالهزيمة مرة أخرى، والقضاء على تهديدات العودة الإرهابية من جذورها، وبطبيعة الحال يجب العمل بجدية على تجفيف مصادر تمويل التنظيم الإرهابي، الذي مازال يمتلك أمولًا طائلة.